كاميرا وليد الزريبي
عبد الوهاب الملوح
مرة قال جان لوك غودار البلجيكي الأصل :
’’ إني أدعو من يأتي لمشاهدة أفلامي إلى الإنصات لصوري السينمائية’ فالصورة وزاوية التقاطها وأسلوب تقطيعها وتقنية تحميضها من أولويات هذا المخرج ذي النزعة الحداثية التي تسلك مقاربة تجريبية في الفن؛ الصورة بالنسبة له هي الجسر الواصل بينه وبين المتفرج الذي لا يجب أن يقع في فخ إغواءاتها فيستمتع بمشاهدتها فقط دون الولوج إلى عمق دلالاتها وما تقوله وما تلفظه وعليه أن يقرأها كرسالة مشفرة والأمر نفسه بالنسبة لوليد الزريبي الذي سيدفع القارئ إلى الإصغاء لإيقاع صوره الشعرية ؛ فالصورة الشعرية في مجموعة ’’ ليه يا بنفسج’’ ليست ثابتة غير إنها ليست متكررة ؛ ليست سطحية ولكنها ليست مركبة شديدة التعقيد ؛ ليست تجريدية وهي ليست مباشرة تحاكي الواقع .
يعيب بعض منتقدي قصيدة النثر ممن يرفضونها كشعر ؛ يعيبون عليها نزولها بالشعر إلى الشارع دون أن تحاكيه أو تعكسه وهذا وجه من وجوه خصائص قصيدة النثر ؛ هي نوع أدبي ينزل إلى الواقع ينصت إليه يلتحم به ؛ يحفر فيه يفككه ومن ثمَّة يعيد تركيبه وفق صياغة شعرية تتسم بوعي جمالي مغاير ورؤيا ثقافية عميقة في فهمها لما يحدث ؛جدلية في أفكارها جريئة في مقارباتها ؛ ثرية متنوعة في أدواتها . يخلع وليد الزريبي عن الشاعر صفة النبوة واليقينية و ينزع عنه القلنسوة الدالة على القداسة ؛ يُخرجه من قمقم الجن ويعود به من وادي عبقر إلى الشوارع المزدحمة بالناس تفيض بالحياة في جميع أشكالها وألوانها ؛ يعود به إلى أصله البشري :
’’ الشاعر من لحم ودم / الشعر من لحم ودم ’’
ولأن َّ:
’’ العالم حزمة من الشعر الخالص ’’
يستلهم صاحب البنفسج شعريته من أشياء الحياة اليومية فتهتف قصيدته هذه بأدق التفاصيل ترصد المشاغل الحياتية في أشد تعقيداتها دونما أي انفعال ودونما تهويمات أو تركيبات موغلة في التجريد والتنويع الترميزي تعيد صياغة الواقع بلغة شعرية مستلة من قاموس طري ؛ قاموس الشأن اليومي تنكَّب الغرابة اللفظية لا شيء فيه من البلاغة الفخمة والاستعارات المركبة والمجازات المكرورة وما شابه من المحسنات البديعية المملة ولكن دون السقوط في الابتذال والسطحية والركاكة الاسلوبية ؛ لذلك جاءت هذه القصيدة على كثافتها وعمقها خفيفة تميل إلى الإيحاء والإشارة ولا تذهب مباشرة إلى ما تريد فلا يستعجل وليد الزريبي الوصول إلى المعنى ولا يقدم رؤياه مكتملة للقارئ بما أنه يعتبر القارئ شريكه في بناء المعنى وتشكيل الرؤيا بل إن هذه القصيدة اختبار للقارئ على ادراك الجميل من القبيح ونسف نظرته المتوارثة للجمال واختبار قابليته لتحسس الأشياء تحسسا مستبصرا حدسيا لا تحسسا جافا من كل رواء إبداعي و القصيدة عقد شراكة بين القارئ والشاعر الذي سوف يعمل على ترك ثغور وفراغات فلا تكاد دلالة تنشأ هنا حتى ينسفها لينشغل بتشكيل أخرى مختلفة و لا يكاد السطر يبين حتى يختفي إنه ديدالوس صانع المتاهة وعلى القارئ أن يعرف مسالك الخروج من هذه المتاهة و يكمل ما لم يكتمل وعليه أن يقشِّر النص كالبصلة ويستمر في ذلك ليصل إلى النواة يريد الشاعر منه أن يتعب معه للظفر بالجوهر ؛جوهر الحياة لذلك جاءت هذه القصيدة متدفقة بالحياة متفجرة كأضواء صاخبة تكشف ما في عتمة الوقع الكابي من جمال خفي ؛ جمال عمومي مشترك لن يستطيع غير الشارع إبرازه وهو يرصده بكاميرا إدراكه الشفيف وحدسه الفطن . هذه الكاميرا ستلتقط صورا يشكل إيقاعها بنية القصيدة ليشيد معمارا متماسك الأركان.
ولأن الإيقاع في قصيدة النثر لا يستوجب مقاييس فيزيائية بما تتطلبه من موازين ومكاييل ومقادير وضرب وعروض فسيعمل الشاعر على توظيف موتيفات مغايرة لتأليف هارمونية قصيدته ومن هذه الموتيفات إجراءات شكلية تستثمر البياض لتشييد معمارية لها دلالتها الخاصة التي تتضافر مع بقية دلالات النص على اعتبار إن البياض خطاب يتضمن معنى ولعل البنية التركيبية القائمة على التصدع حيث :
- حالات الوقف المفاجئة:
’’ هل عليّ أن أصدق / أنني جلست يوما على كومة من تبن / غارقا في الرماد / أصغي لفرسي عضني / جرحان يشتعلان / لا النايات لهب / لا المعاطف نشيد /
- الجمع بين المتناقضات في شكل عناوين برقية كما في هذا المقطع:
’’ انتماء الفراش إلى حكمة الأضداد/ زقزقات الجريح بحمَّى الغنائي / رفاق البنِّ والطعنات / حوافر الأصدقاء المثقوبة والغمغمة / ثغر الشموس العطشى / بكاء الكمنجات.... أتوحَّد في الأضداد...
- قلب التركيب كما هنا :
’’ قلبي على قلبك ../قلبك على قلبي../ قلوبنا على قلبينا ..’’
وهو ما سيتعمده في مواضع أخرى لكن باللعب الحر في مقاطع متعددة بمفردة ’’اسمك’’
لعل من شأن هذه التركيبة تنشئة إيقاع مختلف ؛إيقاع ينبني بالأساس على ما سيحدثه هذا الأسلوب في نفس القارئ فالصورة هنا لا تنمو استعاريا ولكنها تتشكل تدريجيا من داخلها وبما يضخه الشاعر فيها من تفاعلاته مع الواقع ومتناقضاته ؛ من صميم العلاقة بين الشاعر والوقع تلد الصورة وتشرع في النمو فتحقق إيقاعها الخاص وإضافة للإجراءات الشكلية وصياغة البنية التركيبية سيعول الشاعر كثيرا على التكرار ؛بل إن التكرار هو العصب الرئيسي في هذه المجموعة سيكرر عدة مفردات في أكثر من مرة :
’’رأيت’’ 12 مرة / ’’ أسمع ’’ 12 مرة / ’’ لم تقل ’’ 4 مرات / ’’ الرجل الذي ’’ 4مرات .
سيرتفع نسق الإيقاع هنا وسيتحول إلى غنائية بصوت مرتفع وهو ما حول ريتمية النص من مستوى منخفض كتيم ايحائي إلى هتاف عال سيبدو كمن يهرول في صراخ بلا نفق وهو ما أحدث شبه النشاز في مقطوعة ليه يا بنفسج غير انه لم يكن نشازا بارزا خاصة وان المقاطع التي فيها مبالغة للتكرار كانت مقاطع ذات أبعاد ذاتية نوستالجية قد تشكل نواة لسيرة ذاتية بل ربما جعلت النص يفلت من قيود الجنس الواحد ويتحرر فيخترق أسوار الأجناس الأدبية وينكتب خارج النوع كمثل: المقطع (76) والمقطع (77) وهمافي الحقيقة أقرب الى القصة الومضة بما تضمناه من خلايا سردية وذرى الدرامية غامرت بالقصيدة خارج مواقعها وفي غير مجالاتها لكنها جاءت ملتبسة بالشعر من حيث معجمها اللغوي ومن حيث تشكيل الصورة هذه الصورة التي غامر وليد الزريبي والتقطها بكاميرا مختلفة هي كاميرا الشاعر المهووس بالجمال الخفي وليس الجمال المعهود جمال مختلف صنعه من حزن البنفسج .
• ’’ ليه يا بنفسج ’’ مجموعة شعرية لوليد الزريبي صادرة بتونس سنة 2009
• المقصود هنا ان الكتاب جاء في قصيدة واحدة على شكل مقاطع صغيرة عددها 81
عبد الوهاب الملوح
2009 ربيع قفصة
التعليقات (0)