أتى اليوم الذي كٌشف فيه أمر سلفادور و عرف كل من في الكنيسة بأنه هو من يتولى سرقة الورود و يعيد بيعها بأثمان باهظة. أنتبه القس إلى ذلك و لم يجد أحدا ليدافع عنه ما عدا ماري و قد دافعت عنه بشدة بل أنّبت القس كونه لجأ إلى تدنيس قبور المسلمين مستعينا في ذلك بسلفادور حين كان طفلا عندما كان يدعى إسماعيل، أنبته لكونه اختطف منه الرمانة المقدسة على حين غفلة. و كان هذا كفيل لتكون عقوبة ماري كعقوبة سلفادور.
اقتيدت ماري و سلفادور إلى السجن ؛ فانزوى هذا الأخير بالقرب من سريره. و قد تدلّت أغطيته البالية على أكتافه ، يزيحها من حين لآخر ضاغطا على أنفه تجنّبا لرائحة الرّطوبة النتنة التي تنبعث منها. كلّ شيء نتن في السّجن، بما في ذلك جدرانه و المعاملة التي يتلقاها السّجناء فيه. كلّ شيء يُشعر المرء بالغثيان حين يرى تلك الأماكن التي تحوّلت إلى زريبة كبيرة يُلقى بها الرّجال دفعة واحدة. و يتمّ إخراجهم منها واحدا تلوى الآخر، إذ يبحث السّجان بينهم عن المكتنز الذي يقاوم آلة التّعذيب طويلا، فيُؤجل إخراجه إلى حين يذوب فيه الشّحم. و هو يوصي العمال بقطع إمدادات الطعام عن كل سجين بدين، و ذلك وفقا لحمية التعذيب اللازمة.
كل شيء يقدم لهم بشحّ كبير ما عدا الإساءة، فالإساءة إليهم و الى أهلهم و أمواتهم هي الشيء الوحيد الذي يُقدّم إليهم بكلّ سخاء.
يتسلل الضوء من نافذة تكاد تكون مجرد فتحة صغيرة لن يتمكن فأر صغير من العبور منها، و قد زادتها الشبابيك الحديدية ضيقا على ضيق.
انساب الضّوء إلى النّصف الأعلى للزّنزانة، بينما بقي نصفها السّفلي مظلما. كذلك قسّمت أجساد الجميع إلى نصفين ، فبدوا بشرا نصفهم الأعلى فوق التّراب، و نصفهم الآخر ضارب في أعماق الأرض.
يداعب سلفادور الصّليب المعلّق إلى عنقه، و كأنّ الذي بين يديه فعلا هو جسد عيسى. و قد بدا واثقا من ذلك حين راح يقبّله مستسمحا إيّاه عن تلك السّرقة التي أقبل عليها. لكّن الأشياء الجامدة تزداد جمودا حين يكون المرء راغبا في تحريكها، لم يسمع الصّليب و هو يكلّمه.
راح الحارس من وراء القضبان يؤكّد له أنّ المغفرة التي يطلبها سيراها في منامه ، لكنه ردّ عليه بأنّ الأحلام في معظم الأحيان ليست سوى عالم لتحقيق ما لم يُحقّق على أرض الواقع على حد تعبير فرويد.
يشع الصليب من عنق الرّجل، و كان الشّيء الوحيد الذي يلمع في زنزانة نسج الظلم و الظلام بذلتها. يتألّق بين عيون السّجان، لكّن لم يعد يفتنه مثل السّابق. تمدد سلفادور مغمضا بصره غير آبه لقطرات الدم التي راحت تسقط على الصليب. ذهل مما جعله يبدو و كأن حادثة الصلب حدثت فعلا و للتو.
ينظر السجان خوسيه إلى الجميع من خلف القضبان. فلم يعرف إن كان هو السجين و هم أحرار أم هم المحجوزون و هو الطليق.
كلاهما كان ينظر من وراء الحديد. عمد إلى جيبه و أخرج منه ورقة. لم يتحمّس لقراءتها كثيرا.
يخرجها ثم يعيدها في الحين . انتبه الجميع للأمر فقاموا إليه يسألونه عن محتواها. ابتعد عنهم قليلا و تراجعت قدماه إلى الخلف؛ ربما خوفا من أن يخطفها أحدهم منه، أو ربما أراد أن يتلوا عليهم ما كتب فيها لجعلهم يواجهون مصيرهم من دون أن يواجهوه هو. شجّعه سلفادور على القراءة ففعل. إذ أدار لهم ظهره و أخبرهم عن قرار الإعدام الذي صدر في حقهم.
لم يقتنع أحد منهم فراحوا يصرخون مفندين ذلك ، إذ لا يمكن إصدار الحكم من دون أن يحظوا بمحاكمة عادلة. اغتنم السّجان ثورة غضبهم فألقى بصناديق صغيرة إلى داخل الزنزانة، و لم ينتبه أحد لذلك بالفعل.
بدأ المساكين في ممارسة التّعايش مع فكرة الإعدام. لقد كان الأمر لكل منهم في غاية الصّعوبة. فمحزن أن يعرف المرء بأنّه سيعدم ؛ و مما يزيد من حزنه معرفته لأدقّ التفاصيل حول ذلك. شاق أن يعرف بأن الجلاد قد قام بضبط عقارب السّاعة، فحدّد الوقت اللاّزم لذلك ؛ و اختار الآلة التي تصلح للأمر، مقصلة كانت أو حبلا أو...
قالت ماري بصوت غير صوتها المعتاد:
- سنعدم في يوم ... قبل الفجر... لماذا قبل الفجر؟ قبل أن يتنفّس الصّبح الجديد.؟
التفت سلفادور حواليه و مدّ يدّه إلى عنقه و جذب الصّليب بقوّة جعلت الدّم يسيل من رقبته. و تفاجأ بتجلط الدم عليه. أراد أن يعرف مصدره لكنه لم يتساءل بل اكتفى بتثبيت بصره في بؤبؤ خوسيه. فهم هذا الأخير أن الرجل يستفسر عن مصدر الدم فأشار له بسبابته إلى قطع لحم معلقة في أعلى السقف. كانت القطع تنزف بصمت حال بين السجناء و بين رؤية نزيفها.
رفع سلفادور رأسه محاولا تحديد الشكل السابق لقطع اللحم المعلقة بين السقف و الأرض، لكن الدم المتخثر عليها و بعضه الذي بقي يسيل من بعضها جعله يعجز عن معرفة حقيقة الأمر. انتبه السجناء جميعا إلى أمر قطع اللحم خاصة أنهم رأوا دمها يتقطر على الصليب. قام هذا الأخير إلى السّجان يريه ذلك ساخرا طالبا منه أن ينادي على القس. رفض الرّجل ذلك لأنّه هو من يعطي الأوامر لا السّجناء. راح يصرخ بكلّ قواه. فانتفخت أوداجه مما جعل الدّم يتدفّق مدرارا من رقبته. خاف السّجان من أن يكون الرّجل قد أراد الانتحار بتلك الطّريقة. فحاول تهدئته مخبرا إيّاه بأنّه سينادي على القسّ فورا. انصرف خوسيه يخبر يوحنا الذي أتى ببذلته المذهّبة و طاقيته المرصّعة بالزّمرد. مدّ يدّه يلامس رأس سلفادور. لكنّه صدم به و هو يتراجع إلى الوراء. بدا كأنّه ثور هائج زاد الجرح من خطورته. بصوت هادئ كالمعتاد راح يحدّثه عن مغفرة الرّب، و عن تضحية يسوع من أجل إنقاذ البشرية.
تطاير الشرّ من عين سلفادور و نظر إلى القسّ نظرة تدلّ على الاحتقار. شعر يوحنا بالإحراج أمام السّجناء فراح يلاطف الثّائر، كأنّه يقوم بترويض حصان مجنون. و أخذ ينفض بذلته من الطحالب العالقة بها.
ركز سلفادور بصره في وجه القسّ بقوّة أفقدته كلّ شعور سابق كان يشعر به إزاءه قبل تلك اللّحظة. و راح يقول له غير آبه بأحد :
- ها أنت بثوبك المرصع كأنك عروس في ليلة زفافها، تحدثني اليوم عن مغفرة الرّب و لا تحدثني عن عقوبة الإعدام التي نزلت علي؟.
تقدم القس إليه إذ أراد أن يكون حديثهما أقرب إلى الهمس كي لا يسمع أحد محتواه. خيل للجميع أن الأب قد جلب قرار العفو عنه. و ها هو يخبره عن ذلك خلسة. أخبره بأنّ النّاس كلهم سواسية أمام الموت الذي لا يستثني أحدا.
من دون أن يتوقّع و بطريقة جعلت الجميع يستنتج لبّ الحديث الدّائر بينهما. حدق في وجهه مليا و قد اختصر الفرق بينهما. إنهما ليس سواسية؛ فالقس يرتدي بذلة مطرّزة بكلّ أنواع الخيوط الثّمينة، و سلفادور سيرتدي بذلة الإعدام التي تنتظره و هي مطرزة بإبرة الموت.
أراد القس أن يخفف من وطأة الألم على نفس سلفادور فنصحه بأن لا ينسى بأنّه قد اعتدى على حرمة الموتى، و أنه كان لوقت طويل يسرق الورود من قبورهم.
لكن سلفادور لم يتصوّر بأنّ العقوبة ستصل إلى هذا الحدّ. فالقس بالذّات لم يحدثه في الكنيسة عن العقاب.كان كلامه الوحيد عن الغفران، عن التّسامح حتى تخيلهم مجتمعا خاليا من السّجون. شُطبت منه قوانين العقاب منذ فجر المسيحية الأولى. أراد سلفادور أن يسأل القس عن السبب الذي جعله يمتنع عن الحديث الى الجلاّد عن الغفران ، و عن التّسامح و عن...كلّما تذكر سلفادور أقوال القس تزداد الصّدمة تجذرا في أعماقه.
تنهد يوحنا طويلا و لم يتجرأ على رفع وجهه لمواجهة ذلك الذي أصبح فجأة يكفر بما كان قد آمن به. لقد صنّفه كما عادة رجال الدّين في الخانة التي تليق بتصرفاته. داعب الصّليب بحركة عفوية، و لم يكن يريد التأكّد من وجوده. و بحديث رافقته الحسرة الشّديدة كادت أن تدفعه إلى البكاء راح يقول له:
- المسيحي الحقيقي من يسلّم حياته ليسوع المسيح. !
فهم سلفادور بأن المسيحي الحقيقي بالنسبة للقس هو ذلك الذي يصفعه على خدّه الأيسر و يمنح له خده الأيمن ، المسيحي الحقيقي ذلك الذي يعاقبه على سرقة زهرة من قبور الموتى و لا يجرؤ على مساءلته عن المجوهرات التي تزين طاقيته إذا ما كان قد سرقها من حق الفقراء الأحياء.
أراد سلفادور أن يسأل يوحنا عن السبب الذي جعله يرتدي طاقية مرصعة بمجوهرات تكفي لإطعام نصف سكان الكرة الأرضية لمدة طويلة. استخلص سلفادور أخيرا بأن المسيحيين الحقيقيين بالنسبة للقس هم الذين يوزع عليهم صكوك الغفران في الكنيسة؛ و يوزّع عليهم قرارات الإعدام في السّجون !.
لم يستوعب سلفادور كيف حدث له ذلك؛ و لم يتصوّر يوما ما بأنّ رقبته التي علّق عليها الصليب سيلف حولها حبل المشنقة.
انصرف القس يوحنا خائبا لم يتمكن من إقناع السجين و حتى و إن حاول ذلك فماذا سيقول له؟
هل سيقول له سلم رقبتك للمشنقة و بعدها سيأتي يسوع ليحييك من جديد؟. هل سيقول له ضح بنفسك لأنّك لست أفضل من المسيح الذي ضحى من أجل البشرية؟. هل سيعود إلى خزانة عصر الظلمات ليجلب له صكّ الغفران و فوقه ختم شمعي يبرز العقوبة القاسية ؟.
بعد لحظات أتى خوسيه و معه ورقة؛ لم تكن بالطبع قرار إعفائهم من العقوبة بل كانت مدونة الأمنيات الأخيرة للسّجناء قبل تنفيذ الحكم فيهم.
سألهم عن ذلك مخبرا إياهم بأن إدارة السجن ستقوم بتلبية أمنياتهم الأخيرة كما اعتادت أن تفعل مع نزلائها.
كانت أمنية ماري تتمثل في تنازل القس يوحنا عن الرمانة التي هي أصلا ملك لسلفادور لكونه أخذها منه بطرق السرقة.
سمع السجان أمنيتها فضحك ساخرا و دون الأمنية فسأل سلفادور عن أمنيته الأخيرة فأجابه بكونه يريد استعادة رمانته المقدسة التي سرقها منه القس يوحنا.
يريد أن يعلق إلى حبل المشنقة و هو يحمل فاكهة الملائكة التي تحتوي على حبة قادمة من الجنة ، إنه يريد أن يذوق طعم الجنة من خلال الحموضة المعتدلة للرمانة و إشعاع لون حبها الأحمر الشفاف.
طوى خوسيه الورقة مؤكدا لهم أنهما قد أساءا الاختيار في اللّحظة الأخيرة قبل موتهما. وضع الورقة في جيبه ينتظر الوقت اللاّزم لتقديمها. قام سلفادور يهرول إلى السجان طالبا منه أن يسدي له خدمة قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام. اعتقد السجان بان الشاب سيطلب إطلاق سراحه و التستر على فراره فيما بعد. و استدعى ذلك أن نظر اليه نظرة الرافض للطلب قبل سماعه. لكن سلفادور لم ييأس فطلب منه أن يحاول الوصول إلى غرفته و يفتح خزانته الخاصة به و يبحث بين طيات ملابسه و يحضر له خفية نسخة من القرآن الكريم.
هز السجان رأسه كإشارة بقبوله مبدئيا طلب سلفادور؛ و بالفعل تسلل إلى الغرفة و أحضر له خفية ما طلبه منه. قدم إليه الأمانة ملفوفة في قطعة قماش و بعدها تنفس الصعداء. لقد حقق أمنية شاب ينتظر تنفيذ حكم الإعدام فيه. سينام خوسيه مرتاح الضمير و لكن سلفادور لن يرتاح حتى يجيب على الأسئلة التي ظلت توخزه من حين لآخر كأنه جالس على الخوازيق المدببة. فتح سلفادور القرآن الكريم و انزوى في الزاوية المقابلة للثقوب التي يمر منها الضوء شحيحا. بقي يقلب في الصفحات يبحث عن السور التي تتعلق بالمسيح عليه السلام. قلب بين الصفحات و هو يمني نفسه ألا يغادر الضوء أبدا. لكن هيهات لأمنيته من أن تتحقق . لقد غادر الضوء الضئيل و غصت الزنزانة في ظلام دامس كليل بلا نجوم و لا قمر. أتى الليل و تسلل ضوء القمر الى الزنزانة فحاول سلفادور أن يقرأ تحت الضياء و. حاول مجددا لكن عبثا حقق أمنيته لقد كانت الزنزانة بجدرانها المعتمة تحارب ضياء القمر. تمدد في مكانه و تأكد بأنه عليه أن ينتظر حتى طلوع الشمس عسى أن يكون للزنزانة حظ في نورها من جديد. استمر سلفادور على تلك الحال يقلب صفحات المصحف الشريف يبحث عن رأي القرآن في المسيح. كان يفعل ذلك بلهفة شديدة و لكن يوحنا هذه المرة قطع عليه اللهفة حين فاجأه و هو يدخل الزنزانة فلمح سلفادور قميص يوحنا الذي اندثر تحت رداء مزركش بخيوط الذهب. عرف يوحنا ما يبحث عنه سلفادور فأطلق قهقهة ساخرا منه : - كيف تصدق و تقدس قرآن نزل على نبي ضعيف الذاكرة ، على نبي نسي ما أنزل عليه؟ أغلق سلفادور المصحف الشريف؛ فعل ذلك ليس لأنه تأثر بكلام يوحنا بل لأن الشمس بدأت تغادر من جديد و انقطعت عن ثقوب الزنزانة من جديد. و بعدها وقف يجابه يوحنا لأول مرة : - كيف تعيب على النبي محمد لأنه أنسي آية من سورة ما و لا تعيبون على أنفسكم أنتم الذين جعلتم من المسيح ربا. اذا كان النبي محمد نسي فهذا لأنه بشر و ليس من صفاته الكمال، أما أنتم فقد جعلتم من الذات الإلهية ذاتا جوهرها النقص تأكل و تتعب و تنام ...بل أكثر من هذا كله لم تخجلوا من الاعتقاد بأن حياة الله بدأت من مخرج البول ونهايته الموت على الصليب... ! غادر يوحنا و ترك سلفادور و غيره من السجناء دون أن يرد على ما سمع. ترك السجناء و قد تماهت وجوههم مع جدران الزنزانة المظلمة. أتى الصباح من جديد و أتت الشمس مرة أخرى فشعر سلفادور برغبة ملحة في ترتيل سورة آل عمران. لقد أعادته ذاكرته إلى مرحلة الطفولة. نطق بالبسملة بصوت خافت فمالت إليه ماري تطلب منه إعادة ما قال. لم يتحمّس لذلك ظنا منه أنّه أزعجها فلم يشأ الدّخول في المناوشات، و خاصة و أنّه إذا صدر منهما ذلك ستلغى أمنيتهما فيموتان من دون تحقيقها. و لما رأى إصرارها راح يقول بصوت عال لم يخف الوجل عذوبته و بينت طريقته تمرسه في الترتيل.: - بسم الله الرّحمان الرّحيم. أعادت ماري بعده البسملة. وضع سلفادور الصّليب في زاوية مباشرة تحت سريره. تركه مهملا لم يكلّف نفسه عناء تنظيفه من الدّم الذي سال عليه من أعلى السقف؛ فبدا و كأنّ عيسى حقا قد صلب بتلك الطّريقة. طلبت منه ماري أن يقرأ لها بعض الآيات من القرآن، و كان ذكيا في اختيار السّورة المناسبة. اختار سورة آل عمران فراح يرتلها على مسامع السجناء. استسلم السّجان للتلاوة و قام سجناء الزنازين المجاورة يطلّون من خلف القضبان يسترقون السّمع. كان أغلبهم لا يفهم العربية. لكّن ثمّة شيئا ما يشد آذانهم للاستماع. بدت الزنزانة و لكأن جنا مسلما سكن بداخلها فأصبحت تنصت للتّلاوة.كان صوت سلفادور ينساب من خلف القضبان، و كانت ماري تصغي و ذهنها منصب على بعض الآيات أكثر من غيرها. اندهشت عندما سمعت الآيات التالية و انتبهت إليها كثيرا :»... إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك على نساء العالمين ﴿42﴾...إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا و الآخرة و من المقربين ﴿45﴾ و يكلم الناس في المهد و كهلا و من الصالحين﴿46﴾...رسول إلى بني إسرائيل إني قد جئتكم بآيات من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير و أنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله و أبرئ الأكمه و الأبرص و أحيي بإذن الله و أنبئكم بما تأكلون و تدخرون في بيوتكم«… في تلك اللّحظة اكتشفت ماري رأي القرآن حول عيسى عليه السلام. لقد عرفت بأن القس يوحنا قد كذب عليها في الكثير من الأمور. أثارتها إذن بعض الآيات من سورة آل عمران فتوقفت تتأمل فيها وكذلك فعلت مع بعض الآيات من سورة النساء حيث تلا سلفادور على مسامعها: » ... و قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم و إن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم من علم إلا اتباع الظن و ما قتلوه يقينا ﴿157﴾ بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما ﴿158 ﴾ « ازداد توتر ماري فاتجه خوسيه إلى سلفادور ناهرا إياه عن قراءة القرآن مرة أخرى. لكن السجناء لما سمعوه احتجوا على ذلك. تعجبت الراهبة من كون زملائها مطمئنين و سينامون مرتاحي البال عكسها هي التي ستقضي الليل ساهرة. فقالت لهم : - عجبا ! لماذا لم تحتاروا و لا تتساءلوا ؟. سمعتم القرآن بقلوبكم و علّقتم الصلبان إلى رقابكم و ستنامون مرتاحين.؟ ! تصارعت الألوان المختلفة على وجه الراهبة الصغيرة؛ فتارة تبدو شاحبة لكأن الموت سيدركها في حينه و تارة أخرى يحمر وجهها حتى يظهر داكنا كأنه سينفجر دما فاسدا. اعتقد السّجان أنّ الفتاة و قد اعتادت على تناول الأقراص المهدّئة. إلا أنّه سرعان ما عرف أنّها لا تقدم على ذلك. انتظر الجميع متى تهدأ. لكن عبثا فقد قضت كل وقتها تحتمي تحت الجدار كالمجنونة، و تقبض على القضبان كغريق يشد على ألواح سفينة حطمها الجليد. انصرف السجان ليجلب معه القس يوحنا عساه يعطي لها دواء روحيا. وصل منهكا و زادت حيرته حين رآها غيرها مكترثة به مطلقا، إذ كانت ماري تتصرف كأنها لا تعرف القس على الإطلاق. لم يكن من أولوياتها منذ تلك اللّحظة أن تعطي للفارق الذي بينهما أهمية كبيرة. تحسّر القسّ لرؤية ماري على تلك الحال. أكد لها بأنّه سيتولى الدّعاء لها أمام تمثال العذراء؛ و سيصلي من أجلها كي تجد السّلام الدّاخلي، سيدعو لها من أجل السّعادة الأبدية. وعدها بالكثير من الأشياء الجميلة. لكّن من دون أن يعرف إذ ما ستتحقّق أم لا. لم تكن الفتاة مهتمة بالحديث إليه و بالوقار الذي عهدته. و لم تتجنّب إحراجه بالأسئلة التي كانت تزعجه. لم تعد تحافظ على صورة القس الحكيم المثالي. لم تعرف قدما الرّجل منذ تلك اللّحظة مستقرا لها في الأرض. و لم تكن نفسه هادئة بل شعر بها تتشعّب و لم يعد يتسع له مخه. انصرف القس يوحنا و هو يذكّرها بأنّه سينفّذ عليها عقوبة الإعدام؛ بالتّالي لا ضرورة للإجابة عن تلك الأسئلة الماورائية التي تقلقها. لكّن المتحيّرة من أمرها أصرّت على البحث عن الإجابة؛ و حتى و إن لم تعرف إذ ما كان الوقت سيتسع لذلك أم لا. لأنّها ببساطة أرادت أن تموت و هي تعرف الحقيقة. فمن يموت و هو يعرف ليس كمن يموت و هو لا يعرف. سار القس سير الوقور الهادئ. و هو يعد سلفادور و ماري بالدّعاء الكثير بطلب المغفرة لهما. لكنّه توقّف فجأة و التفت إليه من دون أن يتمكّن من تحديد معالم وجهه نظرا لصدمته جراء ما سمعه. لقد طلب منه عدم القيّام بأيّ شيء باسمه لأنّه ليس بحاجة إلى وسيط بينه و بين الله. كان السّجان أيضا من بين المصدومين لما سمع. لأنّه شأنه شأن غيره من المؤمنين. فمثله لا يريد أن يضع نفسه في مرتبة رجل الدّين. فهذا الأخير أقرب إلى الله كلّما ارتقى في مرتبته. و لهذا يؤمن بأنّ دعوات أمثاله مقبولة. لأنّه في أعلى درجة و الله حسبه لا يسمع إلاّ من هم في الأعلى ، أما النّاس البسطاء الذين يظلّون طوال حياتهم في الأقبية؛ و لا يلبسون الثّوب الجديد إلاّ مرّة واحدة في حياتهم و ذلك حين يموتون يستقبلون به وجه خالقهم؛ فأولئك دعواتهم و صلواتهم مرفوضة !.
التعليقات (0)