قبل 2011 كانت السنوات تتشابه علينا، فلا نكاد نتذكر سنة بعينها، و ظل أرشيف ذكرياتنا يحمل باستمرار صورا متشابهة تتغير فيها بعض ملامحنا، لكنها تستنسخ نفس الواقع و نفس الطباع و نفس الأفكار. و كنا مع نهاية كل عام و حلول عام جديد نتطلع إلى غد أفضل، لكن العام يمضي و قد تراكمت مآسينا و تفاقمت أوضاعنا حتى صرنا نخاف من الآتي لأن التجارب علمتنا أن يومنا هو خير من غدنا على أي حال. لذلك عشنا على الرتابة و الصور المكررة ذاتها... غير أن ما حملته السنة التي ودعناها لتونا كان مختلفا بكل المقاييس. هي سنة ستظل راسخة في الأذهان لأنها ستصبح في كتب التاريخ عنوانا لمحطة تفصل بين ما قبل وما بعد 2011.
قبل 2011 إذن، لم يكن أشد المتفائلين في هذا المجال الجغرافي الممتد من المحيط إلى الخليج ينتظر أو يأمل خيرا في المستقبل، و إن ظلت لغة الأماني متداولة على أوسع نطاق. لذلك يمكن القول أن 2011 سنة من كوكب آخر. فإذا كانت حركية التاريخ و منطقه يفرضان سيرا للأحداث في اتجاه محدد يقوم على التراكم و التجاوز، فإن السنة المنقضية شكلت قطيعة حقيقية مع منطق التاريخ هذا. أو لنقل (على الأقل) مع المنتظرات التي تتأسس عادة على الإنطلاق من واقع الحال لقراءة الطالع. هي سنة استثنائية لأن شرطي التراكم و التجاوز اللذين يحددان منطق التاريخ لم يكتملا في مشهد موسم الثورات و حراك الشعوب الذي طبع هذه السنة منذ بدايتها إلى نهايتها. فقد علمنا التاريخ أن الثورات الكبرى عادة ما تتأسس على رؤية فكرية واضحة. و ذلك ما ينطبق على الثورة الفرنسية مثلا. و هي التي شكلت حتى الآن نموذجا لإرادة الشعوب في التغيير و تحدي الطغيان. لكن نجاح هذه الثورة في بناء ثقافة جديدة تنتصر لقيم الديموقراطية و حقوق الإنسان، لم يكن ليتحقق لولا توفر الإطار الفكري الذي مهد لهذا التغيير في ذلك الوقت. فقد كانت فرنسا حينها و معها أجزاء أخرى من أوربا تعيش ثورة من نوع آخر ضد "الجهل المقدس" الذي كانت ترعاه الكنيسة و يكرسه النظام الإقطاعي. و بالعودة إلى ثورات 2011 في شمال إفريقيا و الشرق الأوسط يتضح غياب هذا الشرط الفكري المؤسس للحراك الشعبي الواعي و المسؤول. فقد كانت حركة البوعزيزي أشبه بقطرة ماء تحولت إلى فيضان أو طوفان. هي شعلة قبس من نار تضخمت بدون سابق إنذار فانتقلت بسرعة متناهية من مكان إلى آخر لتحرق معها أنظمة سياسية ظلت دائما تتفنن في احتقار شعوبها و تركيعها بالترغيب و الترهيب... أحرق البوعزيزي نفسه احتجاجا، لكن النار التي قتلته تحولت إلى رمز للعزة و الكرامة و رفض الظلم. و هكذا عشنا سنة ملحمية في مسلسل متعدد الحلقات تهاوت خلالها أصنام النظام السياسي " العربي"، و مازالت إمكانية مشاهدة المزيد من الحلقات واردة بقوة.
هكذا غاب الشرط الفكري عن حراك 2011. لذلك لم يخطر على بال أي أحد أن تنتهي الأحوال في المنطقة إلى ما آلت إليه الآن. و لذلك أيضا كنا نسمع حكام الدول التي انتقلت إليه عدوى الثورة يرددون كل مرة بأن : مصر ليست تونس، وليبيا ليست مصر، و سوريا ليست ليبيا... لكن هدير الشعوب كان أقوى من بطش الأنظمة. و هو ما يعني أن الوعي الذي غاب في بداية الحراك تحقق مع المضي قدما في استنساخ الثورات. هو وعي متأخر، لكنه ضروري حتى لا يتسرب الملل أو الخوف إلى النفوس و تتوقف المعركة في منتصف الطريق. غير أن أهم ما في الأمر بعد انقضاء سنة 2011 هو التفكير في ما بعدها أكثر مما سبقها. ذلك أن ما حدث هو بالفعل تاريخ جديد يكتب للمنطقة و شعوبها. فهل تحققت أسباب التجاوز؟ هل يمكن لهذا التاريخ الجديد أن يؤسس لقطيعة حقيقية مع الماضي؟. تلك هي الأسئلة الحقيقية التي ينبغي التصدي لها. إذ لا يكفي أن ينجح شعب ما في إسقاط رئيس نصب نفسه وصيا على البلاد و العباد دون حسيب أو رقيب. لا يكفي أن يتغير الأشخاص. المهم أن تتغير الأحوال. نعم لقد نجحت الثورات في تونس و مصر و ليبيا و اليمن في إزالة عقبات مهمة في الطريق نحو التطلع إلى المستقبل. لكن المؤكد أن هروب أو خلع أو قتل الرؤساء لا يعني نهاية للنظام. لقد سقطت واجهة النظام أما عمقه فما زال غائرا و غرفه المظلمة مازالت تبسط حلكة سوادها على الواقع في كل تفاصيله. و من تم فإن التحدي الصعب أمام شعوب المنطقة الآن يكمن في تحويل موضة الثورة إلى استراتيجية للعمل و التخلص من قيود الماضوية و الخوف و التشبث بقيم الحرية و الديموقراطية. أما أن تتحول مكتسبات الثورة إلى غنائم يتقاسمها الرابحون، و تصبح الديموقراطية مطية يتم استغلالها لبناء ديكتاتوريات جديدة تستعمل الدين في فرض إرادتها تحت مسمى :" الشعب يريد..."، فذلك يحمل تهديدا حقيقيا لمستقبل هذه الشعوب و تضحياتها و هدرا لدماء كل الذين سقطوا سهوا أو عنوة في ربيع الحراك الشعبي الذي عرفته المنطقة.
سيتذكر التاريخ بكثير من التفصيل كل الأحداث التي عرفتها سنة 2011. لذلك فإن الحديث عن هذه السنة بصيغة المنعطف أو القطيعة لا يمكن أن يستقيم إلا إذا تم التأهل عمليا إلى واقع جديد تتحكم فيه عقليات جديدة. و سيكون للأجيال القادمة كامل الحق في محاسبة جيل الثورة، لأن المستقبل يمر من هنا، فإما تغيير جذري عميق يؤسس للديموقراطية في أسمى تجلياتها، أو تغيير في العناوين و استمرار لنفس المتن. و هذا هو التخوف الحقيقي الذي تفرضه الملامح الأولية التي تعبر عنها الوقائع في هذه المرحلة على الأقل. محمد مغوتي.02/01/2012.
التعليقات (0)