قصة قميص أحمر
بقلم د صديق الحكيم
(1)
حين رحل يوسف من قريته المطلة على النيل متجها جنوباُ صوب القاهرة ليشارك الثائرين في ميدان التحرير آمالهم فى غداُ أفضل وآلامهم من الخوف والجوع والبرد والجروح والحزن علي عزيز فُقد
ورغم محاولتها خنق بكائها ارتفع نشيجها واغرورقت عينيها بالدموع الساخنة التي فاضت على خديها الملفوحين بنسيم الفجر البارد قبيل شروق شمس يوم الأربعاء الثاني من فبراير
حبست غالية نحيبها بطرف خمارها الأبيض وانشغلت في اعداد زوادة للمسافر على عجل عيش بلدي خرج لتوه من الفرن يتلقاه يوسف بيديه الباردتين ليبث فيهما الدفء
(2)
يشم فيه رائحة القرية العتيقة وأنفاس أمه العبقة ، ويخاطبها قائلا سأذكرك يا أماه حتى وأنا في قلب الموت، سأذكرك هناك حيث لا شيء يسكن القلوب ساعتها إلا رائحة التراب والغاز المسّيل للدموع والبارود وخبزك وذكريات الأهل وأنفاسهم ، وأحلامهم ،
وحين أعود يا أماه منتصراُ على الطاغية وزبانيته الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد
سنجلس هنا على هذه الدكة الخشبية فى تراسنا الرحب المطل على صفحة النيل الخالد الذي تعاقب عليه حكام مصر منذ سبعة الآف سنة فرحلوا وبقى هو شاهداُ علي الصالح والطالح منهم يحكي للأجيال المتعاقبة قصصهم
وسأحدثك يا أمي عن رحلتى للتحرير وكل ما فيها من دموع وعرق وخوف وإصرار على النصروسأحضرلك معي تذكاراُ من ميدان التحرير
قد يكون حجارة أصيب بها ثائر يبتغي الحرية أو قطعة من قميص شهيد
(3)
تذكرت الأم الشباب الغض البرئ الذي سافرقبل يوسف إلي ميدان التحرير ولم يعد إلا محمولاً علي الأعناق أدركته الشهادة ولم يدرك النصر منذ بدأت الثورة يوم الثلاثاء الأخير من يناير سقطت أجساد على الأرض لترتفع أرواحها إلي جنان الخلد شهداء وأصيب من أصيب واعتقل من اعتقل وعذب من عذب لكن الثوار مرابطون ثابتون
لم تملك الأم إلا أن تدع الله أن يرجع يوسف إلي حضنها سالماً غانماً
كانت تبكي وهي تودعه.. تبكي وهي تضع له أرغفة العيش الساخنة وقطع الجبن البلدى في حقبته ، وبعض الملابس الشتوية وشنطة صغيرة للإسعافات الأولية وزجاجة خل لتقيه شر الغازات المسيلة للدموع
(4)
تسمرت أمام التلفزيون تقلب كل القنوات من الجزيرة إلى العربية
لم يغمض لها جفن طوال ساعات الليل صلت الفجر ودعت للثوار بالنصر وبعد الفجر اخذتها سنة من النوم أستيقظت بعدها منقبضة النفس يدق قلبها الضعيف دقات سرع من وتيرتها القلق على يوسف واخوته
قناة الجزيرة تعرض تقرير عن "موقعة الجمل "التى نظمها أذناب الطاغية لإجهاض الثورة وإرهاب الثوار
بدأت الموقعة يوم الاربعاء الثاني من فبراير، بهجوم منظم من البلطجية المشاة التي قدرت أعدادهم بحوالي ألفين إلي ثلاثة الآف بلطجي دخلوا لمشارف ميدان التحرير من ناحية ميدان الشهيدعبد المنعم رياض عند المتحف المصري ، في غفلة من قوات الجيش التي تمركزت لحفظ الامن ، كانوا يمشون بانتظام ووقفوا فجأة بإشارة متفق عليها من منظمي المسيرة وبدأوا في إلقاء الحجارة علي مقدمة الثوارالذين بادلوهم بالقاء الحجارة. وفجأة أفسح البلطجية المشاة الطريق ودخل قرابة العشرين من البلطجية الخيالة وعددا من العربات المحملة بالبلطجية والجمال والبغال إلي ساحة الميدان في هجوم مباغت وغريب لم يتوقعه أحد وسط فرار من الثوار الذين كانوا في المقدمة
(5)
كان هذا الهجوم الصريح علي الميدان من قبل تحالف طيور الظلام ، المتمثل في رجال الحزب الحاكم ، وبعض الوزراء وأعضاء مجلس الشعب السابق ، وبعض رجال الأعمال الفاسدين ، تجمع كل هؤلاء في محاولة منهم لافشال الثورة حتى لا يسقط الطاغية وبالتالي يفضح فسادهم
هجوم الأسلحة المشتركة ( الطوب من مشاة البلطجية و خيالة البلطجية و العربات الكارو و الجمال و البغال والحمير) أحدث اختراقا واضحاً في صفوف الثوارالعزل الذين لم يكونوا مستعدين لمواجهة الخيالة والهجانة ، ولم يكن في جعبتهم ما يستطيعون به الدفاع عن أنفسهم ومقاومة كل هؤلاء فتراجع الثوارمن المقدمة تراجعا كبيرا
وكان اندفاع الخيالة والهجانة سريعا وسط صفوف الثوار ، حتى أوشكوا على الاقتراب من قلب الميدان حيث كانبقية الثوار في الخيام وبجوارهم المستشفي الميداني ، وهي النقطة الاكثر أهمية في الميدان وكان يجب الدفاع عنها بأي وسيلة ويعلق أحد الضيوف فى قناة العربية على غباء البلطجية فيقول
كان الاختراق السريع للخيالة البلطجية بدون دعم من المشاة البلطجية هو من الأخطاء التكتيكية الفادحة ، وذلك لاختلاف السرعة ،
(6)
وكما عانت اسرائيل من هجوم المدرعات بدون دعم المشاة في حرب أكتوبر المجيدة كذلك عاني البلطجية من ذلك الخطأ ، بينما كانت العربات الكارو ابطأ وظلت في حماية المشاة البلطجية حيث دخل الخيالة والهجانة البلطجية عميقا لداخل صفوف الثوار بدون حماية ، فسرعان ما احاطوا بها وهجموا عليهم هجوما شجاعا مستغلين التفوق العددي لهم ، وكان أول من أسقط خيالة بلطجية هو شاب يرتدي قميص أحمر يظهرأمامكم الآن
لم تصدق الأم نفسها وهى تري ابنها يوسف بهذه الشجاعة وهو الوديع المسالم الذلا يسمع له صوت فى جنبات البيت يهوي الرسم ويكتب الشعر تخرج فى كلية الطب
لم تملك نفسها من شدة فرحها بابنها فبكت وأطلقت العنان لدموعها ثم واصلت المشاهدة
فور سقوط أول حصان تشجع بقية الثواروأسقطوا كل البطجية وتم محاصرتهم وأسرهم وتسليمهم لقوات الجيش
(7)
وفور سقوط أغلب الخيالة أدرك قائد حزب الشيطان الذي كان يركب الجمل في المقدمة أن الخيالة قد هزمت ، وبالفعل استدار الي الخلف وبدأ بالهروب وسط هجوما عنيفا من الثوار وحاول أحدهم اصابته بجزء حديدي من السور ولكنه فشل في افقاده توازنه ، وهرب قائد حزب الشيطان بسرعة كبيرة معتمدا علي ارتفاع الجمل الكبيروقوته
وفور هروب جميع الراكبين ، أدرك المشاة ضعف موقفهم ، فتقهقروا الي الوراء عشرات الامتار ، ولكن استعادوا تنظيم صفوفهم مرة اخري وبدأوا باستعمال سلاح "الطوب" مرة اخري مستغلين الهلع الذي احدثته الخيالة والهجانة البلطجية في صفوف الثوار، ومع ادراكهم بقلة عددهم الا انهم كانوا يقفون بعرض الشارع كي يسببوا بعضا من التفوق ، وكان الثوار رغم كثرة عددهم الا ان الطوب سلاح رمي مساحي فمن الصعب التصويب الدقيق علي رأس البلطجي علي العكس كان الطوب يمثل خطرا اكبر علي الثوار حيث كانوا محتشدين باعداد كبيرة وهناك احتمال أكبر أن يسقط الطوب علي رأس احدهم
(8).
ظلت معركة الاستنزاف تلك سحابة نهار يوم الاربعاء ، وهدأ البلطجية في مع آخر ضوء حيث أنهم رأوا أن أداءهم في تلك المعركة يقابل المائة جنية التي قبضوها ويزيد ، وسادت حالة من الهدوء عند المغرب .
ولكن مع اقتراب منتصف الليل ، عادت مجموعات جديدة من البلطجية الذين أخذوا الدورية المسائية ، قد كان أجرهم أعلى من بلطجية النهار وكانت اعدادهم أقل من ثلاثمائة إلى أربعمائة ولكنهم كانوا أكثر تسليحا من بلطجية النهار بكثير ، حيث كانت مجموعة صغيرة مسلحة بالأسلحة النارية ، والبعض الاخر والاكثر عددا مسلحا بزجاجات المولوتوف الحارقة !
وكانوا مستغلين المكان جيدا حيث صعدوا علي كوبري 6 اكتوبر المطل علي ميدان الشهيد عبد المنعم رياض وبدأوا بقصف الثوار بالزجاجات الحارقة والطوب وقام بعضهم باستخدام الأسلحة النارية ، وأحدثوا خسائر كبيرة في صفوف الثوار حيث استشهد وأصيب الكثيرين في تلك الليلة الدامية
(9)
عادت القلق إلي نفس الأم وتسارعت دقات قلبها الضعيف خوفا وفرقاعلى يوسف واخوته الثوار مع ارتفاع عدد الشهداء والمصابين
استمرت المعركة حتي مطلع الفجر علي فترات متقطعة ، حتي أيقن البلطجية اصرار الثوار علي الصمود والتمسك بميدان التحرير فتوقفت جهودهم في مهاجمة الثوار وركزوا علي قتل وضرب الصحفيين حتي يخفوا عن العالم حقيقة ما يجري ما يجري في مصر. صور لهم جهلهم وفسادهم اأنهم يستطيعون إخفاء الحقيقة فى عصر الفيس بوك والتويتر واليوتيوب لم يكن يدور بخلد أحدهم أن الأحداث تذاع على الهواء صوت وصورة وأني لهم ذلك وعقليتهم الفاسدة الراكدة منذ مايزيد على نصف قرن من الظلم والبطش والقهر
(10)
جاءهم الأمر بالانسحاب فهربوا مذعورين كالفئران واعترف من وقع منهم فى أيدى الثوار بحقيقة المؤامرة التى دبرها نواب الشعب لقتل الشعب المتطلع للحرية وكيف لا وهؤلاء النواب جاء للمجلس بالحديد والنار
عاد الهدوء يخيم على البيت وسكنت نفس الأم عندما تلقت مكالمة من يوسف يخبرها أن النصر حليفهم وأن الطاغية قد سقط بغباء أذنابه
كتبت المسودة الأولي يوم الجمعة 4 فبراير 2011
بعد يومين من موقعة الجمل الشهيرة في ميدان التحرير بالقاهرة
التعليقات (0)