مواضيع اليوم

كارثة الآثار .. بين قراءة الطالع والدراسات المستقبلية

عبد الهادي فنجان الساعدي

 

 


أن الكارثة ليست كارثة الاثار بقدر ما هي كارثة غياب العقلانية من الفكر العربي والإسلامي . وانا اعجب من الكثير من التجار الذين يقيمون اكثر العلاقات التجارية متانة وسعة تتبعها العلاقات الاجتماعية مع الصينيين الذين يعتبرون في عرف الاسلام من عبدة الاوثان في الوقت الذي يكفرون فيه اخوانهم في الدين ويمدون المسلمين من كل الاطراف بالمال والسلاح والاسناد الطائفي بلا حدود .
"كان مجيء وزير للثقافة عام 2002 أمي ومتخلف وسكرتير لصدام حسين مثل حامد يوسف حمادي قد ولد قلقا كبيرا في الاوساط الفنية ، فقد كان حمادي احد القائمين على الحملة الايمانية في البلاد والتي ظهرت بعد حرب الخليج الثانية وكان النظام يسعى من خلالها ممالاة الجماعات الاسلامية الاكثر اصولية كما كان النظام يسعى في الوقت نفسه من خلالها الى ان يستبق قدر الامكان شبح تزمت المعارضة الدينية التي قد تستمد مشروعيتها من قلة الورع الديني للنظام الحاكم . وقد قرر الوزير منذ الاسابيع الأولى لتسلمه مهامه ان يظهر عداءه للفن التجريدي وان يحث الفنانين على العودة الى الفن التشخيصي الذي عَدهُ وبشكل يدعو الى الغرابة، الاكثر تطابقا مع جذور الفن العراقي"(1).
هل ابتعدنا عن الموضوع .. كلا .. لكنه الجنون بحد ذاته . فليات ليونيل ﭭيرون(2) ليشاهد وزراء الثقافة الحاليين . وزراء الشرق الاوسط الكبير .. رجال كارثة المحاصصة الطائفية .. ان احدهم لا يعرف الفرق بين حرف الظاء وحرف الضاد .. هذا العربي الاصيل .. الذي قال في اول تصريح له امام كادر الوزارة المتقدم بانه ((فلان الفلاني .. قومي .. عربي .. ناصري .. سني)). فهل هناك اكثر من هذا التخلف الحضاري في التصريحات .. والاخر مهمته ان يدمر كل الانجازات الثقافية التي اسس لها رجال الثقافة (على قلتهم) في وزارة الثقافة من مجلات وسلاسل وكتب ثقافية .
انظر الى أي برنامج ثقافي اجنبي في التلفزيون .. او اخرج (ولو ان هذا ممنوع) لتتطلع الى تصرفات الشعوب .. سترى – حتما – ان كل هذه الشعوب تمتلك قيما واخلاقا .. اما نحن فما الذي نمتلكه ؟!! اننا نمتلك حضارة بل حضارات .. ولكنها قديمة لم ندرك منها سوى الخرائب والرقم الطينية والتماثيل التي لا نعرف قيمتها الحقيقة .. هل نحن من الشعوب الايلة للسقوط .. ام اننا من بقايا الامم المندرسة .. لا ادري !! ولكن كل ما ادريه هو اننا لسنا من الشعوب التي تسعى نحو النهوض .
أن الانهيار الذي حدث في البنية الاخلاقية قبل السقوط تبعه انهيار لكل القيم التي كانت تسند البناء الهيكلي لعموم المجتمع بعد السقوط الكارثي لسلطة البعث. ان كارثة الاثار هي جزء اساسي وصورة مروعة للكارثة التي دمرت كل البنى الاخلاقية والقيمية.. وحين حلت السلطة التي تمثل في اغلبيتها التوجه الاسلامي كرد فعل عاصف بكل النماذج السابقة من قومية وعلمانية مبتورة او سلطات تمثل خلطات غير متجانسة من قومية – اشتراكية – دينية – رأسمالية لم تستقر على برنامج واضح وثابت والذي طور الانهيار في البنية الاخلاقية والقيمية وجعله يتحول نحو الكارثة هو عدم وجود برنامج واضح او حتى برنامج – اصلا – لدى هذه الكتل الاسلامية الطائفية التي طرحت نفسها كبديل للتنظيمات السابقة ، يضاف الى كل ذلك النظر للاثار بصيغة الاصنام ، والاصنام المحرمة .. بحيث ان وزير الثقافة المشار اليه وهو يقوم بجولة تفتيشية قال مشيرا الى النصب والتماثيل الابداعية العراقية التي كانت في مقر وزارة الثقافة (هذه الاصنام التي قال عنها رسول الله بانها تؤدي الى النار) وبغض النظر عن الاختلاف في فلسفة حرمة هذه الاعمال الابداعية الا ان هذه النظرة الى هذه الاعمال تؤكد ما ذهبنا اليه في تفسير الرؤية الدينية للاثار وهذه مسالة في غاية الخطورة وهي التي ادت الى معظم الممارسات التدميرية لكل الصروح التاريخية التي وضعت العراق في قمة الدول التي تمتلك تاريخا حضاريا لا تمتلكه أي دولة في العالم .
(لقد حلت الحركات الدينية مكان الحركات القومية والاشتراكية ولكن من دون ان تتجاوزها وتتعلم من تجاربها واخطائها، فلم تتمكن من تقديم برنامج للتغيير ومعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . انها في خطابها المتعدد وممارساتها ردة فعل ورفض لما يحدث وليس حركة انقاذ، ولذلك يتوقع اكثر المفكرين العرب مرحلة اخرى من الاخفاق والهزائم حيث تتمكن الحركات الاصولية من التوصل للسلطة وستكون اكثر قسوة وماساوية . وهذا هو المصير المنتظر الى ان تنشا تيارات ثورية حقيقية تعمل على انقاذ المجتمع العربي من محنته التي طال امدها)(3).
إن كل العلامات من ادعية ومعتقدات تنتشر على كل هذه المساحة المليئة بالدم والنفط تدل على ان هذه الامة .. من الامم التي ستنقرض لا محالة .. فما من معتقد او نظرية صحيحة .. او فعالة .. الا وسفهوها .. او عارضوها .. او وقفوا لكي يقرأو الفاتحة على عقل الناطق بها !! ان كل شيء موجود في هذه المساحة الشاسعة من الاراضي الصحراوية .. والانهار .. والبحار والمحيطات والخلجان التي تحيط بها وتتخللها .. كل شيء .. واقسم على ذلك .. الا العقل .. فهي جماجم مليئة بمختلف انواع المواد اللزجة والسائلة .. ولكنها لا تمتلك القدرة على تحويل الكلمات الى افكار .. اما التكويرات البضة من انصاف الكرات فقد خلقت لتشارك الطحين في اللذة (ايها العرب يا جبالا من الطحين واللذة)(4).
عن مؤسسة التنقيبات الاثارية الالمانية صدر هذا الكتاب القيم وقد جاء في ص90 منه ما يلي (تعرضت منطقة المدائن باكملها للاسف منذ بداية السبعينيات لتخريب مؤلم بنتيجة شق وتعبيد الشوارع وطرق القطعان وتوسع المساحات الزراعية .. ومما زاد في الطين بله لاحقا حفر قناة ري كبيرة تعبر تماما وسط الحقل الاثري .. وفي هذه الاثناء يستمر تخريب ما تبقى من الاثار من خلال التنقيب المنهجي بغرض السرقة .. يبدو ان فرصة القيام باعمال البحث العلمي لم تعد متاحة بعد اليوم)(5).
ان الانسان في هذه البقعة هو اول من اخترع الكلمات قبل ان تنزل كلمة (اقرا) على الرسول محمد (ص) ولكننا منذ سنوات لم نجد من يكتب المسمارية ليترجمها الى العربية ولم نجد من يقرا فكيف سنجد من يحرس الاصنام وهي محرمة في شرع القاعدة وانصارها .. اما دم الانسان فهو مهدور طالما اصبح .. يقرأ .. او يفكر .
(إن الطابوق الذي بنيت به السدة (سدة الهندية الأولى) استخرج كله من خرائب بابل .. وقد استخدم الديناميت من اجل ذلك اذ كان يوضع في جدران قصور بختنصر لنسفها واستخلاص الطابوق منها وهذا امر يؤسف له فان قصور بختنصر لو كانت باقية على وضعها القديم لكانت اليوم من الكنوز الاثارية والسياحية التي لا تقدر بثمن)(6).
ان الدموع لا تكفي .. والظاهر ان من لم تقتله رصاصات الارهاب سيموت غما .. وها هو الزمن الرديء يعيد نفسه ليمنح الفرصة لحثالات البعث القديم لكي تتسلق السلم .. وان المشكلة التي كانت تتمثل في سرقة رقيم طيني تطورت الى مصيبة حيث عرف الكثير من رجال العشيرة الحاكمة طريق الاثار وبدأوا بالمتاجرة بها . اما الان فقد تطورت المصيبة الى كارثة حيث ان المتاجرة بالاثار ونبش المواقع الاثارية وتدميرها اصبح تجارة يمارسها الكثير من الناس في زمن غاب فيه الحراس والوازع الاخلاقي والوطني والديني .
في تقرير بثته احدى الفضائيات حول شخص اسرائيلي يهتم بالاثار بشكل شخصي .. استطاع هذا الشخص ان يؤسس متحفا خاصا من الاثار العراقية فقط .. و ((الناس نيام اذا ماتوا انتبهوا))(7).
ليس رواية عن شخص .. بل قصة كنت طرفا فيها حيث اختصني أحد الاصدقاء بمخطوطتين قديمتين لغرض بيعهما للهيئة العامة للاثار والتراث او لاشخاص امينين وذلك لكي لا تعبر الحدود .. وعندما حاولت ان أثنية عن بيع هاتين المخطوطتين الثمينتين قال (كفرا) .. وكان يعني مقولة الامام علي (ع) (كاد الفقر أن يكون كفرا) .. وقد عرضت احداهما على المختصين في الهيئة العامة للاثار والتراث والثانية على المختصين في شارع المتنبي .. ولم يتم حسم هذا الموضوع لحد هذه اللحظة .. أي بعد مرور ثلاثة اشهر على هذا الموضوع .. وعندما فكرت في كارثة الاثار رايت بان (الحاجة) تدفع الانسان الى عبور حاجز الكفر لكي (يعيش) .. فكيف لا تعبر الكنوز حاجزا قيمته خمسة دولارات .. بالرغم من انه من الحدود الدولية .
في تقرير اقتصادي عن صفقة نفط خام تتمثل في باخرة محملة بالاف الاطنان توجهت من احد موانئ البحر المتوسط باتجاه المحيط وقد طرحت على الانترنيت لغرض البيع . بعد ساعتين بيعت بملايين الدولارات .. عبر الانترنيت .. ثم عرضت بعد ذلك ايضا وهي عائمة في البحر ، بكل مواصفات النفط وكمية الحمولة وسعر البرميل . وكانت في كل ساعتين او ثلاثة تباع من خلال الانترنيت على احدى الدول او احدى الشركات حتى بلغ عدد مرات البيع اربع مرات حيث رست اخيرا في احد الموانئ لغرض التفريغ .
هذا التقرير ذكرني بقصة بيع المخطوطتين وكان الدافع لبيعهما للهيئة العامة للاثار والتراث – حصرا – هو دافع الوطنية.. ولكن ماذا يفعل الانسان بعد ان تصل السكين حد اللعنة.. فلقد (كاد الفقر أن يكون كفرا).
من هنا تبدا القراءة الصحيحة .. فلقد قلنا بان كل منجز ثقافي بحاجة الى فيض مادي وفيض فكري .. والفرق شاسع بين قراءة الطالع .. وقراءة المستقبل من خلال الدراسة العلمية ومن خلال قراءة المعطيات .. ووضوح الرؤية المستقبلية .
الحواشي:
(1) مقالة بقلم ليونيل فيرون : ترجمة احمد هاشم : انظر جريدة المدى العدد 516 في 20 تشرين أول 2005 .
(2) كاتب المقالة السابقة .
(3) مقالة بعنوان تيار الصحوة الإسلامية بقلم وليد خالد احمد حسن انظر مجلة فكر حر ص73 .
(4) مقطع من قصيدة للشاعر محمد الماغوط .
(5) كتاب صدر عن مؤسسة التنقيبات الاثارية الالمانية .
Barbara Finster–Jurge Schmidt Mada’in Baghdader Mitteilungen 8, 1976.
(6) من كتاب (لمحات اجتماعية من تاريخ المجتمع العراقي) للدكتور علي الوردي ج3 ص56 .
(7) مقولة للإمام علي بن أبي طالب "ع" .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !