لما تم الإعلان عن قرار انعقاد قمة الثقافة 2011 ذهب إلى ظني أن الشعوب العربية وفي مقدمتهم مثقفوها سيخرجون في مسيرات هازجة صاخبة تبارك الحدث وتسنده وتستعد لموعده استعدادا منقطع النظير إذ هي ستكون على موعد مع "ثورة ثقافية" يُعطي إشارة انطلاقها الحكام بمحض إرادتهم وعن طيب خاطر وتكفيرا عن ذنب اقترفوه وأسلافهم في حق الثقافة لما غيبوها عن فعلهم السياسي الجماعي،على الأقل،في إطار الجامعة العربية.
أولا يؤشر القرار الحدث إلى أن القادة العرب "الجدد" أصبحوا ينظرون للثقافة نظرة أفضل مما كان ينظر بها إليها أسلافهم بدليل أن هذه القمة المنتظرة هي الوحيدة والأولى من نوعها التي ستنشغل بالشأن الثقافي منذ انبعاث الجامعة العربية إلى اليوم ؟( والمثل يقول أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أو "المليح يبطا"...
وإذ لم تكن ردود الفعل كما توهمت إزاء قمة الثقافة،ولا أخالها ستكون كذلك فيما تبقى من زمن يفصلنا عنها ولا إبانها ولا إثرها،فإني،والحق يقال،ارتبت في الأمر.ا..
وبما أنه ليس من الصواب وضع الشعوب يقودها مثقفوها في قفص الاتهام وبالتالي نعتها بقصر النظر وغياب الوعي أو ما شابه ذلك لأنها كانت فاترة العواطف والأحاسيس إزاء قرار تتويج "الثقافة" على أعناق القادة العرب الموقرين في قمة مهيبة لا سابق لها،وربما،لا لاحق ا..
بما أنه،ليس من الرجاحة في شيء، تصويب نيران اللوم والتقريع إلى صدور الشعوب العارية ولا إلى عقول مثقفيها المتعبة،فإنه بات من الضروري تدبر الفهم والتبرير لغياب ظاهرة التطبيل والتزمير ومظاهر الهرج والمرج الجماهيرية احتفاء ب"عيد قمة الثقافة" في غير العلة الظاهرة.ا..
إذن هل في الأمر من سر أم من لبس؟
تُرى هل الثقافة لا ترقى إلى صدارة اهتمامات الشعوب العربية فلا يجدر الاحتفاء بها وهي تُستدرج إلى "المحفل الخطابي العربي" في قمة عربية،والحال أن تراث القمم العربية ثري بالدروس والعبر الثقافية ؟
أليست الأمم بثقافاتها ومثقفيها وهي،دون ذلك،لا وزن لها بل لا وجود ؟
هل نستسلم للرأي القاتم الذي يدعي أن القومية العربية في "خبر كان" ؟
لنستحضر،أولا،أن الثقافة مصطلح فضفاض وموارب وقابل لاستيعاب التراث والفكر والسلوك ونمط الحياة،وتحت مظلة الثقافة يمكن أن تطرق أي باب وتتطرق لأي شأن وأن تنشغل بأي هم دون أن تتهم بالخروج عن الموضوع-ولعله لذلك رحب المرحبون بقمة الثقافة العربية لأنها الحقل الوحيد القادر على استيعاب كل التناقضات والاختلافات والخلافات العربية العربية والعربية مع الآخر دون أن تسمى كذلك أو أن تُعد عيبا لأنها محصنة بهذه المظلة السحرية التي لا يمتلك رحابة صدرها واتساعها وشمولها أي مجال آخر يوضع على جدول الأعمال.
لنستحضر،ثانيا،أن القمم العربية-مند انبعاث الجامعة العربية إلى اليوم-كان حصادها متواضعا إن لم نقل مذموما،إذ أنه لم يرتق إلى مستوى مواجهة التحديات العاصفة بالأمة العربية ولا إلى مستوى تطلعات مثقفيها وجماهيرها،وإن استطاع بعضها النادر أن يُبقي على الأمل قائما في أن جامعة الدول العربية،رغم تشوهات خلقتها،استطاعت أن تمثل الفضاء العربي الرسمي الوحيد الذي من خلاله يمكن للحكام المنخرطين فيه أن يُقرروا ما يفيد شعوبهم وأمتهم متى خلصت نواياهم وصدق منهم العزم...
إذن،ربما لماهية الثقافة-العربية،تحديدا،بكل إعاقاتها وأوجاعها ومطباتها-ولقصور الفعل السياسي العربي على تدبر الشأن الثقافي تحديا حضاريا،لم تعرب الشعوب العربية عن تطلعها لتكون على موعد مع حدث مصيري بامتياز يغوص في عمق الوجود العربي ومآله...لم تحتف بقرار انعقاد هده القمة المنتظرة بتعبئة قواها الفاعلة من أجل الضغط على أن يكون الحدث استثنائيا وتاريخيا-كما يُفترض أن يفرض عنوانه(قمة الثقافة العربية)،كما أنهالم تحتج عليه مخافة انزلاقه إلى مصادرة ما تبقى لها من هامش حرية يتظلل بالفعل الثقافي حتى إن كان هدا الفعل بلا مرجعية ولا سند يُلهي به المثقفون العامة للتنفيس بشطحات بهلوانية وهيستيريا وسيريالية وابتهالات أمل وانكسار...
بعض المؤسسات الثقافية العربية والنخب الفكرية والمثقفين العرب انشغلوا بالحدث بين داعم ومتحمس له وبين متوجس من أن يتحول إلى قيد إضافي يُكبل الثقافة العربية ويزيدها اختناقا...لكن جل المشتغلين بالشأن الثقافي ومن ورائهم الجمهور العربي العريض غائبون عنه أو تعمدوا تغييبه،وهم في هدا الشأن كأنما لسان حالهم يقول أن أي عمل إبداعي طربي أو كرنفالي أو جمالي،وبقدر أقل،فكري يستهويهم أكثر من أن يشد انتباههم استدراجهم لوجع رأس قمة قادة عرب قد لا يتجاوز مفهوم الثقافة العربية سقف منبر الخطاب السياسي مشفوعا بوليمة "سوق عكاظ"...
وعليه،والحال تلك،فقد يكون الأمل معقودا على ألا تنشغل "قمة الثقافة" بالسياسة الثقافية العربية لتعكف-عن قصد أو عن غير قصد-على الثقافة السياسية العربية.ا..لأن هده الأخيرة-بوضوح ودون مراوغة-هي المعضلة واللعنة...هي مربط الفرس والفيروس الذي ينخر كل أمل في نهضة عربية منشودة ...
ثقافتنا السياسية تقوم على ما يشبه انغصام الشخصية والانشطار المرجعي والخطاب الانتهازي لأنها تأسست،من ناحية،على تراث أُريد له أن يُوظف إما محنطا أو مؤولا بما لا يحتمله لصالح من انتصبوا ورثة شرعيين للخلافة والسلطة،ومن ناحية ثانية،على حداثة انبنت العلاقة بها على التجارب المريرة الاستعمارية والجشع الامبريالي فزُيفت قيمها وأفرغت من مكامن قوتها وسوقت بضاعة مشوهة هجينة كاسدة.
إن ثقافتنا السياسية قُدت من تراث نتبرك به حينا ونلعنه أخرى ومن حداثة أفرغناها من محتواها ألقيمي فجاءت دميمة متخلفة لا تساعد على بناء الإنسان العربي بل تدفع به إلى أن يستمر في جهد درامي عبثي ليس له من غاية أو هدف غير التلهي بالتهريج المحقون بالأوهام كشطحات الدراويش...
ثقافتنا السياسية تقوم على طاعة أولي الأمر دون رقيب أخلاقي ولا وضعي عليهم،وهي متأتية من خطاب سلطوي يدعي العصمة ويطلب إبداء الرأي فيه.ا..
إن السياسة العربية الحديثة تختزل أزمة الخطاب النهضوي العربي،ولذلك يجب أن تعاد صياغة ثقافتها قبل الانصراف إلى تدبر الشأن الثقافي العربي بمفهومه الشامل لأن هدا الشأن محكوم بفعل سياسي عقيم لا تقدر الثقافة على أن تنتعش في مناخه الموبوء...
وحتى نختزل ما نروم التنبيه إليه واقتراحه فإنه يمكن الاكتفاء بالتذكير بقمة عربية أريد لها أن تحمل لواء الإصلاح السياسي انعقدت في تونس سنة 2004 .ولئن كانت هده القمة-شأنها شأن القمم العربية الأخرى- لم ترتق إلى تطلعات الشعوب العربية ومثقفيها في إرساء أسس ثقافة سياسية تقطع مع الرداءة والتخلف وتنخرط في جهد التحديث السياسي الذي مكن الغرب من هيمنة حضارته المعاصرة،فإنها (أي قمة تونس 2004) كانت القمة العربية الوحيدة التي تتخطى المحظور بإقرارها بضرورة الإصلاح السياسي والالتزام باعتماده.دلك أنه مما جاء في إعلان القمة
"نؤكد عزمنا الراسخ على...
-تعلق دولنا بالمبادئ الإنسانية والقيم السامية لحقوق الإنسان في أبعادها الشاملة والمتكاملة وتمسكها بما جاء في مختلف العهود والمواثيق الدولية والميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته قمة تونس،وتعزيز حرية التعبير والفكر والمعتقد وضمان استقلال القضاء.
-العمل،استنادا إلى البيان حول مسيرة التطوير والتحديث في الوطن العربي،على مواصلة الإصلاح والتحديث في بلداننا مواكبة للمتغيرات العالمية المتصارعة من خلال تعزيز الممارسة الديمقراطية وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام،وتعزيز دور مكونات المجتمع المدني كافة بما فيها المنظمات غير الحكومية في بلورة معالم مجتمع الغد،وتوسيع مشاركة المرأة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية ودعم حقوقها ومكانتها في المجتمع ومواصلة النهوض بالأسرة والعناية بالشباب العربي..."
تُرى هل هناك من الشعوب العربية من يعترض على ما جاء في هدا الإعلان من عزم راسخ على الإصلاح السياسي التزم به القادة العرب مند ست سنوات وغالبيتهم الساحقة ما تزال إلى اليوم تمسك بمقاليد السلطة؟أم أن المطلوب هو إضفاء مزيد من المصداقية الأخلاقية على ما يلتزم به قادتنا؟
لعل الانشغال بحفل ثقافي بهيج تلتئم من أجله قمة عربية هو المنشود لبعض من تحمس متفائلا بقمة الثقافة العربية المنتظرة سنة 2011،دلك أن فرجة الطرب متاحة على نخب الهم الثقافي العربي الذي تحكمه ثقافة سياسية بدائية وإن تجملت بالحداثة ووعدت بالإصلاح والتغيير
التعليقات (0)