كان يجب إراقة دماء أكثر من 2600 شهيد, العشرات منهم تحت التعذيب, بينهم أطفال, وجرح واختفاء واعتقال الآلاف. ونزوح أكثر من 15000 "لأجيء" إلى تركيا ولبنان.
كان يجب دك مدن بالدبابات والمدرعات السورية, رافعة الأعلام الوطنية حتى لا يشتبه احد بوطنيتها وطبيعة رعبها, فالدبابات وطنية والرعب وطني صرف. وتعميمه لأغراض وطنية.
كان يجب أن تمر خمسة شهور حتى يتم التأكد بان المطالبين بالحرية والكرامة الإنسانية والديمقراطية ليسوا سلفيين أو طائفيين أو عصابات مسلحة. انه شعب سوريا. وان الأمر غير متعلق بالمؤامرة على سوريا واستهداف سوريا, الشعب لا يتآمر على نفسه وعلى بلده, وإنما متعلق برفض الذل والظلم والاستبداد الذي ساد نصف قرن. رفض النظام. سوريا ليست النظام. الدولة ليست النظام. فقد ولت منذ قرون عهود الدولة أنا.
كان يجب أن تمر خمسة شهور للتأكد بأنه من المستحيل القضاء على العصابات المسلحة (التي "قبت" فجأة كالفطور في كامل الأراضي السورية, ونزلتها كالأشباح غير المرئية, بأسلحتها الخفيفة والثقيلة, المهربة من كل حدب وصوب في ظل الدولة الأمنية العصية على حركة الأفكار والرياح, فكيف بنا والأمر متعلق برجال وسلاح؟!!!. وكيف يستعصي تدميرها على قواتنا المسلحة والأجهزة الأمنية المدعومة بفرق الموت من الشبيحة ؟!!!).
كانت الفرصة المعطاة للنظام لتصفية الأمور, والتي يجوز الصمت المطبق خلالها, لا يجوز أن تزيد على خمسة شهور, يصبح بعدها هذا الصمت غير مطبق وغير مطلق, لأنه في هذه الحالة يرقى إلى درجة المشاركة في المسؤولية عن كل ما يحدث.
كان يجب أن يصرح اوباما ومن بعده كلينتون بان الأسد كاد يفقد شرعيته, ثم يلحسا تصريحاتهما, ثم يعودا إليها .., حسب مؤشر عدد القتلى وردود أفعال الشعوب الغربية, وحسب ذبذبات وتأرجح المصالح الآنية ومواقف دول المنطقة العربية.
كان يجب أن تتواتر الاستنكارات والاحتجاجات من الدول الأوروبية والتهديدات باستصدار قرارات دولية, وتفرض العقوبات الشكلية والفعلية على النظام, في موازاة الصمت والزيارات السرية العربية الحاملة للمساعدات الخفية.
كان يجب أن يصدر تحذيرا روسيا من عواقب التغول في القتل المنظم لأنه يقود القاتل إلى مصير بائس, وإشارة إلى إمكانية التخلي عن التهديد بالفيتو إذا ما طالب مجلس الأمن بقرار وقف المجازر وإدانة أعمال قتل الأبرياء . ( تخل مشروط بعد مراوغات وصفقات, قاد إلى الإفراج عن إصدار بيان رئاسي من مجلس الأمن).
كان يجب إن يصدر الإعلان المذكور ليدين القمع, ولو بلهجة يكاد يكون العنف فيها أقرب إلى العتاب, والتوسل بقبول نصائح دولية متعلقة بالإصلاح وتعديل السلوك. لهجة ونغمة لإرضاء الروس, والمندوب اللبناني ممثل النظام السوري في مجلس الأمن بالأصالة وبعض لبنان بالتبعية.
كان يجب أن يظهر بان غي مون الأمين العام للأمم المتحدة كالمسكين يطالب بوقف العنف المفرط, ويكرر مسكنته رغم عدم رد المعني بالأمر على هاتفه الخاص, إمعانا في الحط من شأنه, ومن شان التصريح المذكور. (قد يوصي وزير الخارجية السوري ردا على ذلك بالطلب من السوريين بنسيان أن هناك أمم متحدة وأمين عام لها ومجلس أمن ويلحق الجميع بأوروبا المنسية. والتوجه إلى إيران والصين وجنوب الجنوب).
كان يجب انتظار تصريحات بابا الفاتيكان حتى يصرح شيخ الأزهر الشريف, بعد خمسة شهور, بتحريم القتل وإدانة العنف المفرط.
كان يجب أن يعلن اردوغان, العائد بعد غياب, للتعليق على ما يجري بسوريا قائلا بأن تركيا فقدت صبرها أو تكاد. وبأنه مُصّر على إرسال وزير خارجيته مع رسالة حازمة للقيادة السورية (رغم تبليغه بأنه سيسمع "ردا أكثر حزما"). وجاء أوغولو وبلّغ الرسالة, وعاد مؤجلا تفاؤله, إلى حين تصله أخبار تحقيق الإصلاحات التي وعدته القيادة السورية على أعلى المستويات باتخاذها وتنفيذها "خلال أيام". مع علمه شبه الأكيد بأنه سوف لن يكون سعيدا, كسعادة نبيل العربي, ولا حتى متفائلا.
كان يجب أن يحدث كل هذا حتى يعبر الخليجيون و السعودية, مشكورين على كل حال, عن قلقهم ومخاوفهم مما يمكن أن يحدث في المنطقة. قلق, ليس في غالبيته, من إسالة الدماء فان هذه تسيل منذ خمسة شهور دون انقطاع, وإنما من التخوف من نتائج الصمت الذي لم يعد بالإمكان الاحتفاظ به طيلة هذه المدة. فكسروا إلى حد ما حاجز التخوف دون خوف.
كان يجب أن يكسروه حتى يكسره بدوره, ومتأخرا عنهم, السيد نبيل العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية, وان كان قلق هذا الأخير وتخوفه ليس مصدره غزارة الدماء والإمعان في الدمار, فقد كان هذا موجودا وبنفس الحدة حين زار دمشق وصرح تصريحه الشهير بالسعادة لما سمعه من وعود بالإصلاحات ومن أعلى المستويات, ( سيكون عزاؤه, انه لم يكن أول ولا اخر"المضحوك "عليهم, من قبل أساتذة فن الخداع, وليسمح لنا سعادته بهذا التعبير لأننا في واقع لا يسمح لنا باللجوء للغة الدبلوماسية), قلق الأمين من طبيعة أخرى, ولأمور أخرى, تتعلق بتأخر تنفيذ الإصلاحات التي كان قد سمعها في زيارته المذكورة للقيادة السورية, وعليه فهو, وحتى يتبدد قلقه, وينجز عملا, يدعو الأطراف للمصالحة, خاصة وان سوريا "دولة مؤسسات" , كما يخبرنا بتصريح جديد, وكانّ الأمين رغم خبرته الدبلوماسية الواسعة, وتجربته السياسية المحدودة في جامعته, خريج المدرسة الروسية. أو من المؤمنين بسياسة "تبويس" اللحى في المصالحات العربية الشهيرة (امسحها "بهل الدقن", والمسامح كريم), واعطني تصريحا أعطيك مخرجا. وكأنه ليس قادم من مصر الثورة إلى الجامعة العربية التي لم تعد مسرحا تهريجيا للقذافي ومبارك وزين العابدين وعلي صالح, كما بدأ البعض يعتقد. (لا نقيّم هنا الرجل وإنما نقيّم موقفا للرجل).
تخرس اللغة الدبلوماسية, أيها السادة, عندما تسفك دماء الأبرياء من أطفال وشباب وشيوخ ونساء. تصبح عبارات مثل: القلق. والتخوف. والهواجس. والعنف المفرط. والحكمة. وضبط النفس. وتقريب المواقف. وتحكيم العقل. والحوار الجاد. ويكاد ينفذ الصبر. ويكاد يفقد الشرعية. وإعطاء الفرص. مجرد عبارات خشبية مهينة ومهانة ومعيبة. وخاصة حين تستعمل في غير محلها وفي غير أهلها.
نعم, أيها السادة, في مواقف فيها قتل أبرياء, من رجال وأطفال وشيوخ ونساء, تخرس الدبلوماسية لأنها تصبح تواطؤ مع القاتل, وتبرير منمق وغير أخلاقي للجريمة. وتحل محلها لغة الحزم لتسمى بأسمائها الأشياء. تسقط المفردات الأكاديمية, مثلما تسقط النصائح والعظات الأخلاقية والدينية من على كل المنابر. تسقط مقولة السياسة مصالح صرفة, وإلا لكان مبررا قتل المجرمين لضحاياهم بحجة أنه من أجل تحقيق المصالح. وتبرر ادعاءات الاستعمار بأنه يبحث عن مصالحه الحيوية بكل الوسائل بما فيها الاحتلال والقتل, فسياسة الاستعمار من السياسة.
أمام المجازر وقتل الأبرياء, أيها السادة, تسخن دماء من في عروقهم دماء. تتحرك الإنسانية والقيم والأخلاق عند من يملكوها, ليصبح قول الحقيقة كما هي دون مدارة ومراوغات, وحسابات, ولف ودوران, هو الواجب الأخلاقي والقيمي والإنساني, وهو ما يردع الباغي عن استمراره في بغيه.
الصمت و لغة الدبلوماسية الخشبية, لا يستقيمان مع المبادئ الأخلاقية, والشهامة والنخوة العربية, وأي من القيم الإنسانية. إنهما نوع من التواطؤ أو دفن الرؤوس في الرمال. إنهما وسيلة يلجأ إليها من يهرب من اتخاذ المواقف قبل انجلاء المواقف. (لا يخفف من ذلك, بين حين وحين, ومن هنا وهناك, "خربشات" مبهمة على جدار الصمت لا تقول شيئا ولا تعني أمرا.
صمتكم يقتلنا, صرخات أطلقتها مئات آلاف الحناجر في مظاهرات سلمية ممن يفقدون يوميا إخوة وأقرباء في الدم, وأصدقاء وأخوة في المواطنة. جريمتهم مطالبتهم بالحرية والكرامة الإنسانية. صرخات ليست استجداء معونة, وإنما تقرير حالة. صرخات استطاعت, مع ذلك, أن تحرك شهامة من فيه شهامة, ورجولة من فيه فحولة, صرخات كثيرا ما لامست أسماع الأجنبي, وقليلا ما لامست نخوة المعتصم العربي.
ولكن لعل الصمت الأكثر قتلا هو صمت أخوة الداخل, أخوة الوطن الواحد, والمصير الواحد, أخوة سالت الدماء حولهم وصمتوا. أخوة رأوا أرواح الشهداء ترتفع للسماء وصمتوا. أخوة طلب إخوتهم لكل أبناء وطنهم, بكل اتجاهاتهم السياسية والدينية والمذهبية, الحرية والكرامة والديمقراطية, فلم يساهموا وصمتوا. منهم من "خربش" على جدار الصمت بعض "الخربشات" وصمتوا, ومنهم من نطقوا ببعض مبهم الكلمات وصمتوا. ومنهم من غيبه الصمت غيبة الأموات.
لاشيء يبرر الصمت عن الحق. وعلى من يبدي قلقا أو تخوفا من جرائم منكرة أن ينطق برجولة كلمة حق, إبراء لضميره, وتصالحا مع وطنيته, ورحمة بأرواح الشهداء, ومشاريع الشهداء, ووقفا لسفك الدماء.
د.هايل نصر
التعليقات (0)