مواضيع اليوم

قطرة أخرى من -نزيف الرّمّانة - للكاتبة جيجيكة ابراهيمي ....

ليلى عامر

2010-09-17 18:46:35

0

أرسل إلينا الأخ مقرّب من أ.جيجيكة مقطعا آخر من فصل / في ما يرى النّائم -

و هذا المقطع هو بداية و نهاية القطرة الأولى الّتي أدرجناها سابقا ....

شكرا له على القطرات الرّائعة .....

 

 

أمسى اسماعيل ساهرا بالقرب من صديقه يحاول

إعادة الحرارة إلى جسمه لكن عبثا. و من حين لحين يناديه من دون أن يحظى بالرد. أجهش بالبكاء و هو يهز الجثة التي بدت وتدا مستلقيا بالقرب من الكانون، ثم يحرضه على النهوض كي يقص عليه قصة كالمعتاد من قصص ألف ليلة و لية؛ و من كليلة و دمنة. طلب منه القيام ليخبره عن نهاية دمنة المحتال وهو يبكي :

- انهض يا عمي الطيب و اخبرني إذا كان الأسد قد حزن على قتل شتربة و إذ ما تفطن إلى حيل ابن آوى. انهض لترى البدر قد طلع من وراء السّحب و ننشد معا طلع البدر علينا... و لنسمع جريان الغدران الدال على ذوبان الثّلوج. انهض لكي نحلم بجنة الربيع القادمة...انهض ...انهض... انهض... لأني لن أسمح لك بالموت في هذه الأوحال. !

 

لم يكن اسماعيل يدرك بأنه لن يسمع قصص ألف ليلة و ليلة بعد تلك الليلة. لم يكن يدرك بأن العم الطيب ستكون نهايته على يد الثلج على غير ما كانت نهاية شهرزاد على يدّ شهريار التّائب. لم يكن يعلم بأن الحكايات ستتوقف بينه و بين صديقه على غير طريقة توقفها بين دبشليم الفيلسوف و بيدبا الملك. لم يكن الطفل يتوقع بأن تكون نهاية صديقه العجوز كنهاية الثّور بندبة الذي مات غرقا في الوحل.

 

لم يكن يتوقع بأن صديقه العزيز سيرى النجوم و البدر على طريقته الخاصة، وذلك حين ترفع الملائكة السابحات روحه إلى السماوات السبع. لم يعلم الطفل بأن جريان الغدران و الأنهار لم يعد يهم العم الطيب. فكل ما يهمه الآن هو سماع صوت الكوثر يبشره بالجنة. لم يفهم الصغير بأن العجوز لم يعد يغريه الحلم بجنة فصل الربيع فقد أصبحت الفردوس و عدن من بين جناته التي ينتظر دخولها.

بات اسماعيل طوال الليل بجانب جثة صديقه يتحسس جسده البارد الذي أصبح فجأة يابسا كوتد يئس من وصول فصل الربيع.

يناديه لكن من دون أن يلقى ردا على ندائه. يلمسه و يشد على يديه لكن عبثا. يمد ذراعيه ليحضنه كما عهد أن يفعل.

نام الطّفل على صدر صديقه الذي لم يقم في الليل ليغطيه كعادته. لقد قلب الموت كلّ الأشياء. نام كرجل حكيم وقعت عليه المسؤولية فجأة فراح بالحكمة يتعامل معها. فمن حين للآخر يقوم لينفخ في النّار كي تتأجّج من جديد و يدفئ غطاء صاحبه ثم يدثّره به.

 

لفت انتباه الصغير حركة الجرذان و هي تصدر أصوات تشبه الإنذار بوقوع كارثة ما. لكن في الحقيقة أن الكارثة قد وقعت بموت الشّيخ الطّيب. ماتت تلك النفس الطيبة التي جمعت أهدت الرمانة للطّفل اليتيم.

طلع الفجر و سمع اسماعيل صوت المؤذن يدعو للصلاة. فقام و أذاب بعض الثلج على النار للوضوء. لكن لفت انتباهه أن صديقه لم يقم للصلاة و ليس من عادته أن يتوانى في أدائها. فناداه لكنه لم يجبه و لم يجب لنداء المؤذن.

سحب إناء الماء الدافئ و لما تأكد بأن صاحبه لم يرد عليه ألقى به بطريقة عفوية فوق الكانون ليطفئ به آخر ما تبقى من جمره.

لقد فعل ذلك لأنه يئس من تأثير الدفء على جسد العجوز. لم يكن يعلم الصبي بأنه من الطبيعي أن لا يستجيب صاحبه للنار لأنه باتت أشد ما يخشاه. و لما لا فقد كان كثيرا ما يدعو أن يظفر بالجنة و أن ينجو من الجحيم لأنه ذاق طعمه في الحياة منذ أن تشرد بل و قبل ذلك بكثير.

أشرقت الشمس بعد معاناة دامت ليلة و كأنها بدأت منذ أن خلق الكون. و بدا وجه العجوز أبيضا خاليا من ندوب الحزن. لقد خلّصه الموت من الألم العميق. لكن في وجهه شيء ما يوحي إلى بقايا الأسى المترسب في قاع جلده. و هذا ما جعله يظهر و كأنه لازال حيا.

هكذا اعتقد اسماعيل لأنه على الأقل يعلم بأن الفرحة و الحزن من مشاعر الأحياء لا الأموات.

 

كانت الشمس باردة تماما مثل الثلج لكأنها أمضت معه معاهدة فهان عليها أن تنقضها. كانت الجرذان في حالة تأهب كجند استشعر قدوم العدو. إذ قضت ليلها و صباحها في ذهاب و إياب. و حين يغفل الطفل عن جثة صديقه تقوم بالقفز حولها. فبان المشهد كأنه لطائفة قادمة من بلاد الهند تقدّس الفئران.

تنهد اسماعيل من شدة الانتظار ثم نظر إلى صاحبه و قام بتقبيله على جبينه باكيا و هو يقول :

- أنا لن أنساك يا صديقي.ستفرح بك الملائكة لأنك لم تشأ بيع الفاكهة المقدسة رغم العوز !. لن أنساك يا عمي الطيب لن أنساك أيها الطيب.

مشى اسماعيل بعض الخطوات متجها إلى خارج الجسر و هو يلتفت إلى الوراء بعد كل خطوة يخطوها. كان الصقيع يدمع بصره؛ و كذلك كان يفعل به الحزن الشديد على صاحبه. و لما غاصت رجله اليمنى في الثلج عادت به رجله اليسرى إلى الوراء. لقد كان جانبه الأيسر يحدثه بعدم المغادرة. لقد هان على قلبه الضعيف أن يترك العجوز جثة تقفز حولها الجرذان.

عاد اسماعيل إلى جسد صديقه و جثم عليه باكيا عسى الموت يحن عليه فيراجع قراره . لكن عبثا فقرارات الموت لا رجعة فيها لأنه لا يعرف الندم و لا تتزعزع ثقته في خياراته. كان الطفل يقبل أطراف جلابية صديقه، فبالرغم من كونها بالية تحمل رائحة الرطوبة لكنها كانت ذات شذى طيب كشذى الرياحين. لم يتمكن العجوز من الاستجابة لنداء الصغير لأن آذانه أصبحت معطلة بسبب المنية. و كذلك كانت روحه و سائر أعضاء جسمه.

دثر اسماعيل العم الطيب و بعدها قام مقبلا إياه على جبهته و في داخله إيمان كبير بأن العجوز لا يحتاج إلى من يصلي عليه صلاة الجنازة لأن الملائكة هي التي ستصلي عليه. إنه ليس بحاجة إلى أن يدعو عليه الناس بالرحمة بعد مماته لأنهم لم يرحموه في حياته. أغلبهم لا يتذكرون الرّحمة إلاّ عندما يصبح أمثاله أوتادا.

 

مكث الصبي برهة أمام جثة صديقه الذي لم يحس به. و لو بقي معه سنينا طويلا لن يسترجع إحساسه بالأشياء لأن الموت أعدم فيه تلك القدرة.

لم يتمكن ذوبان الثلج من تليين جسده الجامد. فقد بلغ سيلان مائه إلى المكان الذي نام فيه العجوز. أحيطت به الأوحال الباردة. وسرعان ما تمددت لتبلغ الكانون و تملأه عن آخره مجسدة في ذلك الصراع القديم ما بين الماء و النار.

 

قام اسماعيل بمحاولة زحزحة جسد صاحبه إلى مكان لا تصله الأوحال، لكن عبثا فذوبان الثلج أظهر في الجسر عيوبا لم يكن الصبي قد أدركها إلا في تلك الآونة. تبلل الغطاء الذي كان على الجثة و امتزج الطين الدافئ مع طعم الثلج الذائب من دون أن يحس اسماعيل بلذة اللقاء الموسمي بينهما.

هان على الطفل أن يترك الجثة تغرق في الوحل شيئا فشيئا؛ فراح يجرها من جديد عساه يجد زاوية تصلح ليجعلها تحتها. لكن الجسر كان يقطر من أعلاه كسماء مفتوحة للمطر الوابل. إذ بدأت أسنة الجليد تقطر شيئا فشيئا؛ إذ حن قلب الجليد أخيرا فذاب شفقة على حال إسماعيل و صديقه. لكن طريقة التعبير عن الحنان أزعج الميت إزعاجا لم يتمكن أن يدركه جسده الذي قطع صلته بالحياة.

بقي يحدق في صاحبه الذي يغرقه طوفان ليس كالطوفان الذي ضرب قوم النبي نوح. فالطوفان الذي ضرب العم الطيب لا يحاصر العصاة بل يحاصر فقط المتشردين.

لم تكن حال العجوز كحال قائل "أنا و بعدي الطوفان". لأن الطوفان قد أغرق جثته في أوحال الطين و لفائف الثلج. تحسس الصبي الهدية و تأكد من أنها لازالت في جيبه و هو لم يتوقف عن البكاء. نظر إلى السماء فرآها قد تخلت عن قرص الشمس حين رمته بسحب ثقيلة أطفأت تأججه. كان الصبي ينظر إلى السماء و السحب تتلبد و تلتف حول بعضها البعض؛ و من حين لآخر تتفرق و تذوب مختفية كما يختفي الصوف الأبيض في الماء.

 

اتفق الجوع و الحزن و البرد على جسم الطفل. يلتفت أحيانا إلى جثة صديقه فيجدها تغرق في الوحل رويدا رويدا. دفعه ذلك إلى الارتماء على الجثة من دون أن يتوقف عن البكاء و من غير أن يتفوه بكلمة. أشعره الجوع و البرد بفقدان توازنه و لم ينتبه إلا و كلب صيد آت بالقرب منه ينبح نباحا مزعجا. فقام اسماعيل يطرده بعصا كانت ممتدة بالقرب من الكانون و هو يبكي .

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات