مواضيع اليوم

قول في علاقتنا بالتراث والحداثة

عبد المجيد العابد

2015-03-25 22:33:05

0

 قول في علاقتنا بالتراث والحداثة

 

 

نقصد بالتراث ما خلفه الأسلاف للأخلاف من أشياء مادية (تراث مادي)، أو أشياء روحية فكرية (تراث فكري أو لا مادي) في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقيمية؛ سواء تعلق الأمر بالجانب العالم، الذي يهتم به كثير من الذين يدرسون التراث، أم بالجانب المتعلق بالحس المشترك، الذي يهم التقاليد والأعراف والرموز الثقافية المتعددة.

يساهم هذا التراث، بصفته كذلك، في اكتشاف الماضي والتطلع إلى إيجابياته وسلبياته، لكي لا يعيد الإنسان تاريخه بشكل مأساوي. يسمح التراث أيضا باستشراف المستقبل انطلاقا من قاعدة صلبة تجد جذورها فيه، وتسمق أغصانها في التفاعل مع مستحدثات العصر وتداعياته الإيجابية والسلبية أيضا.

أما الحداثة فهي الحديث والجديد والمعاصر، ويقصد بها ما استحدثه الناس من أشياء مادية، وأخرى فكرية روحية؛ وهي بذلك المقابل الموضوعي للتراث. فإذا كان هذا الأخير يرتبط بما أنتجه الإنسان في الماضي سواء كان ماديا أو معنويا، فإن الحداثة متعلقة بما أبدعه الإنسان في الحاضر. ويمكن النظر إليها باعتبارها فعلا تاريخيا يجد جذوره في القرن الخامس عشر الأوربي وتداعياته المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وقيميا. إن الحداثة إذا جمع بصيغة المفرد، أي حداثات لا حداثة واحدة.

يمكن النظر إلى الحداثة، بغض النظر عن التعريفات المتعددة التي تجعلها مشروعا غير مكتمل، بوصفها تقوم على مبادئ أهمها: العلمانية في الدين، والديموقراطية في الحكم، والرأسمالية في الاقتصاد، والتقنية في العلم، والفردانية المؤسسة في الاجتماع. إنها تعبير عن الانتقال من الإقطاعية إلى البورجوازية، ومن سطوة الكنيسة ودوغمائيتها إلى العلمانية، وفصل الكنيسة عن التدخل في شؤون الأفراد الدنيوية. ومن الميتافيزيقا إلى الوضعانية العلمية والثورة الصناعية والتقنية في العلم؛ ومن الاستبداد إلى الديموقراطية، ومن الجماعة إلى الفرد والنزعة الإنسانية التي ترجع للإنسان حقه في الوجود، وقدرته عل تسخير الطبيعة وبناء المؤسسات، أي الانتقال من مركزية الجماعة إلى مركزية الفرد.

 إن العلاقة بين الحداثة والتراث إذا، من خلال ما سبق، تبدو تنافرية تضادية، من حيث كون الحداثة تجاوزا للتراث وقطيعة إيستيمولوجية له؛ لكن رغبة الإنسان في النهوض والاستفادة من أخطائه وعدم تكرارها، تجعله يقر بالعلاقة التكاملية التضامنية بينهما. فإلى أي حد يمكن للمجتمع العربي الاستفادة من التراث في مواجهة قضايا العصر؟ وكيف يمكنه مسايرة التقدم الحديث في زمن العولمة دون الإضرار بالتراث؟  

يعتبر المجتمع العربي المعاصر تائها بين الأخذ بأسباب الحداثة (ما أشرنا إليه آنفا)، وبين الرجوع إلى التراث؛ حيث يجد الإنسان العربي نفسه حائرا بينهما. فالتراث، من قيم ومثل وأعراف ولغة ودين..،لم يتدخل الإنسان العربي المعاصر في بنائه، ولم يستشر في اختياره. لذلك، فالتراث يفرض نفسه دون حرية اختيار من قبل أفراد لا يعاصروننا يعبرون من خلاله عن قيم عصرهم- الذي خلا- وتمثلاته المختلفة المتعددة.

لم يستثمر الإنسان العربي المعاصر أيضا في الحداثة (الحداثات) وتوجهاتها العامة؛ بل هي مفروضة عليه كذلك من قبل آخرين يعاصرونه (الغرب المختلف قيما وتمثلات متعددة). فالحداثة قطار لا يشاور أحدا في الانطلاق والاستمرار، ويفرض على الأفراد ركوبه سواء كانوا مؤهلين أو عاجزين.  

يمسي الإنسان العربي اليوم رهنا بين أمرين لم يخترهما. لذلك، فإن الصراع القيمي والثقافي الذي يعيشه الوجدان والفكر العربيين مرده إلى صراع دائر بين تراث لم نشيده وحداثة لم نبنها. مما يجعلنا، نحن العرب، في كثير من الأحيان، غير قادرين على التواصل مع التراث، وليس باستطاعتنا أيضا الأخذ بأسباب الحداثة. فلا نحن تراثيين فنحافظ على ما خلفه الأسلاف، ولا نحن حداثيين فنفعل في الحاضر.

إن طبيعة الخطاب العربي المعاصر طبيعة انفعالية في الغالب وإقصائية كذلك، مما يلزم عن ذلك تشبث بقيم ومبادئ وسلوكيات وآراء ومواقف بطريقة دوغمائية براغماتية بعيدة عن التأصيل والترشيد والتعقيل. فغياب هذه المبادئ العقلية المنطقية في التعامل مع التراث والحداثة على حد سواء، يؤدي، لا محالة، إلى الإقصاء الفكري والاجتماعي والثقافي عموما. حيث نجد أن الانتصار إلى أحدهما، أي التراث والحداثة، يعني رفضا للآخر رؤية ومنهجا. ومن تم يتضح أن هذا المنهج الرفضي الإقصائي لا يخدم التراث، كما لا ينفع التحديث (الذي نتطلع إليه)، بله الحداثة.

لابد من التعامل مع هذين المفهومين الإجرائيين تعاملا إبستيمولوجيا قائما على النقد والتمحيص والاحتواء، ثم القطيعة الإبداعية المعتمدة على الأخذ بما ينفع، ويخدم مصلحة العربي في الآن والمآل، مسايرة لضرورات العصر والتزاما بالتفرد والتميز والاختلاف، سواء فيما وصلنا من التراث أو ما يأتينا من الحداثة ومنتجاتها.

ينبغي أن تكون أحكامنا القيمية على التراث والحداثة معا مستندة إلى إبستيمية نقدية وليس إلى انفعال وجداني. وهذا يتطلب جهدا كبيرا في قراءة التراث العربي الإسلامي، وما خلفه علماؤه من طب وفلسفة وكيمياء ورياضيات وأدب وتاريخ...قراءة عقلية نقدية عقلانية تضع مسافة بين القارئ والمقروء له، لا إيديولوجية متنطعة، ولا انفصالية متلكئة تحمل التراث ما لا يتحمله، وتلوي أعناق النصوص.

تتطلب القراءة العقلانية المنشودة موسوعة إدراكية يستطيع من خلالها القارئ التعرف إلى التراث ثم نقده وتحيينه وكشف العقل الذي يتحكم في بنية هذا الخطاب تراثا ومعاصرة. يلزم الشيء نفسه في قراءة أسباب الحداثة الغربية ودواعي التحديث تأريخا وإبدالا نظريين، يستطيع من خلالهما القارئ كشف أسسها الإبستيمولوجية الخفية، وإدراك تنوعها وأهدافها بحسب تعدد الحضارات والثقافات، أي كشف الحداثات المختلفة. تفرض هذه القراءة أيضا موسوعة إدراكية وذخيرة معرفية كبيرة تؤهل القارئ لتشرب الحداثة ونتائجها في الآن والمآل على الإنسان العربي في مختلف مجالات حياته.     

إذا أخذنا بهذه القراءة النقدية أمكننا وضع مسافة معقولة بيننا والتراث من جهة، وبيننا والحداثة من جهة ثانية، مما سيمكننا من وضع قطائع معرفية معهما معا تسمح لنا بتحيين التراث وكشف عثراته ونجاحاته بما يخدم مصالح المجتمع العربي المعاصر، وتسمح لنا أيضا بتبين سقطات الحداثة وروحها الإيجابية، مما يجعلنا نستفيد من بعضها ونرد بعضها بما يخدم مصلحة مجتمعنا أيضا.

سيحيي الوعي بالتراث وبأسباب الحداثة عبر المنهج العقلي النقدي السالف ذكره العقل العربي بعد غفوته، ويصحي الوجدان العربي بعد شقوته، وسيمكن المجتمع من الحفاظ على هويته المستمدة من تراثه أولا، ومن ثقافة عصره ثانيا. وهذا ما سينعكس إيجابا على جميع الميادين خصوصا منها التطورات المعرفية والتقنية التي يشهدها المجتمع المعرفي الحالي.

ليس ما نؤكد عليه اليوم فتحا أو وحيا (القراءة النقدية الإبستيمية العقلية للتراث والحداثة)؛ بل إنه أسلوب قامت به أمم غيرنا عاشت ما نعانيه من أزمات وإخفاقات، لكنها استطاعت أن تحافظ على هويتها من جهة أولى، وأن تتقدم من جهة ثانية، وأن تؤثر في العالم المعولم من جهة ثالثة، كاليابان وكوريا الجنوبية والصين؛ بل أكثر من ذلك أصبحت تغزو العالم بثقافاتها ومنتجاتها المادية.

نحن في حاجة كبيرة إلى وعي كاف بالتراث وبأسباب الحداثة يؤهلنا إلى عدم نكران ماضينا، والسير نحو الفعل في حاضرنا ومستقبلنا. ولا يتأتى ذلك إلا بالنقد العقلاني والنقد الذاتي أيضا والتواصل الفعال، بعيدا عن الوجدانية والإقصاء والارتكان؛ لكي نحافظ على تميزنا واختلافنا، ونستطيع مسايرة ركب الحضارات والحداثات.

 

  

  




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !