لا يزال كل سؤال معلّقًا بجواب، جواب يحتمل كلّ شيء «السلب والإيجاب، القبول أو الرفض، الظهور والاختفاء» وافتراضات أخرى، أجوبة تتأثر بكل شيء وتتلون بكل ألوان الطيف، لها العذر أحيانًا، وأحايين أخرى لها مصالحها.
كل هذه التشكلات في الأجوبة لا يعني أنها تتمتع بالقوة أكثر من الأسئلة التي استدعت حضورها، وإنما يعني على العكس من ذلك ضعفًا في تكوينها. ونحن في غفلتنا نبهر بالأجوبة حتى ولو كانت مجرد منقولات عن الغير، أو تركيبات بسيطة، أو سفسطة فارغة، أو حتى لو كانت إلهامًا موفّقًا، وحدسًا صادقًا. في الوقت الذي ننسى أو لا نتذكر أن القوة الفاعلة تكمن في الأسئلة، وأن الأسئلة هي التي فجّرت العالم والعلم، فالملائكة الكرام بادرت الوجود البشري بسؤال: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء)؟ هذا السؤال هو الذي بدأت به حركة العلم والتكوين البشري (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
وقد كان القرآن الكريم وهو ينزل (هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) يستمع للأسئلة، وتتحوّل في خطابه إلى مركز للتحوّلات الاجتماعية، وكم فيه «يسألونك»، «وإذا سألك»، بل يأمر بطرح الأسئلة (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، وأكثر من ذلك حين يؤمر النبي المرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- بالسؤال «سلْ بني إسرائيل»، «واسألْ من أرسلنا من قبلك».
وهكذا كانت الأمم في تشكيل حضارتها تطرح أسئلة الحقيقة وتستكشف الأجوبة، ليصبح السؤال الصحيح مفتاحًا للتقدّم وخلاصًا من التخلّف. هذه الأسئلة الصحيحة والقوية تمنع أو تمتنع في مجتمعات تسير في ركب التخلف إلى هاوية الضياع، ولا بديل عنها في هذه المجتمعات إلاّ أسئلة السخافة والسذاجة والحذلقة والنفاق الثقافي.
لقد غفل العقلاء والحكماء والمربّون عن أن عقلهم لن ينفتح، وحكمتهم لن تنعكس، وتربيتهم لن تنتج إذا كانت الأسئلة تُقمع والتساؤل يُستهجن، وتُستخدم ضدها مصطلحات المروءة والأدب، وهم في ذلك أو بعض ذلك ينفّذون أجندة الاستبداد أيًّا كان نوعه.
إنك لتجد هذا القمع متجليًّا في منهج التعليم، أوفي التربية البيتية، أو في دوائر وبرامج الإفتاء وغير ذلك مما قتل الإبداع ووأد الطموح، وأغلق المستقبل، وعزّز الإحباط، كما جعل بعض الأسئلة تتجه في طريق بحثها عن الأجوبة إلى وسائل وأساليب أخرى بعضها على هدى، وبعضها في ضلال مبين.
سيبقى الإنسان سؤولاً إلى الأبد ليستبين حياته وصيرورة وجوده، سيسأل عن أشياء يجهلها، وأشياء لا يعقلها، وأشياء تمتنع عنه، وفي بعض مراحل التساؤل سيعضده الشيطان «لا يزال الشيطان بأحدكم يقول من خلق كذا، من خلق كذا…» كما في الحديث النبوي.
إن ما يحدث في العالم مما نرغبه أو لا نرغبه، أو مما نفكّر فيه أو لا نفكّر فيه، ليس إلاّ أجوبة فاعلة لأسئلة تمّ تجاهلها، أو تسفيهها، ولكي لا نراغم القوة ونمانع الحقيقة فإن الخير لنا أن نحترم أسئلتنا وندرك أثرها، فضلاً عن أن نربي أجيالنا على حرفية السؤال وعمقه، وتوليد الأسئلة من رحم الأجوبة. قيل لابن عباس – رضي الله عنه – بما عقلت ما عقلت؟ قال: «بقلب عقول ولسان سؤول». إنه كثير الأسئلة؛ لأن الأجوبة -حتى لو كانت مقنعة- إلاّ أنها ليست نهائية، وهكذا يجب أن تكون، ولأن نهائية الجواب تعنى فتح نار الأسئلة مما يحفز الجواب إلى تطوير بنيته وتحديث أدواته وتوسيع مدلولاته.
وأي جواب يعتقد النهاية عنده والمرجع إليه فهو يعلن سقوط نفسه أسيرًا بيد أسئلة لا ترحم، فهل أنتم مدركون؟
تمنياتي لكم بأسئلة الحقيقة وأجوبة الوجود .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : أمة اقرأ لازم تقرأ ـ فيس بوك
محمد بن صالح الدحيم
التعليقات (0)