مهارة فائقة..واستثمار جيد للمخيلة هو ما تفتق عنه ذهن السفير القطري وهو يبرر مغادرة الأمير حمد بن جاسم لنواكشوط غاضبا ودون أن يحظى بتوديع رئيس الجمهورية ولا وزيره الاول..فليس الجميع يمكنهم الدفع بان"سموه لا يحبذ تلك البروتوكولات الشكلية" في مثل هذه المواقف العصيبة التي يندر ان تظهر اثناء الزيارات الرسمية بين قادة الدول خصوصا مع الاعداد الطويل للزيارة واستباقها بالكثير من الاحاديث الودية عن عمق العلاقات ما بين قطر وموريتانيا..
ولكن هذه القدرة البلاغية واللباقة اللافتة التي عادة ما تفيد في التملص من بعض الاسئلة الصحفية المترعة بالفضول الخطر..ولكنها قد لا تكون كافية تماما لاهالة التراب على انباء الخلاف الذي لاكته وسائل الاعلام بكثافة قد تغني عن قلة التفاصيل..
ولكن على الرغم من تلك القلة في التفاصيل ..وكل ذلك التكتم الذي رافق النهاية الغريبة لتلك الزيارة..الا اننا نستطيع ان نستشف ان السبب الرئيس لذلك الخلاف الدبلوماسي المحرج هو تلك النصائح التي وجهها الامير القطري الى الرئيس ولد العزيز بضرورة فتح الباب امام الاسلاميين وتمكينهم من المشاركة الفاعلة في الحكم ..وان الاشارة الى الملف السوري وطلب الشيخ حمد من الرئيس الموريتاني المساعدة في الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد لوقف سفك الدماء السورية لم يكن الا من مستلزمات التخفيف من وقع الارباك غير المتوقع بين قيادتي دولتين وقعتا للتو اربعة عشر اتفاقية تعاون..
فالامارة الصغيرة الضائعة بين امواج الخليج قد اسرفت في الفترة الاخيرة في محاولة تسويق نموذج الاسلام الاخواني المعدل في استباق لاهث متعجل على حجز المواقع على الارض قبل سلفية آل سعود لوعيها بفرادة الفرصة التاريخية التي هيأتها الاضواء الخضراء الساطعة المنبعثة من البيت الابيض تجاه امكانية التعاون مع حركات الاسلام السياسي وفق اشتراطات آنية قد لا يصعب على الاخوان الانقلاب عليها مستقبلا..واستغلالا لغياب الدور المصري والانكفاء التقوقعي الراهن للحكم السعودي وتخشبه في التعامل مع المستجدات المتلاحقة التي يبدو ان شيخوخة رموزه تجعله غير مؤهل"روماتيزميا"لمواكبتها او التعامل معها وخصوصا من خلال التعاطي الاعلامي الناجح ومحاولة التأثير على الرأي العام.. وهذه الدعوات نحو أخونة المشهد الثوري العربي والتي ترسلها قطر وتحاول دسها في مفاصل الحراك الشعبي..ورغم الاعتراضات العلنية من هنا وهناك والتي وصلت حد تنظيم الاحتجاجات الشعبية او التصريحات المنددة الذي صدرت عن الكثير من العناوين الرسمية العربية..الا ان النجاحات التي احرزتها هذه السياسة في العديد من المواقع وخصوصا على الساحة المصرية قد تشجع الامارة المأزومة بضيق المساحة على المضي قدما في مشروعها التورمي حتى لو ادى ذلك الى ابتلاع بعض التجاوزات الدبلوماسية ما بين الحين والآخر..
فان الامارة المرهقة بالاحساس الذي يولده الشعور بالضآلة..والتي تبدو على الخارطة كبثرة مهملة مقارنة بطرفي الخليج المتوتر قد تكون وجدت اخيرا الفضاء الذي يؤمن لها امكانية التمدد الى الحجم الذي يوازي احلامها من خلال الجسد الاخواني المنتشر على مساحة واسعة من المشهد السياسي العربي..فبعد سنوات طوال من محاولات التضخم من خلال المزايدة على السعودية في خدمة المصالح الامريكية في المنطقة التي لم تسفر لحد الآن الا عن ابتلاع مساحات شاسعة من جسد الامارة الناحل للقواعد العسكرية الغربية..وبعد اسراف في تملق الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة وطرح الامارة كقفاز للممارسات السياسية والدعائية دون مقابل واضح وجلي الا من خلال "السماح"لها بتقديم الخدمات الفندقية لبعض الفعاليات الدولية المكلفة..نجد انها استطاعت اخيرا ومن خلال بعض المرسلات الفضائية والقليل من مشايخ الازهر السابقين ان تجد نفسها وللمرة الاولى في موقع الدولة المؤثرة والفاعلة على صعيد يتجاوز كثيرا الافق المسدود الذي تمثله لها عقدة الصغار القدرية..
ولكن هذا الاندفاع القطري قد يكون مبنيا على حسابات لحظوية اكثر مما ينبغي لبناء سياسات ستراتيجيات طويلة المدى..فلا ينكر ان التغاضي السعودي عن التحركات القطرية يعود في جله الى تحالف الممالك الخليجية ضد ثورات الربيع العربي وعدم الرغبة في تفكيك جبهة الطغيان في هذه المرحلة الحرجة ..كما ان البناء على استمرار الرضا الامريكي قد لا يكون خيارا ملائما مع فرق الحجوم الذي قد لا يجعل الولايات المتحدة تأسف كثيرا على حليفها الاصغر في حالة ظهور مستجدات جديدة تفرضها طبيعة التقلبات السياسية التي تحكم المنطقة وان الدولة المثقلة بالكثير من العلاقات المحرمة مع قوى الارهاب والحركات الجهادية قد يكون من المفيد ان لا تطمئن كثيرا لحظوتها الحالية لدى الغرب..والاخطر هو ان يجبر النزاع القريب –والحتمي-ما بين الاخوان والسلفيين الحكم السعودي على ان يتخلى عن حذره ويشمر ساعديه مستثمرا"حجمه"وعلاقاته المتقادمة مع الغرب لاعادة الشيخ المنتشي بصباه الى الواقع..والاهم هو في انعدام الفرص امام الرهان على استمرار العلاقة مع حركات الاسلام السياسي المتمتعة بحربائية اكثر من كافية للانقلاب على الجهات الراعية بعد ان تثنى لهم الوسادة وتظهر الى السطح مشكلة تحديد هوية الخليفة الراشدي السادس..
ليس تقليلا من مكانة قطر..ولا رغبة في الاساءة الى شعبها الكريم المغيب تماما الى خارج اطار الصورة..ولا افتئاتا على حق الشعوب بان تكن لها كلمة فاعلة في الاحداث..لكنها حقيقة تعلمناها من طبيعة الحس السليم بالاشياء-بل ومكتوبة حتى على حيطان المقاهي الشعبية- وهي ان فاقد الشئ لا يعطيه..وان الامم لا تستطيع ان تعطي النصائح السياسية حول مفهوم الديمقراطية والتعدد والحوار دون ان تكون لها تجربة في الحياة البرلمانية تبرر لها التدخل لنصرة الشعوب الساعية لنيل حقوقها السياسية..كما انه ليس من اللائق ان تمعن دولة ما على تصدير رؤاها الى الشعوب الاخرى وهي لا تخرج عن الترويج لنمط جديد من التبعية يبنى على انقاض النظام الذي ثارت عليه الشعوب.. وان الحضارات لا تبني بافواج المجنسين وزعيق القرضاوي ولا بالصورة التي وضعتنا "الجزيرة"داخلها..وانه على الرغم من ان حجم الدول قد لا يعكس بالضرورة مدى تأثيرها الدولي والاقليمي..فانه في حالة قطر..وقطر بالذات..فان الحجم عامل معوق اكيد تجاه لعب دور محوري في لعبة تصادم الامم التي تشهدها المنطقة..
التعليقات (0)