مواضيع اليوم

كارت أخضر لقناة الجزيرة

جهاد الدهيني

2011-05-08 16:43:50

0

لم نكن نحتاج إلى دكتاتور اليمن علي صالح، ولا للمهرج يوسف شاكير، ولا حتى لغسان بن جدو لكي نكتشف أن قناة الجزيرة ليست موضوعية ولا محايدة في تغطيتها للثورات العربية القائمة، فنحن ندرك أن قناة الجزيرة لا تلتزم الحياد في القضايا الكبيرة التي يكون الإنسان العربي العادي فيها أحد أطراف معادلة، أو مواجهة مصيرية أو شبه مصيرية.
فالجزيرة قناة عربية بالمعنى الخام للكلمة، ومن الطبيعي ألا تكون متجردة من ضغوط الذات المختزلة لهموم وطموحات المجتمعات والشعوب العربية. فهي على سبيل المثال لم تكن محايدة في تغطيتها للحرب على العراق، ولم تكن محايدة في تغطيتها للحرب على لبنان، وكانت بعيدة عن الحياد في تغطيتها للحرب على غزة، وحتى إنها لم تكن يوما محايدة في تغطيتها للانقسامات الفلسطينية الداخلية..
كانت بالدوام منحازة لرؤية الإنسان العربي البسيط ـ مثلي ومثلك - منحازة لتصوراته ولطموحاته وعاطفته، وبالدوام ظلت تقوم بوظيفة قرون الاستشعار تتحسس للعربي التائه بين زحام الرؤى والمعطيات المتباينة، طريقه نحو الصورة ونحو الحقيقة، لا كما هي فحسب، بل أيضا كما يجب أن تكون.
إن أحدا لا يستطيع إنكار حجم الارتياح والسرور الذي تركته تغطية القناة للثورتين التونسية والمصرية في النفوس، على الرغم مما تتخللها من انحياز واضح للناس العاديين في الشارع، في مقابل شيطنة على طول الخط للنظامين وكل ما ارتبط بهما.
وغداة سقوط الرئيس حسني مبارك بثت القناة تقريرا - أو على الأصح زفت تقريرا ـ ختمه معده بالآية الكريمة فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ، وهي الآية التي تصف مصير فرعون ذي الأوتاد. وحتى عنوان تغطية الثورة في نشرات المساء مصر تتحدث عن نفسها كان كافيا للتأكد من غياب الحياد من أول يوم.
فما الذي تغير.. فصارت الجزيرة فجأة غير موضوعية وغير محايدة؟
في تقديري أن هذا السؤال جوهري، لأن الجواب المستنير عليه يفك كثيرا من طلاسم هذه الثورات، وأكثر من ذلك يعري كل الذين ظلوا يرددون شعارات لا يؤمنون بها، أو لا يفقهون أبعادها.. لأنه لم يتغير في الواقع سوى تكاليف الثورة. نعم، ارتفعت الخسائر وتضخمت الفاتورة، ولكن حلم التغيير لا يزال كما هو، حلم الانتقال من دولة المجموعات إلى دولة المواطنين لا يزال كما هو، حلم التداول الصادق على السلطة مازال كما هو، حلم أن لا يبقى حاكم في السلطة فترة طويلة تسمح بنشوء طبقة صغيرة من الناس تحتكر كل شيء، في موازاة طبقة كبيرة محرومة من كل شيء مازال كما كان.
مازالت كل الأحلام قائمة، ومازال تحقيقها ممكنا، ولا بد من دفع ثمنه اليوم أو غدا، من قبل هذا الجيل أو جيل آخر بعده.
فما دخل الجزيرة إذن في هذا؟ وما دخل الكيل بمكيالين أو بمكاييل متعددة؟ وحتى إذا كانت الجزيرة لا تغطي إرهاصات الثورة في دول الخليج فهذا أمر يجب أن يستاء منه في المقام الأول شعوب تلك الدول، وهم من يحق له اتهامها بازدواجية المعايير، إذا كنا فعلا نرى في هذه الثورات شيئا إيجابيا. أما أن يكون الاتهام والامتعاض صادرين من أطراف تنتمي لدول غطت الجزيرة ثورة الشعب فيها، فهذا يعني أن هناك شكا مكبوتا في
مشروعية هذه الثورات، وبالتالي انفصام بين ما هو ظاهر معلن وما هو مكنون في الصدور.
كانت تجربة تونس ومصر تجربة صعبة، ولكنها مرت بسرعة ولم تخل من إثارة ومن لحظات الترقب وشد الأعصاب، وقد يكون في مشاهد الانهيار الختامية للنظامين قدرا من التسلية يغري أو يوهم بعض الطيبين أن من السهل إسقاط جميع القادة العرب، الواحد تلو الآخر على طريقة الروائية آجاثا كريستي في قصة الزنوج الصغار العشرة.
ثم تفجرت الأحداث في ليبيا وفي اليمن، وبدأت الثورة تكشف عن الوجه العابس والحقيقي للثورات.. كما هي في صحف التاريخ، قتل وجثث، وبيوت مهدمة، ومطاردات، ونزوح من الأوطان.. لم يعد في الأمر إذن أي تسلية للمترفين الذين رأوا - أولا- في الثورات العربية مجرد تسالي مثيرة لكسر روتين الحياة الممل.
من هنا بدأ الحديث عن إثارة الفتن، وعن المؤامرة، وازدواجية المعايير، لأن الثورة في ليبيا لم تسلك نفس المنحى الذي سلكته الثورة في مصر وتونس. مع ان كل واحد يعلم أن تونس ومصر هي دول متجانسة، تجاوزت الشعوب فيها من زمن بعيد مرحلة الولاءات ما تحت وطنية (العشائرية ـ الإثنية ـ الطائفية) وبالتالي جرت عملية التغيير بسلاسة واضحة، وهذا أمر لا ينطبق على كثير من الدول العربية الأخرى.
قارن كاتب أمريكي ظاهرة الثورات العربية الجارية بموجة التغيير في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، منبها إلى أن مشاريع التغيير لم تتعقد كثيرا في دول أوروبا الشرقية في ما عدا الحالة اليوغوسلافية، لأن دول أوروبا الشرقية متجانسة كلها تقريبا باستثناء يوغوسلافيا، أما الدول العربية - كما قال- فهي كلها تشبه يوغوسلافيا باستثناء مصر وتونس.
قد يكون هذا في النهاية هو ما يتمناه ذلك الكاتب (توم فريدمان)، ولكنه الصورة في رأيي غير دقيقة، فمشكلة الدول العربية اليوم لا تكمن في التناقضات الداخلية، بل في عدم وضوح الرؤية بالنسبة لمشروع التحول الديمقراطي، وحتى في عدم الاقتناع أصلا بأهمية ذلك، وحين يكون الفهم مشوها أو غائبا، فإنما هو قائم من أوضاع سيكون بالدوام في نظر الناس أفضل وأسلم مما هو مرتقب مطمور في خبايا الغيب.
قال اللورد كرومر: علينا أن لا نتصور لحظة واحدة أن الفكرة البسيطة جدا لحكم الطغيان ستكون مستعدة لفسح الطريق أمام مفهوم الحرية المنظم والأكثر تعقيدا.
ومع ذلك، ومع ما هو متوقع من فتور للطاقات المعنوية والحسية الدافعة لهذه الثورات، وحتى مع ما بدأ يلوح من ارتباك على الجزيرة بشأن تغطيتها للثورة، فإن الشعب العربي قطع مراحل مهمة يستحيل عليه النكوص بعدها على الأعقاب.
ومن المؤكد أن ما يجري في جمهورية مصر اليوم من حبك لمشروع التحول الديمقراطي سيكون بعد اكتمال حلقاته وظهوره للعلن دليلا وهاديا لبقية الشعوب، ولكل من تعصف الريبة والشك برأسه.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات