شكلت مسألة الثقافة واحدة من القضايا المثيرة لكثير من الإشكاليات الفكرية والمجتمعية والإنسانية.وشكلت على الدوام موضوعا للمقارعة الحجاجية بين حقول فكرية تختلف من حيثالمناخ المرجعي والاديولوجي والأخلاقي... ولا أحد أنكر وينكر مدى الحمولة الإنسانية والهوياتية التي يكتنزها متن الثقافة الذي بات يتشوه بفعل عوامل العولمة الاقتصادية والتعرية الثقافيةوالتجوية القيمية.. الأمر الذي بات يوسم وجه الثقافة بالقلق. قلق يزداد حيرة بتسارع وثيرة الاكتساح الاقتصادي للدول الغنية الذي يخفي في عمقه رغبة هوجاء في الامتداد الثقافي الذييؤسس لامبريالية جديدةيمكن تسميتها بالامبريالية الثقافية ، التي تتخد من العلم والتكنولوجيا والمادة والصورة آلياتومكانيزمات اشتغالها.
إن أطروحة هذا المقال المتواضع ليست تغنيا وتطبيلا للفلسفة الماركسية التيتقر بجدلية الاقتصاد والفكر مع اشتراطتبعية الثاني للأول . لكن هي تركيبةموقف إنسان حول ما يعايشه ويتفرج عليه من حلقات مسلسل " تراجيديا الثقافة " الذي هو من إخراج وبطولة "هم"وتمثيل وتشخيص "نحن". وبيننا نحن وهم علاقة تفاوت في المنطلق والمسير والمنتهى.
إن مفهوم الإنسان الأعلى " النيتشوي " يجد امتداده في مفهوم الإنسان الأخير " الفوكوياموي " الذي يحتكر لذاته صبغيات الإرادة والعمل والإنتاج والحداثة والقوة والعلم...التي تجعل منه كائنا متميزا في تمثلههو وتمثل من هم آخرون بالنسبة إليه. فالتفوق الاقتصادي ل "هم "والوهن الاقتصادي ل "نحن" هو ما يتحكم في كل التفاعلات الثقافية بين الشعوب والمجتمعات . وهذا التفاعل قد يكون بصيغة الإيجاب حينا ا وبصيغة السلب أحياناأخرى. فوجه الإيجاب يكون في حالة التفاعل الذي يصون لكل مجتمع أرشيفه الثقافي ويحترم دازايانه المتفرد والمتميز والخاص . أما وجه السلب فيقترن بنية التفاعل في تحويل ثقافة مجتمع من ضمير "أنا" الخاص نحو ضمير "الناس" المشترك. حيث يكونهذا الضمير الجمعيحقلا لانذواب ثقافة الضعيف اقتصاديا في ثقافة من هم أقوى ماديا.( انتقال الثقافة من ضمير je الى ضمير on ).
إن عملية الانتقال هذه ، ليست بحدث سعيد بالنسبة لثقافة المستهلك اقتصاديا. لأنها تسلب لها مظاهرها وجواهرها وتعدل جيناتها الثقافية وفق نمط ثقافة الغير ومقاسها..وبهذا الشكل تصير نمذجة الثقافات أحد المرامي الكبرى للامبرياليةالثقافية.
إن اختصاص الأنساق الثقافية بالتغير والتنوع والنسبية يجعل الظاهرة الثقافية محكومة بالديالكتيك الاجتماعي الذي يؤول بها نحو تحولات كميةوكيفية وفق قانوني السيرورة والصيرورة . ولأن المجتمعات البشرية باتت محكومة بقواعدلعبة العولمة ، فإن سيرة الثقافة باتت تنتتقل من حالة الثقافات المنغلقة نحو الثقافات المنفتحة ، التي توحد التعدد الثقافي في مشروع الوحدة الثقافية . وبين وضعية التباعد الثقافي وحلقة الوحدة الثقافية سيناريو مسلسل مركب على مستوى الشخوص والقيموالزمكانوالأحداث.
مر مشوار الثقافة بمجموعة من المحطات الأساسية يمكن إجمالها في ما يلي :1)محطة التباعد الثقافي2 ) التقارب القافي 3) التماس الثقافي4) التداخلالثقافي 5) الانسجام الثقافي 6) التطابق الثقافي7)الوحدة الثقافية.
أما ما يربط هذه الوضعيات فيما بينها فهي مشيمة الاقتصاد التي تمكن المجتمعاتمن تبادل السلع والمنتوجات علاوة على ما يواكب هدا التبادل من تبادل للقيم والثقافات.. ومما يؤشر على هدا التلاحم بين السلعة والثقافة هو تزايد أسهم تداول مجموعة من اللغات بالتزامن مع تزاد استهلاك مجموعة منالمواد.. فتقدم اللغة الانجليزية عالميا يفسر بالقوة الاقتصادية للدول صاحبة اللسان الانجليزي. واليقظة الحيوية للغات الصينية والياياننية تترجم يقظتها الاقتصادية.إذن فبين اللغات والمواد علاقات وحكايات.
أكيد أن إرهاصات قلق الثقافة كثيرة ومتنوعة ، تبصم كل مناحي النسق الثقافيمن لغة ودين وأخلاق وعادات اللباس والأكلومحددات السلوك. ولا ريب أنتضخم ملامح القلق هذه من شأنهاأن تسبب لرساميلنا الثقافية جروحا عصابية ودهانية، تجعل مستقبلنا الثقافي موسوما بالارتباك والخجل في التباهي والتماهيمع ثقافات الآخر. فلنعمل جميعا على إنقاذ أرشيفنا الثقافي من مقاصل الاحتضار.لأنه بكل بساطة ،عندما تحتضر الثقافة تحتضر الهوية. أما كيفية صون ثقافتنا من التيهان فأترك المجال مفتوحا لتصورات القراء الأفاضل.
التعليقات (0)