مجلة فلسطينية شهرية - العدد الحادي والستون - السنة السادسة تشرين أول (أكتوبر) 2012 م – ذو القعدة 1433 هـ | |
|
قضية اللاجئين في الضفة الغربية انسداد الأفق السياسي وغياب الرؤية
د.رمضان عمر/نابلس
انسداد الأفق السياسي، وغياب الرؤية الواضحة، ودخول القضية الفلسطينية في حالة موت سريري، تنذر بكارثة مزلزلة، وعواقب وخيمة. ذلك هو أدق توصيف للمشهد السياسي في الضفة الغربية بعد أن رحلت القيادة السياسية، المتمثلة بالسلطة الوطنية، بعيداً بعيداً عن جوهر الخطاب السياسي المطلوب، وتحولت مشاريعها وتطلعاتها إلى كيفية إدارة الأزمات الداخلية الناتجة أصلاً من إخفاقاتها الإدارية في توفير لقمة العيش، وإقناع المواطن بإمكانية العيش من خلال استراتيجية الربط المطلق للاقتصاد الفلسطيني - عبر اتفاقات باريس وغيرها - والربط الأمني - من خلال اتفاقات أوسلو وما تلاها - بالكيان الصهيوني. فمنذ توقيع اتفاق أوسلو، تعيد السلطة الوطنية الفلسطينية اجترار التجربة الفاشلة، وتصرّ على تحويل المشروع الفلسطيني من مشروع عادل إلى مشروع لاهث، تديره رؤية سياسية قاصرة وغير أمينة، تستجيب لكل ضغط؛ فتنحني وتنحني وتنحني لتحدث سيلاً من الانزلاقات والتنازلات، تضيع معها الحقوق، وتنهار الثوابت، ولكن التفاوض العبثي يبقى هو الاستراتيجي رغم فشله وعدميته.
تهاوت الثوابت وتهاوت معها المطالب بتحقيق هذه الثوابت. ضاعت القدس وذابت في محيطها الاستيطاني المريع، فضاعت معها مطالب (الأوسلويين) بأن تكون القدس عاصمة للفلسطينيين، ثم اختزلت الأرض الفلسطينية في (كنتونات) محكمة الإغلاق، منذ مشروع غزة وأريحا أولاً، وفتحت بوابات الشره الاستيطاني على كافة المصارع؛ فاستمرأ المفاوض الفلسطيني هذه العملية السرطانية؛ فبدل أن يوقف التفاوض، ويعلن الاحتجاج تلو الاحتجاج، استغل هذا النماء الاستيطاني مستثمراً رؤوس أمواله في هذه المستوطنات، حيث بلغت الاستثمارات الفلسطينية ملايين (الشواقل) لمصلحة المشروع الاستيطاني الكبير. أما قضية اللاجئين، فإن أدلة الاستخفاف بها بلغت مبلغاً لا حدّ له، فلم يعد في ذاكرة من يفاوضوا أو يتحدثوا باسم الفلسطينيين في الضفة الغربية أي صورة من صور البحث عن عودة، أو حل عادل، أو تعويض، أو ما شابه ذلك مما اعتادته الذاكرة الفلسطينية، وإن كانت اتفاقات جنيف وغيرها قد سربت شيئاً من هذا التقصير؛ فإن الواقع المشهدي اليوم يجسد حقيقة هذا التقصير، بل إن المشروع السياسي في الضفة الغربية أخذ يتحوصل في شكل حلزوني ضيق ليضيق ذرعاً بغزة فيعدها كياناً معادياً، ويطالب بأن تتخلص السلطة من نفقاتها الموجهة إلى تلك البقعة من هذا الوطن المشتت. هذه المطالبة التي جاءت في الأيام الأخيرة على أثر الحراك الشعبي ضد الغلاء والفقر صدرت عن جهات لا تتحرك بفعل عفوي، بل تشير إلى بالونات اختبار إيذاناً بتغير استراتيجي في الرؤية السياسية الفلسطينية الرسمية. هذه الرؤية التي أصبحت تتحدث عن جزء كبير من الشعب، باعتباره خارج نطاق المواطنة، وخارج نطاق الشراكة، تريد أن ترتد إلى المربع الأضيق لتفتِّت المفتَّت وتجزِّئ المجزَّأ. إن قضية اللاجئين التي كانت محلّ إجماع وطني شامل ونقطة توافق وتجميع، تعاني اليوم حالة تهميش حقيقية، ولا أقول تجميداً، بل إرغاماً لها على أن تموت في سريرها قابعة في غياهب النسيان. إن تحولات المشهد السياسي المريعة تنذر بنذير شؤم، تحاك لتعصف بهذا الأصل الجوهري الثابت. إن الانتخابات المحلية التي يراد لها أن تقوم في الضفة دون غيرها، هي اعتداء صارخ جديد على حق أحد عشر مليون لاجئ في الشتات، بأن يكون لهم دور في المعادلة السياسية الفلسطينية، كيف تصبح الانتخابات المحلية هدفاً استراتيجياً في لحظة تاريخية حساسة يقبع الداخل الفلسطيني فيها في أتون الفرقة والانقسام، ويهدد الخارج الفلسطيني بنيران القهر والتطهير كما في سورية والعراق وغيرهما. إن الخيار الفلسطيني الرافض في الإجماع والشراكة والتعددية، والشمول في التمثيل الداخلي والخارجي هو خيار هزيل ناشز غريب لا يمثل طموح الأمة، ولا يعمل على تحقيق مصالحه العليا، إنما يمثل فئوية ضيقة ضارة تصر على تحقيق أهداف المحتل، وتكريس جرائمه. المشهدية السياسية في واقع فلسطيني يتشكل عبر معادلات جغرافية وفكرية وسياسية متداخلة لا يجوز أن تحسم إلا من خلال إجماع لهذا التشكل المتعدد، فكيف لفلسطينيي الضفة أو للسلطة التي يقتصر تمثيلها على جزء ضئيل من الواقع الفلسطيني في الضفة، وهم لا يشكلون أكثر من الربع السكاني لفلسطين التاريخية، أن ينفردوا بحل من دون أن يقفوا على إجماع يمنحهم تفويضاً بذلك؟ وإذا كانت ثورات الربيع العربي لم ترحم مبارك وعلي عبد الله صالح والقذافي والأسد، حينما استبدوا وأكرهوا شعوبهم على تبني خياراتهم الضيقة في التبعية للغرب، فإن الشعب الفلسطيني لن يشذ عن القاعدة، وسيصبح الحراك الشعبي الفلسطيني ثورة ضارية تقطع شأفة كل من ظن أن ديكتاتوريته ستمنحه حق الانفراد في تقرير مصير شعب يرفض النهج التفاوضي والاقتصاد التبعي والتفريط الانزلاقي. وإذا كانت الجماهير الثائرة قد التفتت اليوم إلى الحدث الآني فثارت على سياسة التركيع، وفرض شروط التبعية من خلال ربط المواطن الفقير بالحاجة المعيشية، فإن ذاكرتها لن تغفل الثوابت والحقوق، ولا يمكن ملايين المواطنين المنتشرين على رقع متباينة من خريطة العالم العربي أن يسقطوا حقهم في الرجوع إلى ديارهم. فعلى القيادة السياسية أن تعلم أن الثورة في فلسطين، وإن بدت ثورة على الغلاء، فإن جوهرها سياسي. ومن هنا، فقد علت في شعارت المحتجين المطالبة بإيقاف المفاوضات، وإلغاء اتفاقية باريس واتفاق أسلو وإنهاء الانقسام والعودة إلى مربع الشعب، ومربع الشعب لا يقبل التفريط ولا يقبل بذلك التقسيم السقيم الذي يحاول أن يختصر فلسطين في رام الله، وما يجاورها من "كنتونات" صنعها المحتل؛ فخيار الشعب الواضح التمسك بكافة التراب الفلسطيني، والعمل على كنس الاحتلال من كامل هذا التراب، والمطالبة بعودة اللاجئين وتعويضهم. فهل من مستمع قبل أن يعضّ الظالم على يديه ويصبح القول فيهم قول رب العزة: "ولات حين مناص"؟ إن المطلوب سياسة أكثر من الانتباه إلى هذه القضية، لأن أخذها في الاعتبار عند كل مشهد من المسلمات التي لا خلاف عليها، لكننا بحاجة حقيقية إلى تغيير الاستراتيجيات، ومراجعة المسار السياسي بكليته، ثم إعادة تشكيل الخطاب السياسي وفق رؤية نضالية قوية، تحدد خطوط مساراتها من خلال الثوابت، لا من خلال الضغوطات. ومن الثابت أن الشتات نصف الداخل، وقضية اللاجئين جوهر الصراع، والتمثيل السياسي لا يمكن أن يبقى ضمن هذه الدائرة الضيقة التي تسقط معظم فلسطين من مشاريع النضال، وتقتصر على الممكن الممسوخ تحت ذريعة الواقعية السياسية. فأي واقعية تلك التي لا تبقي ولا تذر، وتغمض عينها عن الجوهر وتتمسك بالتنسيق الأمني، زاعمة أنه من الثوابت التي يسبب غيابها ضرراً شديداً؟ كما جاء في ردّ رئيس السلطة على أحد السائلين عن التنسيق الأمني، فبرر الرئيس تمسك السلطة به؛ لأن هذا التنسيق يسمح للفلسطينيين بأخذ تصاريح عبور لدولة الاحتلال. فكيف بربك يصبح التصريح للتنزه في بارات نتانيا وبتاح تكفا أهم من عودة أحد عشر مليون فلسطيني إلى أراضيهم، وما سوى ذلك من ثوابت؟ لا يمكن المسار السياسي أن يبقى على حاله؛ لأنه مسارعبثي، ولا نقول إنه "عبثي" رغبة في استخدام مصطلح وصفي مجرد، بل مصطلح له دلالة عميقة تخص الرؤية. وعدم استدراك ما فات ووقف هذا النزف العبثي سيؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة، أقلها أن نصبح أندلساً جديدة. فالذاكرة التي تسمح بهذا القدر من الإغفال، أي إسقاط حق العودة وتجاوز اللاجئين وعدهم في عالم النسيان، ذاكرة مخروقة لا تصلح للحفاظ على حقوق الشعوب. ومن هنا، ينبغي لقضية اللاجئين أن تتحول إلى مشروع حراكي فاعل يسعى إلى إسقاط مشروع التنازل واستبداله بمشروع الحفاظ على الحق وتقوية الخيار السياسي الصامد ودعمه. وهذه الاستراتيجية الثورية الجديدة مطالبة بإنشاء ذاتها من خلال الأطر السياسية والفكرية الخارجية والداخلية، تسعى إلى تشكيل جبهة فلسطينية عالمية تحت شعار إسقاط التنازل. ولعل ثورات الربيع العربي ومناخات الاستقلال ستسمح بنوع من هذا التشكيل إن وجدت إرادة فلسطينية واعية تذيب الفروق الحزبية وتؤثر المصلحة؛ فالانفراد الهزيل ما كان ليقع لولا تشتت الإرادات الخيرة، وانهماكها في مشاريع حزبية ضيقة؛ فالوطن أكبر من الجميع، وعباءته قادرة على أن تُظلّ كل من أعلن الولاء له، فإن أحسن اهلها - وهم قادرون - التخطيط والعمل، تراجع خط الانزلاق، وانحسر مربع التفريط، وعادت عربة القضية إلى مصاف التألق، واستأنفت المقاومة مشروعها، واختصرت طرق كثيرة للوصول إلى التحرير والتحرير حتمي، لكنه يؤجل بالضعف ويقرب بالقوة والوحدة والإرادة والوعي، والشعب الفلسطيني عنده من التجارب الكفيلة بتحقيق هذه الغايات، لكن المطلوب المبادرة والتنفيذ، فإن الوقت لا ينتظر، والتاريخ لا يرحم. ♦ |
التعليقات (0)