قضيّة الخَمر في الشِّعر
بِقلم: رَوان إرشيد - النّاصِرة
قبل أيام .. حينما مسكتُ بأطراف المَساء جلستُ أمام جهاز التلفاز أترقب برنامج للشيخ يوسف القرضاوي وأثناء حديثه كنت استرجع ما قرأته من مواضيع عديدة بشوقٍ كبير يتحدث به عن وصف بعض الشُعراء العرب للخمر بكل ما لذ وطاب.
حقيقةً صُدِمت وأنا أتابع حديثه بالصُدفة وبعد يوم عمل طويل على قناة الجزيرة، صُدِمت بكل ما قالهُ حول قضيّة الخمر في الشِّعر وغِناء المُطربين والمطربات من هذه المقاطع الخمرية والطرب والرّقص على لحن هذه الكلمات وفوق الدُّموع.
بالنسبة لي انَّ قضية الشّعر حجمها كبير جدًا، وفي هذه القضية شيء ما يُسمى بالمعيار وما هو إلا مكون نصي ومحاولات مساهمة في استيعاب الحيثية من ذاكرتنا الشعريّة بخروج الشّعر عن المعايير والقوانين والأعراف الأخرى، لتصبح الذاكرة منفتحة بالإضافة والتعديل والنقص. ويكون هذا المعيار مختلف اختلافًا جزئيًا عن باقي معايير النصوص اللّغوية.
كنت ولا زِلتُ أتتبع المعاني الخمرية عند جميع شعراء الخمر منذ الجاهلية إلى عصر أبو النّواس حتى قَررت بأن أكتب أول قصيدة من هذا النوع. ولا يسعني إلا أن أقول بأن شعر الخمريات على الرّغم مما فيه من المجون وبعض المعاني السيئة والمنبوذة إسلامياً، إلا أنّه ممتع وطريف ولا يخلو من الصور البديعة، كما أن الشّعر الخمري هو جزءٌ لا يتجزأ من تراثنا الأدبي الكبير.
قرأتُ مقاطع عديده لبعض الشُّعراء المشاهير الخاصة بالخمر منهم "حافظ الشيرازي"، و "عمر الخيام"، و "جلال الدّين الرّومي".
إنَّ أشعار عُمر الخيام هم أشعار لا يعرف المثقف العربي منهم إلاّ رباعيات الخيام. أما أشعار حافظ الشيرازي وجلال الدّين الرّومي فلم يكتب لهم الإنتشار بعد في عالمنا العربي، بالرّغم من وجود ترجمة عربية، وبالرّغم من وجود عدد لَيس بالقليل من الباحثين المصريين، والقائمين على ترجمة الأدب الفارسي إلى اللّغة العربية. ولعلّه من المفيد قبل المتابعة في الحديث عن هؤلاء الشّعراء وتغنيهم بالخمر إبداء بعض الملاحظات الّتي نعرض فيها أشكالًا متعددة ومتنوعة من حضور الخمر في الفكر الديني العربي والأدبي.
فقال الشّاعِر حافظ الشيرازي:
وشارب الخمر الّذي لا رياء فيه ولا نفاق
خير من بائع الزّهد الّذي يكون فيه الرّياء وضعف الأخلاق
ومنهُ الى الشّاعر أبو النّواس، وهو أحد الشُّعراء المميزين في العصر العباسي، عصر النهضة الإسلاميّة، عصر العلم والمعرفة والحضارة، عصر الإنقِلابات والثورات، أحد شُّعراء الطبقة الأولى، أحد شُعراء الخمر لهذا أُطلق عليه أسم - شاعر الخمر - هو الشّاعر الّذي بحث وعبث، وكفرَ وتاب، هو من حَوَت حولهُ الشُّبهات، هو الحائِر بين الشّك واليقين.
كان كثير التلميح فقال في كتاب اسمهُ (إعتِرافات أبو النّواس – للكاتب كامل الشناوي) إن التلميح كثيرًا ما يغني عن التصريح، والتلميح في هذا الموطن بالذات يغني ولا شك عن التصريح، هو الّذي لم يستطع أحد من الشُّعراء العرب مُنافسته في وصفه للخمر. فكان لهُ فضلٌ كبير في تحرير الشّعر من اللّهجة البدوية، وترتيبه ونظمه بطريقة أكثر حضاريّه. وقد قيل عنهُ: (انّ الخمر قد أذهب عقله واتجه بهِ الى الزّهد) .. أما عن أشعاره الخمرية فيقول:
وقُلتُ إِنّي نَحوتُ الخَمرَ أَخطُبُها
قالَ الدَراهِمَ هَل لِلمَهرِ إِبطاءُ
لَمّا تَبَيَّنَ أَنّي غَيرُ ذي بَخَلٍ
وَلَيسَ لي شُغُلٌ عَنها وَإِبطاءُ
أَتى بِها قَهوَةً كَالمِسكِ صافِيَةً
كَدَمعَةٍ مَنَحَتها الخَدَّ مَرهاءُ
ما زالَ تاجِرُها يَسقي وَأَشرَبُها
وَعِندَنا كاعِبٌ بَيضاءُ حَسناءُ
كَم قَد تَغَنَّت وَلا لَومٌ يُلِمُّ بِنا
دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَّومَ إِغراءُ
وفي قوله أيضًا:
ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر
لاحظتُ إذًا أنَّ بعض الشُّعراء يتغنى بالخَمر حيثُ أنّهُ يُساعِد على نِسيان الأحزان، ويستخدمونهُ في كِتابة أشعارهم ليسَ الاّ كمخدر لعدم الشُعور بآلام، وينشطون بهِ ذِهنهم ويساعِدهم على التفكير العميق، وقد يكون سَببًا رئيسيًّا في الإبداع الفِكري والكِتابي فعندما يَشرب الشّاعِر الخَمر يصل بهِ الى مرحلة ذِهنيّة معينة تجعلهُ في هذه الحالة أن يقول شِعرًا لا يستَطيع أن يقولهُ في حالته الطبيعيّة كهذا الشّاعِر.
حيثُ يقول:
لأقْطَعَنّ نيَاطَ الْهَمّ بالْكأسِ
فليسَ للْهمّ مثْلُ الكأسِ من آسِ
وفي قوله أيضًا:
" انَّ من الأفضل أن يسقط المرء في مجلس شراب أو حفلة سكر، على أن يسقط في ساحة القتال، لأن مدمن الخمر عندما يسقط، يمكن إيقاظه وإحياؤه مرة أخرى، بعكس الساقط في ميدان القتال."
ومنهُ الى أمير الشُّعراء أحمد شوقي الّذي نظّم الشِّعر في المدح والرّثاء والغزل والفخر والخمرة أيضًا. فقال قصيدتهُ المعروفه "سَلوا كؤوسَ الطِلا" والّتي قد نظمها خصيصاً للمطربة أُمّ كلثوم فكانَ الشّاعِر يقدِّر أمّ كلثوم لأنها أديبة تفهم ما تغنّي، وهي تحفظ القرآن، ولا تشرب الخمرة.
"كؤوس الطلا" وهي أنواعًا مختلفة من الخمور.
فهذِهِ القصيدة الشِّعريّة للشّاعِر أحمد شوقي هي الأكثر كثافة .. فمطلعها يقول:
سَلوا كؤوسَ الطِلا هل لامَسَتْ فاها
واسْتَخْبِروا الراحَ هل مَسَتْ ثناياها
ويختتم القصيدة بقوله:
يا جارةَ الأيك أيّامُ الهوى ذهبتْ
كالحلم آهاً لأيّام الهوى آها
لاحظت أنَّ مأساة الشّاعِر أحمد شوقي كبيرة جدًا، فكان يُعاني من إنفراط الزّمن والأيام، وهو في قلق دُنيوي دائِم.
ومنهُ الى المتنبي، حيثُ يقول:
يا ساقييَّ أخَمرٌ في كؤوسكما
أم في كؤوسكما همٌّ وتسهيدُ
فنُلاحِظ معًا أنَّ للخمر في هذا المقطع دلالات متعددة لا تتجاوز في حدودها العادي واليومي.
ومنهُ الى ابن المقفع في قوله:
سأشرب ما شربت على طعامي ثلاثا ثم أتركه صحيحًا
فلست بقارف منه آثاما ولست براكب منه قبيحًا
ومنهُ قول القائل: "القدح الأول يكسر العطش، والثاني يمرئ الطعام، والثالث يُفرح النفس، وما زاد على ذلك فضل".
ومنهُ الى العِتابي في قوله:
"كان في دارنا سكران. فقعد على مصلى، وسلح فيه. فأخذتُ بيده إلى المستراح، فنام فيه! فقالت جاريتي: يا عجبًا! كل شيء منه مقلوب. خرأ حيث ينام النّاس، ونام حيث يخرأ النّاس!"
(أي أنَّ المدمن يَرى كل شيء معكوسًا، فتأتي أفعاله مضحكة غريبة).
ومنهُ الى الجاحظ الّذي قد امتدح النبيذ في رسالة "الشارب والمشروب"، حيث قال:
"وإن كلَ شرابٍ وإن كان حلا ورقَ، وصفا ودق، وطابَ وعذب، وبرد ونقخ، فإن استطابتك لأول جرعةٍ منه أكثر، ويكون من طبائعك أوقع. ثم لا يزال في نقصانٍ إلى أن يعود مكروهًا وبلية، إلا النبيذ، فإن القدحَ الثاني أسهل من الأول، والثالث أيسر، والرابع ألذ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، وإلى أن يُسلمك إلى النوم الذي هو حياتك، أو أحد أقواتك. ولا خير فيه إذا كان إسكاره تغلبًا، وأخذه بالرأس تعسفًا، حتى يُميت الحسَّ بحدته، ويصرع الشارب بسورته، ويورث البُهْرَ بكظته، ولا يسري في العروق لغلظته، ولا يجري في البدن لركوده، ولا يدخل في العمق ولا يدخل الصّميم".
ولكنه مع ذلك كان دائم التحذير من إدمان الشرب، والإكثار منه.
لقد تطرقتُ الى جميع هؤلاء الشُّعراء حيثُ لهم موسيقى شِّعريّة تُعنى بتصفيّة ألفاظَهُم وتنميق عباراتهُم. ولا شك أن أصداء الشِّعر العربي القديم تناثر في ثنايا قصائِد الشّاعِر أبو النّواس.
فكُل قصيدة من قَصائِد هؤلاء الشُّعراء هي عِبارة عن تجربة انسانيّة مُستقلة ولها علاقة وطيدة بنفسيّة الشّاعِر في جميع مُخلّفات الحياة، أوّلها قضية الشّعر ووظيفة حيويته وعلاقاته في مجتمعه، وبهذا يدعو الى التغيير، ويبدأ باتِخاذ عِدّة مواقف في الصِراع بين التطوّر والجمود الذاتي والفِكري، وآخرها تحقيق حياة أفضل.
تبين لي من خِلال الإطلاع على هذِهِ المعلومات القيّمة أنَّ اللُّغة العربيّة هي وسيلة لا غايّة .. فالشّعر لا تقع جميع كِتاباته تحت إطار واحِد.
مُلاحظة: لكل شخص الحق في حريّة الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريّة اعتناق الآراء دون أيّ تدخُل..
التعليقات (0)