لعنة الياسمين بقلم د صديق الحكيم
جلسة الصباح
كان جميل أبو زيد الشاب السكندرى الأسمر قد أتم لتوه سنوات عقده الثانى بعد أن تخرج فى كلية الحقوق العريقة بجامعة الإسكندرية مطلع الصيف الماضى، ولأنه كان وحيد والديه فقد تخطى بذلك العقبة الكئود أمام أقرانه وهى فترة التجنيد الإجبارى فى الجيش المصرى وبذلك فاته فرصة عظيمة لاكتساب خبرة حياتية لن يجود له الزمان بمثلها، وبدأ جميل حياته العملية مباشرة بالتدريب بمكتب الأستاذ سعد عبد العال المحامى الشهير بالمنشية، وكعادته بعد صلاة الفجر فى مسجد الإمام مسلم خلف الشيخ أحمد فريد جلس جميل فى بلكونة شقته بالدور السادس المطلة على شارع الإذاعة الذى يخترق منطقة باكوس (نسبت إلي باكوس أو باخوس إله الخمر عند الإغريق والرومان) من الشمال إلي الجنوب.
يمسك بيده كوباً صنع من الصينى (mug) به شاى ساخن يمنحه بعض الدفْ فى هذا الجو البارد أضاف إلي الكوب ورقتين من شجيرة النعناع التى زرعها فى إناء فخاري ملأه بخليط من تراب قريته الفرستق المطلة على نهرالنيل مضافا إليه بعضاً من طمى النيل لتزيد من خصوبة الخليط.
كانت رائحة النعناع المنعشة تملأ الأجواء وتنتشر فى أرجاء المكان ويظهر طعمه جلياً حتى آخر رشفة من كوب الشاى سقطت أشعة الشمس التى أشرقت لتوها مؤذنة بإنتهاء جلسة الصباح، أعاد الكوب الفارغ إلي المطبخ .........
ألقى أحلى تحية على ست الحبايب التى تعد الفطور، لم ينتظر ليتناول طعام الإفطار كعادته، أخذ يستعد للنزول لبس البدلة الكحلى
حسب تعليمات الأستاذ سعد.
الحاجة زبيدة الشابّى
نزل جميل السلالم وفى الدور الخامس وقف أمام شقة الحاجة زبيدة الشابّى التى يعتبرها جدته؛ لأنه كان يقضى معها وقتا طويلا منذ أن كان صغيراً قبل سن المدرسة وحتى يومنا هذا وكان تحكى له كل الحكايات التى يمكن أن تحكيها جدة لحفيدها
حكايات ست الحسن والشاطر حسن وحكايات ألف ليلة وليلة وحكايات عن موطنها الأصلى تونس الخضراء ومسقط رأسها ببلدة الشابية وهي من ضواحي مدينة توزر في جنوب تونس الذى تركته منذ نصف قرن بعد ثورة الاستقلال على يد الحبيب بورقيبة 1957 وجاءت مع زوجها الحاج حسين الباجى وعمرها سبعة عشر عاماً، حفظ جميل عن الجدة الأشعار التى حفظتها عن أبيها وهى أشعار عمها الذى لم تره أبو القاسم الشابى:
إذا الشعب أراد يوما الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجـــلي ولابد للقيد أن ينكسـر
ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
وقصص عن عبد الرحمن بن خلدون ورحلاته فى المغرب ومصر والجزيرة، وقصص عن القائد العسكرى القرطاجى العظيم حنا بعل برقة، وكيف فتح العبادلة تونس الخضراء والقائد والفاتح العظيم عقبة بن نافع ومدينة القيروان وحكاية المصحف الأزرق وقصص عن الدولة الفاطمية وانتشار المذهب الشيعى من المغرب إلي مصر، وكيف زحف بنو هلال وبنو سليم من صعيد مصر إلي تونس. وحكايات عن مملكة بنو الورد ومملكة بنو الرند، وتنقلت حكايتها التى حفظتها عن أبيها، وعن زوجها الحاج حسين التونسى، والتونسي لقب لصق به وبأفراد أسرته لكوْنهم من تونس أصلا، وهاجروا إلي الإسكندرية، وأقاموا فيها فكان أهلُ الحي يصفون الفرد منهم بالتونسي، فلحق بهم هذا اللقب كعادة الغريب حين يقيم في غير مدينته يلقبه الناس لقبًا ينسبه إلي بلده الأصلي.
والحاج حسين التونسى ذلك التاجر المثقف الذى عرف الشاعر الشعبي محمود بيرم التونسي الذى ولد بالسيالة فى حي الأنفوشي في وسمي التونسي لأن جده لأبيه كان تونسياً قدم إلي مصر سنة 1833م
وماذا زالت الحاجة زبيدة تحتفظ بأعداد نادرة من مجلة المسلة ومجلة الخازوق ورثتها عن زوجها والتى نشر بهما بيرم أزجاله النارية التي ينتقد فيها السلطة والاستعمار والشعب ومنها
يا شرق فيك جو منور
والفكر ضلام
وفيك حراره يا خساره
وبرود أجسام
فيك تسعميت مليون زلمه
لكن أغنام
لا بالمسيح عرفوا مقامهم
ولا بالاسلام
هي الشموس بتخلي الروس
كدا هو بدنجان
والشيخ عبد العزيز الجاويش والشاعر الشاب أبو القاسم الشابى، ورحل الحاج حسين التونسى إلي جوار ربه بعد ثلاثين عاما من الزواج السعيد وترك الجدة زبيدة وحيدة، قبل ما يقرب من ربع قرن، عندما انقلب ابن على على الحبيب بورقيبة 1987
كانت حكايات الجدة زبيدة لحفيدها جميل بسيطة لكنها شيقة تمزج التاريخ بالتسلية فحين تحكى عن تاريخ حكام تونس من البشوات والدايات والبايات، لا تحكى عن الحكام بل تحكى عن المحكومين وحالهم وأحلامهم البسيطة، وكيف خلع الشعب بثورته على باى آخر البايات عام 1957ثم خلع بعد نصف قرن من الزمن ابن على وحاشيته، وحكاية صورة الرئيس جمال عبد الناصر التى تعلقها فى الصالة وحبها الشديد له وخروجها مع الجماهير يوم الثامن والعشرين من سبتمبر1970، وقد شعرت باليتم لأن جمال مات ولبست ثوب الحداد ولم تخلعه إلا عندما عبرنا القناة وحررنا سيناء وقهرنا اليهود.
نعم تقول الحاجة زبيدة عبرنا وحررنا وقهرنا بلغة الجمع ليس لأنها لغة أهل الإسكندرية الذين يستخدمون لغة الجمع، لكن لأنها اندمجت مع المصرين، أم لأنها قضت معظم حياتها هنا.
حكاية روح الياسمين
مرت كل حكايتها على خاطره كالطيف فى لحظات مضت ما بين طرقه لباب جدته وحتى فتحت له الباب، صبّح عليها وسألها عن الصداع الذى ألم بها ليلة أمس فقالت الحمد لله راح الصداع والصحة عال العال.
بادرها جميل أين وعدك لى؟!
قالت الجدة: أي وعد؟!
قال جميل: حكاية روح الياسمين
ردت الجدة: لكن ستتأخر على المكتب
جميل: لن أتأخر الأستاذ سعد اليوم فى القاهرة
خلاص هات كرسى وتعال نقعد فى البلكونة
وبدأت الجدة تحكى لجميل
روح الياسمين يا جميل هو أطيب أنواع العطور النباتية. ويصنع من أزهار الياسمين فى منطقة غراس GRASS في فرنسا، وأوراق الياسمين مختلفة باختلاف النوع حيث أن بعض نباتات الياسمين دائمة الخضرة في حين أن بعضها الآخر يفقد أوراقه شتاء..
تتحدث الجدة زبيدة عن الياسمين وكأنها عالمة نباتات أو حتى بستانى مخضرم قضى حياته فى زراعة الياسمين، وتصمت الجدة برهة كأنما تذكرت شيئاً ثم تبتسم، سألها جميل عن سر ابتسامتها.
قالت سأخبرك فيما بعد عن أمرين مهمين عن زهرة الياسمين وتتابع حديثها عن الياسمين، وتكون أزهارها بيضاء أو صفراء أو قرنفلية اللون، ولها رائحة محبوبة لكثير من الناس، والياسمن هو الزهرة الوطنية لإندونيسيا. كما أن الياسمين زهرة مشهورة في الفلبين والهند وباكستان وسريلانكا والوطن العربي.
ويسألها جميل عن الياسمين فى موطنها تونس الخضراء
وترد عليه الجدة:
أكثر الياسمين الموجود فى تونس هو الأبيض ذو أربع شرفات أو خمس، وهو عطر الرائحة، وأعطر ما يكون في فصل الصيف ويصنع منه المشموم التونسي الشهير.
كما يوجد الياسمين الأصفر لكنه .....
تصمت الجدة ........
فيسألها جميل: لكنه ماذا؟
فتصمت الجدة مرة أخري
شعر جميل أنه موضوع يسبب لها الحزن
وأحست الجدة بالحرج فحاولت أن تغير الموضوع
وتسأل الجدة جميل:
وماذا عن الياسمين فى مصر؟
صمت جميل ليس عن جهل لكن لعلمه أن الجدة لديها دائما ما تحكيه عرف الفراعنة الياسمين باسم "أسمن" ومنه جاء الاسم القبطي "أسمين" ثم حُرفت إلي "ياسمين" وقد وجدت أكاليل من زهور الياسمين على رءوس وحول أعناق ملوك وملكات الفراعنة في بعض المعابد إذاً فأزهار الياسمين قديمة!
ترد الجدة:
نعم بالطبع هل تعرف يا جميل أن أزهار الياسمين " Jasmine grandiflorum " أيضاً بلقب"ملكة الزهور"؛ لأن الياسمين من أقدم الزهور المستعملة على نحو واسع في صناعة العطور؟!
حكاية جميل وبثينة
أحست الجدة أن جميل لديه قصة خاصة يريد أن يبوح بها لجدته لكنه متردد كعادته، سألت الجدة جميل سؤال مباشر هل بثينة تحب الزهور؟
أجاب جميل باندفاع وبدون تفكير: نعم تحب الزهور
ردت الجدة فى عفوية مصطنعة لا تخلو من المكر الحسن
وكيف عرفت؟
استغرب جميل من معرفة الجدة بحكاية بثينة
إنه لم يخبر أحداً حتى أمه أقرب الناس إلي قلبه
لم تمهله الجدة وأجابت عن السؤال الذى لم يسأله
كيف أعبر لبثينة عن حبى لها بطريقة مهذبة؟
إذن إليك الحل. قالت الجدة لجميل
وأشارت إلي أزهار الياسمين المتدلية من تكعيبة صنعت من خشب الكافور وكساها شجر الياسمين المتسلق حتى غطاها تماماً بسيقانه وأوراقه الخضراء فلم يعد يظهر منها شيء
دع الزهور تلعب دور المتحدث الرسمى تماماً كما الوزراء، فزهور الياسمين لها مدلولاتها المتنوعة كباقي أنواع الزهور والورود وترمز إلي أشياء متنوعة ومختلفة فى الحب وإهدائها بين حبيبين له معنى ومغزى كما يقول محمد فوزى فى أغنيته الشهيرة.
وتتوقف الرسالة المراد إرسالها على لون الياسمين، فالياسمين بشكل عام يرمز إلي اللطف، أما إهداء الياسمينة البيضاء إلي امرأة ما فلغتها "لماذا لا تحبين أبدا"؟ وهي تخاطب المرأة المتمردة غالباً وهذا أكثر شيوعا بين الشباب.
أما الياسمينة الصفراء فهي تخاطب المرأة الرقيقة الناعمة ولغتها "أريد أن أكون لك كل شيء"
رأت الجدة جميل حيران فقالت له:
ماذا ستقول لبثينة بلغة الياسمين؟!
نظر إليها جميل سأهديها الياسمينة الصفراء
واستأذن جميل الجدة فى قطف باقة من زهور الياسمين الأصفر من شجرة الياسمين التى زرعتها الجدة على التكعيبة فى بلكونة شقتها وعزم على الذهاب إلي بثينة وإهدائها الياسمين الأصفر.
لعنة الياسمين
وتوجه جميل إلي باب الشقة، لكنه ما أن وصل إلي الباب حتى عاد ثانية إلي الجدة، سألته الجدة لماذا رجعت؟
قال جميل:
لقد قلت لى سأخبرك بأمرين مهمين عن زهرة الياسمين
فما هما هذين الأمرين المهمين؟!
قالت الجدة: سأخبرك بهما فلا تستعجل، الياسمين الأصفر موطنه الأصلي هو الولايات المتحدة الأمريكية وهي شجرة مستديمة الخضرة مزهرة ذات ساق رفيع يشبه السلك سهلة التربية حيث إنها سريعة النمو وذات رائحة عطرية جميلة. يبلغ ارتفاع النبتة من ثلاثة إلي ستة أمتار وهي تفضل الإضاءة المباشرة أو نصف مظللة، ويفضل ري النبات بشكل منتظم وهي من النباتات المقاومة للجفاف.
قال جميل فى نفسه: لماذا تطيل الجدة فى الكلام عن الياسمين لماذا لا تخبرنى مباشرة بالأمرين؟!
قرأت الجدة فى وجه جميل ما جال فى نفسه، لكنها واصلت الكلام عن الياسمين الأصفر، أما بالنسبة للأوراق فهي أوراق خضراء لامعة ملساء تنمو بشكل متقابل على الأفرع أما الأزهار فهي صفراء سميكة عطرية قمعية الشكل.
قالت الجدة وهى تنهى كلامها عن الياسمين الأصفر:
يتكاثر النبات بواسطة البذور والعقل الساقية، الكثير من الناس يستخدمون النبات لغرض التغطية حيث إنها تتسلق الأعمدة والأشجار. تماماً كما ترى هنا فى تكعيبتى.
قرأ جميل فى عين الجدة علامات الحزن وسأل نفسه:
لماذا تبدو حزينة الآن وهى تحكى عن الياسمين الأصفر وتطيل الكلام لعلها ربطت بين الزهرة وابن على وأوجه الشبه من التسلق والقمع والتغطية على الفساد.
وبادرها جميل مداعباً لها وليذهب عنها الحزن، وقد أخذ يلوك بعض الزهور ويبلعها منشياً بعبيرها:
ـ ماهو الأمر الثانى المهم عن زهرة الياسمين؟!
سألته الجدة ماذا تأكل؟
قال جميل قولى أولاً:
ماهو الأمر الثانى المهم عن زهرة الياسمين؟
قالت الجدة سأقول سأحكى لك وبدأت تحكى الجدة عن أسطورة لعنة الياسمين.
تقول الأسطورة:
إن كل أجزاء شجرة الياسمين سامة الساق والأوراق حتى الأزهار؛ لذا كان العشاق عندما تغلق كل الأبواب أمام حبهم يلجئون إلي هذه الطريقة يأكلون أزهار الياسمين؛ لتكون أجسادهم بعد الموت بها روح الياسمين ويعرف بذلك من يعثر على أجسادهم أنهم أصيبوا بلعنة العشق ولعنة الياسمين, سرعان ما ظهرت أعراض التسمم من جراء أكل أزهار الياسمين الأصفر على وجه جميل، العرق/ الغثيان/ ارتخاء العضلات/ انخفاض درجة الحرارة/ ضيق النفس/ اضطراب عنيف وتشنج.
وترنح جميل، فقد توازنه، سقط جميل من بلكونة الدور الخامس
وقفت الجدة فى ذهول وهى تردد:
ـ لقد أصابته لعنة الياسمين .. لقد أصابته لعنة الياسمين.
من مجموعة تفاحة آدم
التعليقات (0)