«كبش الفداء» هو لدى المسلمين «ذبح عظيم» فدية لابن حليم رزق به الله أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهو لدى اليهود ذلك الكبش الذي تلقاه الكاهن الأعلى يوم الغفران فوضع يده عليه ليتقبل اعترافات الناس بذنوبهم ثم أرسله إلى البرية رمزا للغفران من الخطيئة... وحديثا، درج استعمال مكثف لتعبير «كبش الفداء» لدى الساسة والعامة للدلالة على الشخص الذي يدفع ثمن خطايا غيره، وهي دلالة، وإن كانت للتشبيه، فهي، كما توحي به، حولت فداء الإنسان بكبش إلى فدية الإنسان بالإنسان، بما يتعارض مع الأخلاق والشرائع السماوية...
لكني هنا أروم النظر لـ»كبش الفداء» من خلال واقع الحال الذي حوله إلى «شؤون وشجون» أخرى من منظور ما نخصه به من استنفار للجيب والمعدة،فضلا عن سهر الليالي للبحث في «دليلك المفيد لشراء كبش العيد» استعدادا لـ»طلب يده»،ومن ثم تخصيص الوقت اللازم لاقتنائه بعناية فائقة ثم تدبر أمر إيوائه وإطعامه وتنظيف أماكن فضلاته ومجاراة الصغار في فرحتهم العارمة به وهم يخصونه بجميل الحظوة بدء بتمتيعه بما عز عليهم من أشيائهم الصغيرة اللذيذة إلى إكسائه حلة من الزينة تليق به ضيفا مبجلا لا يفارقونه إلا اضطرارا،قبل فراقه المحتوم في موعد معلوم ذبحا فنفخا فسلخا فتقطيعا...
«كبش العيد» حكايته معنا مشوقة،فهو-أساسا- فدية لجهودنا البطولية في سبيل الظفر به،ولذلك لا نراه إلا وليمة شواء مترفة نستحضر لمهابتها فنونا من المهارات المستجيبة لتقاليد الأذواق بعد أن نكون ادخرنا منه الرأس والأحشاء والأمعاء لفنون أخرى من شهي الأطباق التي استطاع الكثير من الرجال المعاصرين حذق طقوس إعدادها وطبخها نقلا عن أمهاتهم الماهرات في كل «اللمات والملمات»،وهو ما تستنكف من إتيانه زوجاتهم أو الكثيرات منهن الناعمات في هذا الزمن الذي يتنامى فيه دلال المرأة وتهافتها على ضروب أخرى من المهارات كان العديد منها حكرا على الجنس الخشن الذي شجعها على رغباتها الجديدة من منطلق الخبير المجرب،وصار لا يحرمها إلا من حقها في ذبح كبش العيد...
شغلني كبش عيد الأضحى الذي غدا هو عيده،فهل من معنى لعيد أضحى دون كبش نفديه بمالنا وجهدنا فيفدينا بلحمه؟..امتنعت عن الاهتمام بغيره من أحداث كبُر شأنها أو صغر وأوليت جديده كل ملكة فهم،ورحت،متلهفا،أتصيد ما فعله وقارُه بالناس من فرض لحالة استنفار قصوى حتمت حركة سوق نشيطة ومضاربات وحيل تنم عن كفاءة مشهود بها في علوم التسويق في أسواق تقليدية وأخرى حديثة وثالثة من المنتج أو السمسار أو السارق إلى المستهلك...وكان على الجميع أن يشكروا فضل الكبش عليهم أن أجهز على إيقاع حياتهم الرتيبة وبدد الكساد الذي طال أنشطتهم فتفتقت مواهبهم طلبا للربح والرزق،وضخوا في شرايين الاقتصاد دما جديدا حيوانيا،فتجاوز الكبشُ رمزيته إلى وليمة باذخة تقيم دليلا قاطعا على زواج موفق بين «الأصالة والمعاصرة» في محافظتها على التقاليد المعتقة،من جهة،وأخذها بتقنيات الحداثة الخلاقة،من جهة أخرى:فهذه الورشات التقليدية والعصرية تتفنن في إنتاج المواقد والمشاوي فتزدهر سوقها وكذلك شأن المقاصل والسكاكين والحبال والفحم والمشروبات والغلال والخضر والزيت وخبز العيد المخصوص الذي يليق بعرس البطن المزواجة...لقد تفتقت مواهب الصناعيين والفلاحين والباعة على إبداعات راقية إنتاجا وعرضا تغازل جيب المستهلك وتغريه،ووجدت أن الكبش شكل حدثا بارزا وفرصة ثمينة وموسما متميزا للانشغال به والاشتغال عليه لدى الجميع دون استثناء أغنياء وفقراء ولصوص،وقصابين وبياطرة وأطباء ورجال دين وإفتاء ومنظمات دفاع عن الأجير والمستهلك وساسة ومسؤولين وإعلاميين...الجميع يدلون بدلوهم تبركا بكبش العيد و»نطحه الشديد» أو شحذا للسكاكين في رحاب طقوسه التي تستدعي-على حد تعبير كاتب مغربي- أن «تكون ناطحا أو منطوحا»،متسائلا:»ما ذنب الكبش المسكين إن وجد نفسه كل عيد بين ناطح لا يرحم ومنطوح مُصر على اقتنائه مهما كلف الثمن؟؟»
لست أروم التنغيص عتابا على المستمتعين في عيد الأضحى بما ضحوا من أجله ليُضحوا به فداء للمال الذي أنفقوه وللجهد الذي بذلوه وللوقت الذي ضيعوه وللمعدة التي حرروها من عقال التحذير والخوف من المصير...ذلك أن افتراس الكبش الأقرن الخالي من العيوب أو ما لا يشابهه مما يُخشى عليه من مخالب قط جائع،هو استثناء يحدث مرة في السنة.
بل إني أقر،مكفرا عن خطاياي.أن كبش العيد كدت أقول «عيد الكبش»- أمتعتني أنباؤه المتدفقة سخية وأنا أهتم بها تقليدا جديدا أضفته لعاداتي،فاستطاع أن يُلهيَني عن شغفي القديم بالاستسلام لما تقذفني به وسائل الإعلام من بشاعة المشاهد المروعة التي تدمي القلوب وتُسكن الهم والغم والاكتئاب في النفوس،والتي أضحى فيها الإنسان هو «كبش الفداء»،والحال أن العناية الإلهية أرادت للكبش أن يكون فداء للإنسان المستخلف في الأرض المكرم بالعقل...الإنسان لا يكون قربانا،وهو لا يُذبح ولا ينتحر لأية غاية مهما سمت حتى إن كان يُراد بها التقرب إلى الله وطاعته.
غمرني شعور بالبهجة والغبطة وأنا أتلقى أخبار «رمز الفداء» صانع الحدث وقد برعت في نقلها إلينا الصحف والإذاعات والفضائيات والمدونات والرسائل الإلكترونية ومواقع الشبكات الاجتماعية،منها ما يضحكنا ويسلينا،ومنها ما يثير دهشتنا،ومنها ما يَعْمر قلوبنا بالإيمان،ومنها ما يُحذرنا من المهالك...أقف على خيال مبدع خلاق يتغنى بالكبش ويتغزل به ويُجسمه واقفا بوقار واضعا على عينيه نظارات شمسية ومحيطا رقبته بربطة عنق أو مزركشا بألوان هذا الفريق الرياضي أو ذاك أو لابسا لزي جندي مهاب...وشدني «ريبورتاج»صراع الأكباش في بلد عربي شقيق وفي آخر استنفار رجال الدرك والأمن لحماية «كبش الفداء» من اللصوص الذين لا يُعدمون حيلة في سبيل السطو عليه،كما استظرفت تنظيم مسابقة لأجمل كبش واندهشت لاضطرار مواطن عربي إلى بيع حاسوبه الشخصي العزيز عليه من أجل الاستجابة لغرام سيدة البيت والصغار ب»بعبعة» مؤنسة في عيد الأضحى،لكن دهشتي سرعان ما تبددت وأنا أطالع لكاتب يمني قوله:»...فجأة قررت أن أتبنى شعارا ثوريا «الكبش أو الموت» على غرار «الوحدة أو الموت»، وبدأت أكرس كل جهدي لان أكون عند مستوى هذا الشعار!.»
وكل عيد يفديكم الكبش بحياته على وقع التهاني الإلكترونية المسلية صورة ولحنا وكلمة.
التعليقات (0)