قضايا للنّقاش
(1)
اللُّغة العَرَبيّة الفَصيحَةُ في المَدارِس
(المحور الثاني و الأخير)
آفاق ُ حلول
ملخص المشكلة :
خلصنا في المحور الأول ، المخصص لبسط واقع العربية الفصيحة و مشكلتها ، إلى أن جهودا ً ضخمة تصرف من أجل العربية الفصيحة في طول الوطن و عرضه ، و في الوسط التعليمي خصوصا ً، و مع ذلك لا نجد العربية الفصيحة عموما ً على الألسنة ، لا في واقع الحياة و المجتمع ، و لا حتى في الوسط التعليمي الذي بذل جهوده الضخمة من أجلها .. !
الدنيا بخير
إنَّ الردود و التعليقات التي تلقاها المحور الأول الخاص بالمشكلة ، من عامة الناس و خاصتهم ، والتي تفضل بها الأخوة المشاركون، قد أجمعت على ضرورة العربية فصيحة ً على كل لسان عربي، في المجتمع والحياة العامة، أو تمنـّت ذلك. وكان ذلك هو المتوقع والمأمول.
إنَّ الإيمان بوجود المشكلة- أيّ مشكلة- أولا ،ً و الإيمان بهذه المشكلة واقعا ً مرفوضا ً ثانيا ً ، ثم الإيمان - أخيرا ً- بضرورة الحل ّ ، إنما هي المدخل النفسي أو " النفساني" لحل أي إشكال. بل إن الإيمان والإقتناع لازمان ضروريان لا مدخلا ً للحلّ فقط ّ ، وإنما هما ضروريان لازمان كذلك لكل من تفاصيل الحلول الناجعة التي يمكن أن تطرح. و هما – الإيمان و الإقتناع – ضروريان للمخرج ،و أعني : التوصيات التي تختم بها الحلول .
إن الإيمان- إذن – ضرورة ٌ في المبدأ والتفاصيل و الختام ..
المعلم أولا ً:
أما السبيل إلى ذلك ، فإن البدء بالحل – بعدما تقدم – إنما يكون بالمعلم ، الذي هو أساس العملية التعليمية و محورها.
و الأمر الذي هو بحاجة إلى الصراحة – و المصارحة ضرورة لتشخيص كل داء – أن المعلم؛ معلم العربية نفسه – قبل غيره من المستهدفين في هذه القضية – بحاجة إلى تأهيل أفضل، بخصوص استخدام العربية فصيحة .. لا أعني بذلك الضبط السليم – نحويا ً- لما يتكلمه ، فإن هذه ربما كانت أيسر المشكلات على معلم العربية .. و إنما أعني كذلك ( التمكـُّن ) أو ( الحضور ) ، و الوثوق بالنفس عند الكلام و أثناءه . و آية ذلك كله ودليله :الإلقاء الحَسَن ؛ المراعي للوقف و الوصل، و الصعود و الهبوط للمستوى الصوتي ، مصاحبا ً لاطمئنان في النبرة ، و هدوء في الملامح .. ، و كذلك أعني: الإرتقاء في معارج الفصاحة و البلاغة، من سلامة اللسان إلى حـُسن التـّبيان ,و إذا أمكن فسحر البيان ،و إنَّ من البيان لسحرا .
و كاتب هذه السطور،لا يدّعي أنه قد بلغ من ذلك مـُدَّه أو نصيفه ، و إنما هو يعني نفسه من بين من عناهم .
و حتى يكون لمعلم العربية مُبتغاه من ذلك ، فلا بد له من التحدُّث بالعربية فصيحة ( طالبا ً و معلما ً ) أي أن تعطي معاهد العلم لطلاب العربية مساحة واسعة للخطاب ، إلى جانب المعلومة النظرية . فما قيمة المعلومة النظرية – في أيّ علم – إذا لم تنفـّذ واقعا ً حيا ً ؟ و ما مسوغ العلم –أيّ علم – و ما الحاجة إليه - أصلا ً- إنْ لم تكن غايته العمل و التطبيق.. ؟
إنَّ طالب العربية في معهد العلم ، إذا هو تكلم العربية طوال ساعات مُكثه في معهده ، أو جـُلـّها ، و إذا كان له أثناء دراسته حصصا ً كافية ً ؛ يقف فيها أمام معلميه و زملائه ، متكلما ً العربية ، له منهم آذان منصتة مصغية ناقدة ؛ يُخطيء و يصيب و يعثر و يقيل ، يبصـِّرونه بعد فراغه من مقاله بما نطق به لسانه من لحنِ ، و ينزِّهون منطقه عن خطأ شائع، أو كلام ٍ ركيك ، أو لفظ مـُستهجـَن .
إنَّ طالب العربية إذا تيسر له أن يقف أمام الناس متكلما ً بعربيته فصيحة ، و له من حوله من يقوّم لسانه إذا اعوج ّ، فإن ذلك- إلى جانب العلم النظري- لا يمنحه سلامة اللغة و تقويم اللسان و حسب ، بل يعينه كذلك على الإلقاء الحسن و( الحضور ) و (التمكـُّن) ، مما يعكس راحة ً نفسية لدى المُتلقـّي ( السامع ) و تجعله متابعا ً للمتكلم ، مصغيا ً باهتمام ، بخلاف الإلقاء الرديء و غير الواثق ، الذي يبُثُ في نفس السامع السآمة و الملل ، و يصرفه عن المتكلم، و إن كان مهتما ً بموضوع كلامه .
ثم، بعد ذلك و قبله و أثناءه، حشدٌ ضخمٌ من النصوص العربية الفصيحة و فصيح كلام العرب، يتخذ لها أساتذتها - و هم أدرى بمناهجهم - و سائلهم الدَرسيـّة ،بقراءات جماعية دورية ، مصحوبة ًبتصويب ٍ فوري ٍ لما يُقرأ،ووظائف (واجبات) من نصوص فصيحة غير مشكولة يـُطلب ضبطها ــــــ و نحوهما من وسائل تهدف إلى مراس الطالب و مرانه على ضبط الكلام و تصويبه .
إنّ الإكثار من القراءات في النصوص الفصيحة المضبوطة المشكولة ، هي رأس النصائح لتقويم اللسان، و تكوين ملكة البيان . و على رأس هذه النصوص : البيان الإلهي (القرآن الكريم ) فهو معجزة الفصاحة و البلاغة ، ثم حديث الصادق الأمين ، فهو أفصح العرب ، و كلامه جوامع الكـَلِم .. ثم مجاميع فصيح النصوص العربية ، من أمثال : (نهج البلاغة ) و (البيان و التبيين) و (العقد الفريد) و (المعلقات السبع) و نحوها .
أمّا الفتيان والناشئة، فبالطبع،لا ينصحون بـ (البيان و التبيين) و أضرابه ، بل بكتابات (المنفلوطي) و (علي الطنطاوي) و روايات (نجيب الكيلاني) و (علي أحمد باكثير) و نحوها من كتب و كـُتـّاب ،جمعوا جمال التعبير إلى نبل الغايات و المقاصد ..
إنّ المعلم إذا أجاد لسانه العربية فصيحة ً ، فإنه يستطيع أن يُلزم طلابه بها . و إني أرى أن لا حرج في أن يـُلزم المسئولون معلم العربية و طلابه النطق بها فصيحة . و لا أرى حرجا في اتخاذ آليات الرقابة المناسبة الضامنة .بل إنّ في ذلك الإلزام إخراجا ً للمعلم والطالب معاً من حرج التكلم بالفصيحة, ومَنجاة ً من التندُّر لاستخدامها.. و لا بأس –في بداية الأمر- من التساهل في هفوات و سَقـَطات و لحن قد تبدر من ألسنة المعلمين ..
العربية و الأجنبية
أمّا اللغة (الأجنبية) فمطلوب أن يتعلمها طلابنا في المدارس ، بل ضروري ٌ واجب ٌ تعلـُّمها . و أما أن نشرع بتعليم طلابنا اللغة الأجنبية مع بداية السنة الأولى من سنوات تعليمهم ، فهذا الذي نرى ضرورة إعادة النظر فيه ، لا سيما و قد تقرّر عند المختصّين في التربية أن اللغة الأجنبية تزاحم اللغة الأمّ و تشوّش تعلمها ، إذا كان تعليمها في السنوات الأولى المبكرة من الدراسة .
النعمة الكبرى
ـــ ترى ، أهذا كل ما للمشكلة من حل؟
ـــ كلا ! ألا ترى إلى نعمة الله الكبرى في التقانة ( التقنيات ) الحديثة ، التي تتكاثر كل يوم ، كأني بها تنادي الناس : "أنا نعمة الله فلا تبدلوا نعمة الله كفرا " .
لقد اجتهد الأوّلون من العلماء خـُدّام العربية ، مقدمين نتاج فكرهم و ثمار عقولهم خدمة للعربية و قربى إلى الله .. فوضعوا الإشارات و الرموز ، حين ظهر اللحن على الألسنة ، و قعـّدوا القواعد ، و نظموا الأراجيز ، و بسطوا الشروح . كل ذلك كان منهم وسائل و أدوات ، يقوّمون بها الألسنة و يـُقرّبون الفهم ..
قدّموا جُهدهم و بذلوا طـَوقهم . فما ترانا نحن في عصرنا مقدِّمين ؟ و طاقتنا أعظم و جهدنا إلى ذلك أيسر .
أيُّ فرصة مواتية ، هي أسنح ، حين تتيح لنا التقانة أن نقدم العربية فصيحة إلى الصغير و الكبير بأفضل صورة يمكن تقديمها ، و بأيسر سبيل يمكن سلوكه ، و خير ثمار يمكن جنيها ..؟
سـُم ٌ و دَسَم:
لقد سرّنا المسلسل (المكسيكي) و هو يقدّم لنا العربية فصيحة ً .. ! و قد احتملنا منه سوء أخلاقه من أجل العربية ، و هو يقدم لنا دليلا ً قاطعا ً على أنَّ العربية الفصيحة يمكن أن تكون لغة الحياة و المجتمع ، و سُررنا و هو يعلمنا العربية نحوَها و ضبطـَها السليم ، من غير أن يكلفنا عناء دروس جافة في النحو ؛ تستعصي على الفهم ..و تبعث في النفس السأم ..
و قد سُررنا أكثر حين أخذت ( فترات الأطفال ) تقدم لأطفالنا - في الصغر- العربية فصيحة ً ، مشوقة ً، سليمة َ الأداء ، عليها رقيب لـُغويٌّ متمكـّن ، من خلال مسلسلاتهم المختلفة . و إنْ ساءتنا هذه المسلسلات - هي الأُخرى- بما فيها من مفاهيم تربوية مغايرة لمفاهيمنا التربوية ، تنسرب في عقول فلذات أكبادنا و نفوسهم ، علما ً في الصغر .. و خيال افتراضي ، مقرّرٌ عند التربويين المختصّين ضررُه ..!
و قد لحظنا بعض أبنائنا صغارا يقرأون دروسهم و يتكلمون الفصيحة - إذا تكلـَّموها- بضبط سليم ، قبل أن يعرفوا أيّا ً من دروس النحو . و ما ذاك- في تقديري- إلاّ من طول نظرهم إلى تلك المسلسلات و إصغائهم إليها ..
لئن ساءنا أن نالتنا هذه المسلسلات –للصغار و الكبار- بمساءة بل مساءات ، لقد سرّتنا في جانب العربية فصيحة ً، و رضينا –على مضض - تلك المساءات ، على خطورتها .
العربية تستغيث..!
أيعقل بعد هذا أن تتحول هذه المسلسلات مترجمة من لغاتها إلى الدارج و العامي ّ بدل العربي الفصيح ؟" أحشفا ً و سوء كيلة" ؟ لقد ضاقت مساحة المترجم إلى الفصيح، إلى جانب العامي الدارج حتى كادت تتلاشى . كأنَّ القائمين على الإنتاج قد ندموا على مليح وسط القبيح .. أو كأنَّ الأمر دُبّر بليل ، حتى تتمَّ للمصيبة أركانها ..!
كل ذلك يتمّ و الأمر فوضى ، كأنَّ الناس لا سراة لهم .
أين قادة الأمة و أنظمتها الرسمية ؟ أين وزارات الثقافة و الإعلام و التربية من كل هذا الذي يحدث ؟ و أين مجامع اللغة ؟و أين الجامعة العربية و مؤسساتها : العلمية و الثقافية و التربوية ؟
و إذا عجزت جامعة العرب أن تجمع العرب على خُطـَّة سياسية أو عسكرية تدحر بها أعداء الأمّة ، أتعجز كذلك عن خُطـَّة شاملة محكمة تعيد للعربية اعتبارها ؟
إنني جدّ عاتب - و على قدّ المحبة العتب كبير - على بلد عربي ، تعلـّمنا فيه العربية، و شربنا ماءه و تنفـّسنا هواءه ، اتخذ العروبة عقيدة ، و عـَرَّب في سبيل ذلك حتى لغة العلم و الطب و الهندسة .. ثم هو بعد ذلك ، يأذن أن يكون الفن التمثيلي على أرضه و من أبنائه - و التمثيل فرصة ذهبية للعربية الفصيحة- بالعامية الدارجة ، بنسبة لا تقلّ - في تقديري - عن ثمانين بالمئة 80%من إنتاج أبهـَرَ كما ً و نوعا ً ، و خـَصّص –لذلك- فضائية سمّاها (دراما) ..!
أيعقل أن تتمّ على أرض هذا البلد- عـُروبيّ المعتقد- جريمة ترجمة المسلسل التركي إلى الدارجة بدلا ً من العربية الفصيحة ؟ "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير " ؟ و مَنْ المُدان بهذه الجريمة ؟ أهي شركات الإنتاج التي يهون عندها في سبيل الربح كل شيء ،حتى الدين و الخلق و العروبة ..؟ أم إن َّ لشركات الإنتاج سلطان فوق السلطان..! أم هي القـُطريّة البغيضة التي كنـّا نعدها - و ربما لم نزل- كأنـّها سُبـّة عار إذا ذُكرت في مواجهة القوميـّة و العروبة ؟ !
مـُلخـّص التـَّوصيات:
1 - المعلم أولا: - تأهيله و إعداده ، علما ً و تطبيقا .
- تدريبه على استخدام سهل للتقنيات بصفتها
وسائل إيضاح،يـُبَسّط بها علوم العربية لطلابه .
- التزامه مع طلابه - أو إلزامهما - بالعربية فصيحة.
2 - تأخير البدء بتعليم اللغة الأجنبية لطلابنا ، فإن في التبكير
مزاحمة للغة العربية و تشويش عليها.
3 - إعطاء اللغة العربية الأهمية اللائقة،على صُعُد :
- القرار السياسي .
- الجامعة العربية و مؤسساتها ذات الصلة .
- الوزارات و المؤسسات و مجامع اللغة العربية .
4 - نداءات ، و تداعي المختصّين و المُفكـّرين و الغيورين ، من
أجل العربية الفصيحة .
التعليقات (0)