الكشف عن مصير اختفاء واغتيال المهدي بنبركة
قضية دولتين تحكمها المصالح الإقتصادية والسياسية
لم تمض سوى أيام قليلة، عن إعلان القاضي الفرنسي "باتريك راماييل" إصدار مُذكرة بحث دولية، في حق مسؤولين مغاربة، هم الجنرال حسني بنسليمان، عبد الحق القادري، محمد العشعاشي وميلود التونزي، حتى تحركت الآليات السياسية ولوبيات الدفاع عن المصالح السياسية والإقتصادية، لفرنسا والمغرب، ليتم وأد المطلب في مهده، وفعلا أصدرت وزارة العدل الفرنسية، قرارا حاسما، بإيقاف مُذكرة البحث المذكورة، مما كشف عن تخبط قضائي وإداري لدى الحكومة الفرنسية بصدد ملف اختفاء واغتيال أشهر مُعارض يساري مغربي. فما هي الحيثيات التي أطرت القضية، وجعلتها محط اهتمام الرأي الفرنسي والعالمي، وجرَّت على حكومة الرئيس نيكولا ساركوزي الكثير من اللغط؟ المقال التالي يشرح ذلك بالإعتماد على مُعطيات تؤطر جوانب مسكوت عنها في علاقة فرنسا والمغرب.
شوهِد "المهدي قُطبي" الفنان التشكيلي، ورئيس جمعية "الصداقة الفرنسية المغربية"، ليلة صدور مُذكرة البحث الدولية التي أصدرها القاضي باتريك راماييل وهو يتحرك بدأب غير عادي، في بهو فندق حسان بالرباط ولا غرابة في ذلك، بالنظر إلى العينة الخاصة جدا من الضيوف الفرنسيين، الذين كانوا ينزلون في الفندق الفخم الشهير بالعاصمة.. أحد الذين كانوا قريبين من تلك الظرفية، أفادنا أن المهدي قُطبي كان بصدد القيام بواحدة من أدق المهام التي اضطلع بها ـ منذ بِضع سنوات ـ في "الدفاع" عن المصالح الفرنسية والمغربية، بين الأوساط السياسية والديبلوماسية للبلدين.. وكانت - المهمة - تتمثل في حشد التأييد لفكرة مُلحة كانت تعتمل على نحو محموم، على أعلى مُستويات القرار بالرباط: توقيف مُذكرة البحث الدولية عن الضباط المغاربة الأربعة، في قضية اختطاف واغتيال المهدي بنبركة..
ويبدو أن نتيجة "دأب" الفنان و "اللوبييست" المغربي أتت أُكلها، في الجوانب التي اضطلع بها من الملف المذكور، إذ لم يكد يجف حبر قرار مُذكرة التوقيف، حتى جاء قرار مُضاد من وزارة العدل الفرنسية: أوقفوا كل شيء.. وهو ما جعل ألسنة المُراقبين المُحايدين في البلدين، ناهيك عن أوساط الدبلوماسية الأوروبية والدولية المُعتمدة في الرباط، تنعقد من الدهشة. ليس لِفُجائية القرار بل للصيغة المُرتبكة التي جاء بها، وهو ما اعتبروه صفعة قوية للقضاء الفرنسي، المعروف باستقلاليته، فما الذي حدث وأسقط بأوساط العدل والديبلوماسية الفرنسيين في كل هذا الإرتباك غير المُبرر؟
مصدرنا الذي اشتغل طويلا على ملفات العلاقة بين البلدين، يفسر الأمر من وجهة نظره بالقول: "إن هذه القضية كشفت أخطاء تنسيق قاتلة بين دواليب الحكومة الفرنسية، فلم يكن من المُنتظر أبدا، أن تصدر مُذكرة البحث الدولية، في قضية اختفاء واغتيال المهدي بنبركة، وذلك بسبب وجود هذه القضية في قلب منطق الدولة الذي يربط المغرب وفرنسا" مُستطردا: "لنتذكر أن مُذكرة توقيف من هذا النوع، لم تصدر أبدا على مدى الحكومات الفرنسية المُتعاقبة، سواء كانت اشتراكية أو يمينية، والتفسير واضح هو أن المصالح العليا، وعلى رأسها الإقتصادية، للبلدين تمنع ذلك، وتجعله من قبيل رابع المستحيلات".
ثمة ما يبرر وجهة النظر هذه، باعتبار المُعطيات التي يكشف عنها ملف قضية اختفاء واغتيال المهدي بنبركة، فقد رفضت الحكومة الفرنسية، منذ عشرات السنين، إماطة اللثام عن الملفات الأمنية للدولة الفرنسية، التي من شأنها إلقاء الضوء، على حقيقة خلفيات الجريمة. غير أن قضاة التحقيق الفرنسيين، الذين اضطلعوا بالملف استطاعوا الضغط بوسائلهم القانونية، للحصول على بعض المُعطيات، ومنها سِجل مُكالمات هاتفية لرجال أمن مغاربة، من بينهم الجنرال حُسني بنسليمان، كانت كافية لإصدار طلب بالإستماع، إلى هذا الأخير، من بين مُتهمين آخرين. وجاءت تصريحات عميل (الكاب 1) السابق أحمد البوخاري، لتُذكي مزيدا من الإهتمام بالملف، غير أن منع السلطات المغربية لـ "البوخاري" من السفر إلى فرنسا للإدلاء بشهادته، جعل هذا السبيل يتوقف في بدايته، لتبقى شهادة المعني مُعلقة بين صفحات الجرائد، وكتابه الصادر منذ بِضع سنوات بعنوان "السر".
يُمكن القول بأن قضية المهدي بنبركة التي عمرت حتى الآن لمدة أربعة وأربعين سنة بالتمام والكمال، ستظل مُحرجة للدولتين الفرنسية والمغربية، وذلك بالنظر إلى رُكام المصالح الاقتصادية والسياسية، التي تربطهما بلا فكاك. كيف ذلك؟
حسب مُعطيات غزيرة توصل إليها الصحافي الفرنسي جان بيير توكوا، الذي اشتغل طويلا على موضوع العلاقات المغربية الفرنسية، فإن هذه الأخيرة "تخضع لقوانين واعتبارات خاصة، تختلف على سبيل المثال، عن علاقات فرنسا ببلدين مغاربيين آخرين هما الجزائر وتونس" ليشرح: "لذا فإنه باسم فرادة العلاقات بين باريس والرباط، تنامت مُمارسات غريبة على مدى السنوات. نفس الشىء يُمكن أن يُقال عن تقليد غير مكتوب، والذي يُستفاد منه أن رئيس الدولة الفرنسية، قبل أن يقوم بتعيين وزير أول، من خارج القبيلة الفرنسية – المغربية، يبعثه إلى الرباط، للحصول على تزكية الملك" مُضيفا: "إن ما يسري على الوزراء الأولين الفرنسيين، يسري أيضا على سفراء الحكومة الفرنسية بالرباط.. ففي منتصف سنوات التسعينيات، حينما استقر اليمين الفرنسي في قصر الإيليزيه، كان أمر اختيار السفير الفرنسي الجديد آنذاك في المغرب، لا ينتظر سوى الضوء الأخضر من الرئيس شيراك، وكان باديا أن المرشح للمنصب، يتوفر على المؤهلات المطلوبة، غير أنه من منظور الرباط، كان ذا مشاعر باردة اتجاه المملكة، وكان أن أبلغ القصر الرسالة إلى الرئيس الفرنسي عن طريق وزيره الأول (دوفيليبان) ليتم إيقاف إجراء تعيين السفير الفرنسي، إلى حين سيطرة اليمين على الـ (كي دو أورسي)، وبالتالي تغيير المرشح للمنصب، وهو ما تم فعلا".
ومن طريف ما يُذكر في هذا الصدد - حسب نفس المصدر - فإن "مهمة سفير فرنسا في المغرب تُعتبر منصبا فارغا، فكما قال أحد السياسيين الفرنسيين للسيد (جاك موريزييه)، الذي كان قد عُين حديثا حينها، في منصب سفير فرنسا بالرباط: إنك ترث سفارة حيث لن تجد ما تفعله..".
ثمة أُمور جديرة بالإهتمام، تؤطر علاقات فرنسا بالمغرب، ففضلا عن الروابط "العائلية" التي تجعل فرنسا "الأم" قِبلة دائمة للنخب السياسية والإقتصادية المغربية، تبدأ بالدراسة في البعثات التعليمية الفرنسية بالمغرب، منذ الصغر، واستكمال باقي مراحل التعليم في أرقى المدارس الفرنسية، انتهاء بالحصول على الجنسية الفرنسية.. (فضلا عن ذلك) تأتي آليات عمل "قبيلة فرنسية" يُطلق عليها اسم "أصدقاء المغرب"، وقوامها سياسيون ورجال أعمال ومثقفون وفنانون.. يُواكبون أو يصنعون سياسة مُعينة، يتم تقريرها على أعلى مُستويات الدولة بقصر الإيليزيه وهكذا فمنذ قرابة ثلاثين سنة، ثمة خيط رابط يمتد عبر الحكومات الفرنسية، يمينية واشتراكية، يجعل من المسلم به ألا يعمد أي رئيس أو أي مسؤول رفيع في الدولة، إلى الطعن في السياسة المُنتهجة من قِبل سلفه اتجاه المغرب، وهو ما تُفسره مصالح مُترابطة ومُعقدة لـ "حلف" مغربي فرنسي.
تقف على رأس هذه المصالح "المُتبادلة" وضعية استثنائية للإقتصاد الفرنسي في المغرب، وبلغة الأرقام، فإن باريس تُعتبر "الشريك" التجاري والمستثمر الأول للمغرب، ففرنسا لوحدها تمثل المتدخل الاستثماري الأول، بما يفوق استثمارات كل الدول الأجنبية في المغرب، سواء تعلق الأمر بالقطاع البنكي أو العقار أو السياحة، أو الصناعة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن ثمانية وثلاثين من أصل الأربعين شركة التي تحتل صدارة مُعاملات بورصة الدار البيضاء هي فرنسية، منها شركات "توتال" و "سان غابان" و "ألكاتيل" و "الشركة العامة".. إلخ. ويجب ألا ننسى أيضا جحافل الشركات المتوسطة والصغرى الفرنسية، المُزدهرة في أسواق الإستثمار بالمغرب، إذ أن عددها يتجاوز 500 شركة، تُشغل أزيد من خمسة وستين ألف شخص، وهو ما لا تصل إليه أي من الاستثمارات الأجنبية الأخرى بالمغرب.
والنتيجة أن قطاعات استثمارية واقتصادية ومالية برمتها، توجد تحت سيطرة الفرنسيين، منها مثلا قطاع الفندقة الذي تسيطر عليه شركة "أكور"، وقطاع الإسمنت الذي تحتكره تقريبا شركة "لافارج". وتركيب السيارات: "رونو". والاتصالات: "فيفندي". والبيئة: "سويز".. إلخ إلخ.
"إن تداخل المصالح الإقتصادية الفرنسية، مع سوق الإستثمار في المغرب، بعشرات المئات من الشركات يجعل من السهل تصور الوضعية الحرجة للإقتصاد الفرنسي، في حالة ما إذا قرر المغرب إقفال الباب في وجه الإستثمارات الفرنسية" هكذا علق الصحافي المغربي المُخضرم المذكور، مُضيفا: "الحكومة الفرنسية كيف ما كان لونها، تضع هذه الإعتبارات في حُسبانها، وهو ما يُفسر سرعة التخلي عن مُذكرة البحث الدولية في حق الضباط المغاربة الأربعة، المُتهمين في قضية اختطاف واغتيال المهدي بنبركة".
إن التحرك "الدائب" الذي رصده أحد مصادرنا بفندق حسان الفخم بالعاصمة الرباط، و "بطله" الفنان المهدي قطبي ليس سوى وجه "عام" لقوة اللوبي الفرنسي السياسي – الإقتصادي، الذي يتحرك على كل الواجهات، ليجعل من مسألة استقلال القضاء الفرنسي، المشهود بها دوليا، حالة استثنائية، حينما يتعلق الأمر بالمغرب. وهو ما يؤكد أن قاضي التحقيق الفرنسي باتريك راماييل، لن يُقفل ملف البحث في قضية اختطاف واغتيال المهدي بنبركة قريبا.
مصطفى حيران
المشعل
التعليقات (0)