أشياء كثيرة تدفعني للكتابة رغم أني في كل مرة أهم بتناول الورق والقلم أصطدم بواقع يتغير في كل شيء إلا في جعلي أخط الحروف، ولا أنكر أن فصل الصيف بحرارته المفرطة يسعف للتبرأ من الحيرة التي تعتريني كلما فكرت أن لا شيء يتغير سوى الأرقام وأسماء الأيام ، في خضم حياة أكتشف باستمرار أنها غير ذات لون ، في السابق كنت أعلل مثل هذا العجز بكون المعاناة ، التي عهدناها تصنع أعظم الكتاب ، هي في الواقع أكبر من مجرد التفكيرفي صياغتها في أي شكل كان ،المعاناة شأن داخلي خاص جدا ،لا أحد يستطيع التعبيرعنها كما هي تماما مهما بلغت موهبته وقدرته على نقلها إلى الاخرين في شكل من الأشكال ، وفيما قد يفيد ذلك حتى لو حدث..؟
في لحظات الصفاء الذهني القليلة كنت أفلح في تجاهل التفكير السلبي المتوارث ، ونتيجة لذلك صنعت ما يشبه سيف دون كيشوت وصحت فيهم أن يتغيروا ، وبقيت على تلك الحال حينا من الدهرحتى اكتشفت بإذعان من نوع فريد من المنشطات أن الزمن يسير كما يشاء وأن وحشية القدرإنما تكمن في تركيع الإنسان مهما بلغ به الظن بالسيطرة عليه تماما ، وإلا فأين سر الخلود..؟ ، ثم حدث أن تجاهلت مثل هذه الأفكار الصبيانية بعدما تجاهلت بواسطتها قدرة هذا الكائن المتوحد على إعادة صياغة العالم ، بعدها همت أسيح بين الحروف ،أطوف وأقرا بلا طائل، ثم عدت إلى غباوة الفكر مجددا لما اقتنعت بضرورة تحقيق التميزعبرالإنتصار لذلك السحر الذي يعتري مجرى الحياة باستمرار ، ذلك التجدد الذي يحبط امال الحالمين الخاملين الكسالى المنشغلين بالتأمل والغوص في أحلام اليقظة ،لكني في الواقع لم أكن أعرف من أين أبدأ ،نتيجة لذلك كنت ألتمس لنفسي أسوأ التبريرات فأناجي عجزي عن الكتابة بالقول أن لو كان الطقس باردا لكتبت أحسن ، لكني في الواقع لا أفعل ، هنا بالضبط ، شيئا أكثر من مخادعة النفس ، ففي أيام وليالي الشتاء ألعن برودة الطقس وأؤجل باستمرار لحظة الإستسلام لدوافع تعطي أصابع يدي اليمنى شكل رأس القلم الجاف إلى أن تثور الشمس ضد هذا البرد المقرف لتخلق جديدا في هذا العالم ، كانت تلك في الماضي دوافعي ، وأحلامي ، فيما مضى دائما ، كانت وردية كزهر الربيع ، تغذيها لذة اكتشاف الأشياء لأول مرة ، بعد ذلك اندغمت في واقع لم أجد إطلاقا قراءة حروفه كما يفعل الاخرون ، أولئك الذين ينعتون عادة ب"القطيع "، وهذا اللفظ بالضبط يصيبني مرارا بالغثيان ، ليس من باب التعاطف فقط ، بل لكون المجد الأدبي لكثير من الكتاب بني على صرح هذا القطيع البئيس المريض المتخلف ، وليس الأدباء فقط من عرفوا من أين تؤكل كتف "القطيع" ، بل أيضا الساسة المغتنون بفقر القطيع ، الأصحاء بمرضه ، الضاحكون بحزنه ،أما أنا فقد شدتني إليه الحياة البسيطة ، على الأقل تلك التي فهمتها جيدا لدى أولئك الذين لا يرون فيها غير الأكل والشرب والنوم والتخدير..لقد اندغمت في حمى الهامش ، ذلك الحيز الغريب الذي نشأت فيه وتشبعت بقيمه زمنا قبل أن اراجع كل شيء وأعيد بلورة فهمي لانوجادي في هذا الكون بإيعاز من الغريب كامي والغامض حد القوة نيتشه وغيرهم... وتلك حكاية أخرى قد أعود إليها في مقام قادم... أما الان فإن حرارة الطقس تغري بالفراركأسهل طريق للنجاة ، وهذه العقول التي تعشق النهايات الصغيرة سعيدة لاتقرأ حرفا مما يكتبه عنها أولئك المبتلين بماسيهم ..، بل يأتون عن قصد يثير الإشمئزازعلى الإشارة بأصبع السوء إلى كل من يركب صهوة حلم السمو بفكرهم ، يلفظونهم وقد يرمونهم بالجنون فيضطرون إلى الهروب بحسرتهم وبالبقية الباقية من جنونهم إلى حياة أخرى تستحق أن تعاش.. بعدما فهموا أن الاخرين هنيئين ببؤسهم نشوانين يلوكون حكاياتهم المتكررة وحروبهم الوهمية.. تدور عليهم عجلة الزمن وتدوسهم.. ولا مجال لشرح الموقف ، لأنه ، مرة أخرى ، يبعث على الغثيان ، وليس هناك أغرب من ذلك مهما توغلنا في عمق هذه الحياة ، لتبقى الكتابة ، لوحدها ، أكثرالوسائل قدرة على لفظ الكابة ، بالكتابة نطرد من أوهامنا فكرة أن العالم لن يتغير فهو هكذا منذ القدم وكذلك سيظل ، هذا هو الوعي السعيد ، ترك الأمورتمضي باسم القدر في مجراها ومرساها ، ومن يخالف ذلك يلعن ، تماما كما حدث "للملعون" الكبير محمد شكري المتمرد الذي عرف المواخير قبل حجرات الدراسة ولم يلج ثانوية ولا جامعة وحمل أقداح الخمرة ولفافات الحشيش قبل الأقلام الجافة والكراريس ، كل هذا التمرد لم يصنع له متنفسا لتفجير غضبه التاريخي فانبرى يكتب بالنار والحديد عن ماسي المهمشين ، كأنه يقول لهم ، لا شيء أصعب من الصمت.. فلتقولوا كلمتكم قبل أن تموتوا ، ولا يهم ما ستؤول إليه ...
محمد الشاوي / الخميسات .
يتبع
التعليقات (0)