بقلم : د . سمير محمود قديح باحث في الشئون الأمنية والإستراتيجية
لم يبقَ للرجل الملقب بـ (أمير الظلام) إلا دقّ رأسه في الحائط ، بعد أن صعقه الخبر الذي تلقّاه للتو ، و هو مقتل أحد أكفأ رجاله على يد مقاوم فلسطيني
كان أمير الظلام أو (الرجل الغامض) أو (الرجل الظل) كما تسميه الصحف ، يتربع على رأسجهاز (الشاباك) ، ومن يحتل هذا المنصب يكون لديه صلاحيات واسعة ، و منها اتخاذهللقرارات بمفرده ، و عادة ما يكون رأيه في القضايا الأمنية ملزماً لحكومته ، و لكنمن جانب آخر فإنه يتحمّل مسؤولية كلّ ما يحدث في الجهاز الذي يترأسه ، و كل خطأيرتكبه أي من رجاله فإنه يتحمل المسؤولية الكاملة عنه
و في ذلك الصباح ، لميكن أمير الظلام قد تناول قهوته بعد ، عندما دق هاتفه الخاص و حمل له نبأ مقتل أحدأكفأ رجاله .و لم يكفِ سيل السباب و الشتائم التي أطلقها في الهواء لكي تهدّئ منروعه ، لأنه كان يعرِف معنى أن يقتَل أحد رجاله بتلك الصورة التي حدثت ، و يعلم أنقيادته السياسية ستحمّله المسؤولية المباشرة عن ذلك و ربما سيفقد منصبه و ينهارمستقبله المهني في الجهاز الذي حقّق نجاحات كبيرة في عهده ضد المقاومين الفلسطينيينو كان عليه وسط همومه و غضبه أن يتصل برئيس وزرائه بواسطة الخط الساخن بينهمافوراً و كذلك إبلاغ وزير الحرب و قائد الجيش و قادة فروع أجهزة المخابرات الأخرى ،كجهاز الموساد المناط به العمليات الخارجية .ولم يكن يدرك بعد و هو يقوم بمهمةالإبلاغ ، كيف حدثت بالضبط عملية قتل ضابطه ، و لم يكن يعرف بالطبع أن عملية القتلتقرّرت في ذلك اليوم الذي عاد فيه عامل فلسطيني إلى منزله يحمل في قلبه و عقلهمأساة شعبه.
حسن و ابنته ميرفت
عاد الشاب حسن أبو شعيرة إلى بيته في مخيمبيت جبرين) للاجئين
الفلسطينيين في مدخل مدينة بيت لحم الشمالي و هو فرح ، رغمأنه كان
منهكاً بسبب عمله الشاق في أحد الفنادق .
كان حسن يرى و يسمع و يشعر بمعاناة أهله في المخيم الذي ولد فيه عام 1969م و في المدن و القرى المجاورة ، ونشأ و هو يرى جرائم المحتلين الصهاينة فانضمّ إلى المقاومة عام 1985م و نتيجة لذلكاعتقله المحتلون
و زاده السجن إصراراً على مواصلة النضال ، فعندما خرج منه .
شاركمجموعات المقاومة في مخيمه في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى (1987 - 1992م) و تكرّرتتجربة السجن معه ، و في انتفاضة الأقصى التي بدأها الشعب الفلسطيني في 28/9/2002م ،كان حسن ضمن مجموعات العمل العسكري السري ، و شاهد كيف ارتكب المحتلون الصهاينةجرائم قتل للأطفال و الشيوخ و الرجال بدم بارد ، مثلما حدث مع الشهيد الطفل محمدالدرة الذي قتل و هو يحاول الاحتماء بحضن أبيه ، والطفل مؤيّد الجواريش الذيقتله قناص صهيوني بينما كان يحمل حقيبته المدرسية على ظهره فتناثر مخه على دفاترهالمدرسيةوعندما عاد حسن مساء ذلك اليوم إلى منزله ، حدثته ابنته ميرفت كيف سقط مؤيّد بين أيدي أصدقائه الأطفال في نهاية يوم دوام مدرسي ، و نقل مصوّرواوكالات الأنباء العالمية صور مؤيّد إلى أنحاء العالم ، و لكن هذا العالم بقي نائماً عن مأساة الفلسطينيين .ولم يحرّك هذا العالم ساكناً ، حتى عندما خرج الطبيب الألماني فيشر من منزله ليلاً ليسعف مصابين فلسطينيين فقصفته المروحية العسكريةالصهيونية أمام منزله ولم يعد لأطفاله وأبنائه الذين كانوا ينتظرونه، ومثلهما الكثير من الشهداء .ومن الصعب على حسن أو على غيره من الفلسطينيين أن ينسوا ليلةالقصف المخيفة تلك ، التي ذهب فيها الدكتور (فيشر) إلى غير عودة ، كانت مروحيات الاحتلال تطلق النار على كل شيء متحرك .وفي الصباح ، ذهب حسن إلى منزل الدكتور فيشر، مثلما فعل المئات من المواطنين ، كانت رائحة الدم المختلط مع التراب تزكم الأنوف، في المكان الذي سقط فيه الدكتور فيشر بينما كانت إحدى القطط ، غير عابئة بحركةالمواطنين ، تضع قطعة صغيرة من اللحم في فمها و تركض بها إلى الحقول المجاورة لتنضمإلى قطط أخرى كانت تفتّش بحاسة الشم عن قطع أخرى تناثرت من جسد الطبيب الذي قطّعته القذيفة الصهيونية إلى أشلاء يصعب حصرها . وبعد أن قام بواجب العزاء ، خرج حسن منالمنزل ، و على الدرج سمع إحدى النساء تقول لامرأة أخرىهذا قدرنا ؟ ماذا نفعل؟ يجب أن نقبل به ولم يقبل حسن على نفسه أن يجلس يندب قدره و حظّه و هو يرىجبروت الاحتلال الصهيوني بينما أشقاؤه العرب و المسلمون و العالم كله لا يحرّك ساكناً ففكّر بكيفية مواجهة المحتلين المدجّجين بالأسلحة الحديثة والتكنولوجياخصوصاً تلك التي تأتيهم من أمريكا ، و رغم أنه أدرك صعوبة ذلك إلا أنه قرّر أن يفعلشيئاً ، و قال لنفسه : "لن أكون بأقل من الشهداء غيري الذين قاوموا ظلم الاحتلالطوال عشرات الأعوام" .وهداه تفكيره إلى خطة بدت جنونية و هدف منها ليس فقط المشاركةفي المقاومة بل الانتصار على الجيش الصهيوني الذي يقول عنه الصهاينة إنه جيش لايقهر ، و أكثر من هذا قرّر الانتصار على المخابرات الصهيونية التي تعدّ من أقوىمخابرات العالم ؟ فهل سينتصر فعلاً ؟ كما قلنا عاد حسن فرحاً إلى المخيم حيثيسكن و دخل منزله ، و رغم أن زوجته أدركت بأنه فرحٌ إلا أنها أبدت استغرابها عندمارأته ساهماً و هو يحتضن ابنته ميرفت بعد أن سألها عن مدرستها ، و لم تشأ زوجته أنتضايقه بإلحاحها و أسئلتها فتركته على سجيّته و قالت في نفسها أمير الظلام قالت ميرفت لأبيها اليوم لم نكمل الدراسة بعد أن قذفنا جنود الاحتلالبقنابل الغاز المدمع و أصابوا العشرات من التلميذات بالاختناق ترك حسنابنته لتذاكر دروسها ، و بعد أن أخذ له مكاناً في المنزل ، بدأ يستعرض ما جرى خلالالأيام الماضية و يكاد لا يصدّق نفسه بأنه كسب ثقة رجل المخابرات الصهيوني البارزمودي وتساءل حسن فجأة "هل يمكن فعلاً أن يكون مودي بلع الطعم" ؟؟ ... و سرّتساؤل حسن هو معرفته الأكيدة لشخصية الضابط الصهيوني مودي.
الضابطمودي
كان (يهودا إدري) الملقب مودي من أذكى ضباط المخابرات الصهيونية (جهاز لأمنالعام) و المسمّى (الشاباك) و هذا الجهاز مختص بملاحقة الفدائيين الفلسطينيين واغتيالهم و اعتقالهم و التحقيق معهم ، و على يد محقّقي هذا الجهاز سقط العشرات منالشهداء الفلسطينيين في زنازين المحتلين التي يمارس فيها أبشع أنواع التعذيب ونظراً لذكائه و مثابرته أصبح برتبة (لفتنانت كولونيل) أي عقيد في شعبةالاستخبارات العسكرية ، و انتقل إلى الخدمة في جهاز (الشاباك) بعد اندلاع انتفاضةالأقصى للمساعدة في جمع المعلومات الاستخبارية و تجنيد و تشغيل العملاء و تنفيذاغتيالات ضد الكوادر الفلسطينية
ولم يكن اختيار (إدري) الذي أصبح اسمه الكوديبعد انتقاله إلى (الشاباك) مودي عفوياً لمهمة قيادة ملف (504) المناط به تجنيدالعملاء و المسؤولية عن تصفية كوادر الانتفاضة ، فهو يجيد اللغة العربية و يتحدّثهابطلاقة و خبير في العادات و التقاليد العربية ، و كان من أبرز المحاضرين في دوراتإعداد وحدات (المستعربين) وضباط الاستخبارات، ووحدات المستعربين هي ما يسمّيهاالفلسطينيون وحدات الموت، حيث يقوم أفرادها من الكوماندوز بالتخفّي بالزي العربيومهاجمة الأفراد و المواطنين الذين يتقرّر تصفيتهم أو اعتقالهم من قبل أجهزةمخابرات الاحتلال . ومنذ تسلّم عمله الجديد في (الشاباك) بدأ مودي عمله بهمة و نشاطو استطاع التخطيط لقتل حسين عبيات قائد كتائب الأقصى التي انتمى لها حسن أبو شعيرة ، وذلك بقصف سيارته بالصواريخ مما أدّى إلى استشهاده و استشهاد سيدتين هما عزيزة دنون و رحمة شاهين
ورغم أن عملية قتل القائد حسين عبيات الذي أرّق جنودالاحتلال و المستوطنين بعملياته الجريئة ، لم تستلزم من مودي كثيراً من العمل الاستخباري، بسبب عدم أخذ حسين الاحتياطات اللازمة في التخفّي ، واعتماد موديورؤسائه في الشاباك على التفوّق التكنولوجي والطائرات الأمريكية المزوّدة بأحدثالأجهزة، إلا أن قتل حسين عبيات، أثار سعادة كبيرة لدى قادة إسرائيل، ولم يخفِهؤلاء فرحهم بقتل عبيات ، وعبّر عن ذلك الفرح ، بشكلٍ علني رئيس دولتهم (موسى قصاب ورئيس حكومتهم الجنرال باراك وقائد الجيش الجنرال موفاز وسلسلة طويلة من المسؤولينالصهاينة . وفي أحد مكاتب الشاباك كان مودي يشرب مع زملائه و على رأسهم أمير الظلامالغامض قائد الشاباك نخب الانتصار بمناسبة قتل حسين عبيات .و تمكن مودي أيضاً منالتخطيط لاغتيال الشهيد يوسف أبو صوي و هو أحد كوادر انتفاضة الأقصى البارزين ،الذي كان يمارس نشاطه بسرية تامة و لا يظهر كثيراً بشكلٍ علني ، و لكنه لم يستطعمقاومة الذهاب إلى منزل والده لتناول إفطار رمضان ، و وصل إلى منزل والده و كانيظن أنه نجح بذلك دون أن ترصده عيون مودي و لم يعرف بخطئه إلا قبل دقائق من أذانالمغرب ، فعندما نزل يوسف إلى أمام المنزل ، كانت سيارة تتقدّم منه بسرعة يسبقهاإطلاق عيارات نارية من قناصة محترفين باتجاهه ، و تغطّي عليها مئات الطلقات الناريةالتي انطلقت من الرشاشات الثقيلة من مواقع جيش الاحتلال على التلال القريبة منالمستوطنات . و سقط يوسف شهيداً و جسده مطرّزاً برصاص الحقد . ولكن رغم هذا النجاحإلا أن الانتفاضة كانت تسير بخطى واثقة و العمليات الفدائية مستمرة ، وكان على موديأن يحاول اختراق مجموعات المقاومة و لهذا ذهب إلى حسن بعد أن درس ملفّه بالطبع ، وعرف أنه كان نشيطاً في العمل الفدائي ثم ها هو يراه مبتعداً عن العمل الفدائي ويعمل عملاً شاقاً في فندق و لا بد أنه بحاجة للنقود قال مودي لحسن كما تعلم فإننا نعرف كل شيء عنك : عندما عملت في السابق مع(المخرّبين) ، تمكّنا من القبض عليك و سجنك أكثر من مرةفأجابه حسنما دمتم تعرفون كلّ شيء ،فإنّكم لا بد تعرفون أنني تركت كلّ شيء و أهتم فقط بتوفير لقمة الخبز لأبنائي فيهذه الظروف القاسيةردّ عليه مودي قلت لك نعرف كلّ شيء عنك ، ولهذانريدك أن تساعدنا في القبض على (المخرّبين أجابه حسن بلهجة حازمة و واثقة لقد تركت العمل المقاوم و لا أعرف أي شيء ، و لا أستطيع مساعدة أحد سواء كنتمأنتم أو غيركم قال مودي بلهجة تهديد لك زوجة و أبناء ينتظرون عودتك كلّيوم ، و إذا لم تعمل معنا ، فأنت تعرف بأننا نستطع قتل زوجتك و أطفالك ، مثلمافعلنا ذلك كثيراً ، فاعمل معنا أحسن لك وتراجع مودي عن لهجته السابقة و قالبتودّدو إذا عملت معنا لن نبخل عليك ، و بدلاً من أن تفقد أطفالك ،عطيكمالاً لتصرف عليهموتكرّرت الضغوط من مودي على حسن الذي بدا له عرض موديمفاجأة محزنة له ، إلا أنه فكّر أن يجعل الأمر مختلفاً و يقلب السحر على الساحروبعد أشهر من مجاراة مودي و إيهامه بأنه يعمل معه ، قال له مودي : يا حسن أنت منأفضل عملائنا ، و أثبت إخلاصك و نرجو أن تستمر بالعمل معنا بهمة عالية و نحن لننبخل عليك بأيّ شيء تطلبه . وكان ذلك يعني أن حسن استطاع أن يكسب ثقة مودي ، و أنهذا لا يشكّ في حسن ، لذلك كان فرحاً في ذلك المساء عندما عاد إلى منزله رفاقحسن كان حسن يعرف أن للعقيد مودي عيون من العملاء ترصده لتنقل تحرّكاته إلى موديفضاعف عمليات التمويه بعد أن تلقّى عرض الخيانة .فعندما يعود إلى منزله ينزل منالسيارة على بعد مائة متر من المكان لصحيح و يسير مشياً و هو يراقب إذا كان أحديتبعه ، و يسقط من يده جريدة يحملها و عندما ينحني لالتقاطها عن الأرض يتلفّتيميناً و يساراً ، ثم يقف أمام دكان (أبو محمد) في مدخل المخيم ، ويدردش مع أبيمحمد و هو ينظر حوله ليتأكّد إذا كان مراقباً أم لا ، و يصل إلى بيته بعد أن يدورفي أزقة المخيم ، وكلّ فترة و أخرى يطلّ من شباك المنزل على الشارع ، دون أن يلحظهأحد ، ليرى إذا كان يقف هناك أي من المخبرين الذين يعملون مع موديواستطاعتضليل عيون المخابرات و الالتقاء بشباب كتائب الأقصى وروى لهم ما حدث معه و قدّماقتراحه ، ورغم المفاجأة لدى شباب الكتائب إلا أنهم بعد التفكير باقتراح حسنودراسته من كل الجوانب، فرحوا بما نوى عمله حسن ولم يضيّعوا وقتا، أعطوه مسدساً ،وبدأ حسن بالتدريب في ظروف بالغة السرية لتحقيق نصرٍ طالما تمنّاه وتمنّته الكتائبعلى ذكاء المخابرات الصهيونية ومع توالي الأيام و تضليل العقيد مودي من قبل حسنورفاقه بخطة محكمة، وذلك بتزويده بتقارير مزيّفة عن العمل الفدائي ولكن فيها بعضالمعلومات الصحيحة التي لا تضرّ لكسب ثقته، وفي ظروف صعبة للغاية كانت السيطرة العسكرية والأمنية على الأراضي الفلسطينية فيها لـ مودي وجهازه ، تم تحديد ساعةالصفر وأمضى حسن ليلته تلك مع أبنائه و قال لميرفت أنت الكبيرة يا ميرفت ،يجب أن تضاعفي اهتمامك بإخوتكردّت ميرفت أحبهم يا أبي كما أحبك و أحبأمي ، و أحاول دائماً أن أوفّر لهم ما يطلبونحضن حسن ابنته و قال أعرفأنك كبرت يا ميرفت قبل الأوان ، و أنا أعتمد عليك و أحبك كثيراً وقبل أن يخلدإلى النوم اطمئن على ما كان كتبه ، قبل أيام ، من كلام في ورقة صغيرة و أخفاها فيالمنزل
اتصل حسن بمودي على هاتفه السري أريد أن أراك لأمرٍ هام
فوجئمودي الذي ردّ معاتباً حسن بلهجة قاسية ألم أقل لك لا تستخدم هذا الرقمللاتصال بي إلا إذا كان الأمر طارئاً رد حسن الأمر هام و ضروري
سألمودي ألم تكن تستطيع الانتظار حتى موعد المقابلة في المكان السري بالقدس أجاب حسن بصوتٍ جعله يبدو جاداً جداً قلت لك الأمر ضروري ، و على أية حاللديّ معلومات تتعلّق بأمنكم يجب أن تعرفها و أنت حر عندها قال مودي إذاً موعدنا غداً الخميس في الساعة والمكان المتفقان عليه للحالات الطارئةاليوم هو الخميس : 14/06/2001ذهب حسن مبكراً لموعده مع مودي الذي عرف أنمكانه قرب النفق في شارع الستين الاستيطاني على مشارف مستوطنة (جيلو) جنوب مدينةالقدس المحتلة ، لتزويد هذا العقيد بالمعلومات الخطيرة التي بحوزته عن العمليةالفدائية التي خطّطت لها كتائب شهداء الأقصى و قال حسن لنفسه و كأنه يخاطبموديكنت دائماً تفخر بأنك صفيت حسين و يوسف و أبو خليل ، و الآن جاء دوركأيها المصفّي
وعندما اقترب من الشارع الذي أقيم لخدمة المستوطنين و ابتلعآلاف الدونمات المزروعة بالزيتون من أراضي الفلاحين العرب ، اختبأ بين شجيراتمحاذية للشارع لم تطلها جرافات الاحتلال ، فبقيت شاهدة على عروبة هذه الأرض
كانكلّ شيء بالنسبة لحسن يسير وفق الخطة الفدائية التي وضعها مع رفاقه وعندما اقتربتسيارة مودي الفوكس فاجن الحديثة ، تقدّم حسن وهو يخفي شيئاً في يده و ما إن فتححارس مودي الباب ليصعد حسن ليذهب معهم لمكتب
مودي في مقر المخابرات ، ليقدّمالتقرير الهام ، حانت بالنسبة لحسن اللحظة الفارقة التي عاش أشهراً لأجلها و أيقنأن ذكاء الحق سينتصر الآن على تكنولوجيا الباطل ، فأشهر مسدسه وفي ثواني كان يطلقرصاصات قاتلة على مودي فأرداه قتيلاً على الفور ، و قبل أن ينتبه حارسه علىالمفاجأة ، أطلق حسن رصاصتين في رأس و رقبة الحارس ، الذي لم يقتل ، وبسرعة عاد حسنأدراجه ، إلى حيث أتى بعد أن نفّذ الخطة ، دون أن يدري أن مودي كان معه حارسٌ ثانٍيجلس في المقعد الخلفي و لم يتمكّن حسن من تمييزه بسبب زجاج السيارة الأسود الذييجعل من بداخل السيارة يرى ما يجري خارجها دون أن يتمكّن من يقف خارجاً من رؤية منبداخل السيارة
ولم يحرّك الحارس الثاني ساكناً إلا بعد أن رأى حسن يعود أدراجه، فأطلق النار عليه من الخلف فسقط حسن على الأرض ، بعد أن أبلغ مودي بطريقته عنالعملية الفدائية التي خطّط لها منذ شهور.
ميرفت و حسن
بعد قليل من الحادثكان رفاق حسن و جماهير غفيرة بدأت تتوافد على منزل حسن في مخيم (بيت جبرين) ، فرغمأن أجهزة المخابرات الصهيونية لم تعلن اسم الضابط القتيل أو اسم الذي قتله ، إلا أنجميع المعلومات كانت لدى
الكتائب ، فهي تعرف من هو مودي وأن الذي صفاه هو (أسدالكتائب) حسن أبو شعيرة ، كما أطلق على حسن . و أصبح أفراد الكتائب مصدر المعلوماتالموثوق لوكالات الأنباء العالمية التي انشغلت بالنبأ الصاعق على أجهزة مخابراتالاحتلال في مخيم (بيت جبرين) بدأت المفاجأة على أسرة حسن ، كانت الأخبار تأتيتباعاً ، و لكن الخطأ الذي ارتكبه رفاق حسن ، رغم جهدهم الاستخباري والتدريبي الذييثير الإعجاب، فهو تصديقهم لرواية المخابرات الصهيونية حول مقتل حسن ، ويبدو أنهممن خلال رصدهم للعملية شاهدوا حسن و هو يسقط برصاص الحارس الثاني ، فاعتقدوا بأنهاستشهد ، مع أنه في مثل هذه الحالات وبغياب رواية صادقة أو مستقلة ، فلا يجب أبداًالركون إلى روايات مخابرات معادية . وأقيمت لحسن خلال الأيام التالية مهرجاناتوطنية و ألصقت صوره على الجدران وطبعت على القمصان و أصبح اسمه على كل لسان كبطليحتذى ، وكان الجميع في انتظار تسلم جثمان حسن الذي سلّم لأهله بعد 12 يوماً منالعملية، وتبيّن بعد فحص الجثمان، خطأ تسرّع الكتائب بتصديق الرواية الصهيونية حولمقتله ، لأن الشواهد تدلّ على أن حسن اعتقل بعد إصابته وتعرّض لتعذيب قاس، فهناكحروق على الجثمان وأحشائه مفقودة وتم فقأ عينه اليمنى وأصابعه مقطعة وهناك آثارلسبع رصاصات أطلقت على رأس حسن من نقطة صفرونقل جثمان حسن بالزغاريد إلىمثواه الأخير لدفنه بجانب قائد الكتائب الشهيد حسين عبيات ، ورأى المشيّعون زوجةحسن وهي تتقدّم وتحمل في نعشه بدون أن تذرف أية دمعة وتهتف بحياته وحياة جميعالشهداء ، وبجانبها تسير ابنتها ميرفت
وبعد الجنازة و في ساحة المخيم الذي ولدفيه حسن مشرداً عن بلدته الأصلية وقفت ابنته ميرفت تمسك الورقة التي خطّها واطمئنعليها ليلة ذهابه لموعده مع ضابط (الشاباك) و لم تكن إلا وصيته ، و تلتها ميرفت بصوت واثق و هي ترتدي قميصاً عليه صورة والدها الشهيد.
بسم الله الرحمنالرحيم
وداعاً يا دنيا، إلى الذين يريدون معرفة الحق و فتح أبصارهم على النور وإنقاذ أنفسهم من أن يكونوا فرائس سهلة بين أنياب و مخالب هذه الدنيا ، أقول ضارعاًإلى الله عز وجلّ أن يتقبل منا و أن يجعله في ميزاننا يوم القيامة و أن يكون خالصاًلوجهه و أن ينفعنا و ينفع بنا ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنكرحمة إنك أنت الوهاب.
أما بعد ... فأنا حسن سعيد أحمد حسن أبو شعيرة من سكانمخيم العزة أبلغ من العمر 32 سنة متزوج و يوجد لديّ أطفال (3) أرجو من الله أن لاينساهم أحد من الشرفاء ومن أهلي العظام في هذا المخيم من بعدي ، أهلي سوف أقوم بكلّفخر بعمل بطولي في سبيل الله والوطن وفي سبيل شهداء الأقصى وأثأر لكلّ شرفاء فلسطينومن هنا أقول إلى أهلي وجيراني المناضلين وأبناء هذا المخيم المناضل أن يستمروا فيمسيرة الكفاح حتى النصر و يرجع الحق إلى أهلنا بإذن الله و أقول حسبنا بالله ونعمالوكيل ... أهلي الكرام أبناء عمّي أجمعين .. أنتم من جعلني بكلّ فخر واعتزاز أنأكون بطلاً من أجل هذا الوطن وبهذا أقول سوف أقوم بعملٍ بطولي في أقرب وقتٍ ممكن يا رب بأن يكون هذا مشرّفاً لكم ولكل فلسطيني ، لا تنسوا أبنائي يا أهلي من بعديحتى أطمئن في قبري ..وأخيراً أقول.
بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى
"ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون"
صدق اللهالعظيم
أخوكم : حسن سعيد أبو شعيرة
في حركة فتح أنا شهيد أنا شهيد يا رب يا رب في سبيل الله و فلسطين
الأقصى في دمي وداعاً .
وأصبح حسننموذجاً ومثلاً ، وكتب رفاقه الذين تابعوا العمل من بعده على صورة جداريه كبيرة له في مدخل المخيم الذي ولد وعاش فيه بعيداً عن بلدته الأصلية المدمّرة
إن كسر المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقّي
التعليقات (0)