كنت أعمل بعمل إضافي بعد دوامي الرسمي في مكتب مهندس فاضل مختص بتصميم العمار وكان عمله ناجحا لتألق ذوق هذا المهندس وكان العمل متلاحقا كل الوقت . ويوما جاء إلى المكتب جماعة يمثلون حيا من أحياء المدينة وقالوا أن اسمه حي الطلعة وقالوا إنهم لجنة الحي وطلبوا تصميم مسجد لحيهم واتفقوا مع محاسب المكتب على ألأجور وعرضوا على المعماري ما يريدون وذهبوا .
بعد خروجهم جاء إلينا المهندس صاحب المكتب وقال أنه يقترح أن لا نأخذ أجورا علي تصميم والإشراف على تنفيذ المساجد فقلنا ألأمر لك وكما تريد . وباشر بأعمال التصميم ، وعادت اللجنة بعد مدة فعرض عليهم التصميمات المبدئية فاقترحوا عليه أن يعمل ما يناسب حيهم وهو إبن المدينة ويعلم ما هو مطلوب ولكن احدهم اقترح أن يلحق بالمسجد مصلى للنساء وألآخر قاعة اجتماعات بالدور ألأرضي واتفقوا أخيرا أن يتركوا ألأمر له فباشر بعمل الخرائط اللازمة وتحويلها للترخيص ومتابعتها وتم ألأمر على أحسن حال ، وعاد أعضاء اللجنة ليدفعوا ما اتفق عليه فأخبرهم أن لا أحد في المكتب يريد شيئا وأن طاقم المكتب يتطوع للإشراف على التنفيذ حتى يتم البناء ، وقد بذل جهدا أن يكون البناء تحفة معمارية قام هو بتنفيذها وكما يريد رغم اعتراض بعض أعضاء اللجنة لزيادة التكاليف ولكن الله أعان وتم البناء وكان المسجد رغم صغر مساحته معلما من معالم الحي وليس الحي فقط وأنما المدينة أيضا .
يوما دخل إلى المكتب شاب بمقتبل العمر صغير الحجم ومتوسط الطول يلبس قبعة على رأسه من لباد لونه أخضر يميل إلى السواد وقد احاطت القبعة بمحيط رأسه بانتظام فيظن الناظر إليه أن رأسه حبة جوز هند قص نصف قشرتها وترك النصف ألأخر وثبتت بين كتفيه ودخل مباشرة إلى مكتب المهندس وكنت أنا عنده وألح عليه أن يتوسط له لدى اللجنة ليعمل خادما للمسجد فوعده خيرا وعرض ألأمر على اللجنة فقالوا له إن هذا الشاب لم يدخل المسجد في حياته وأن تعليمه لم يتجاوز الصفوف ألإبتدائية ألأولى وأن تصرفاته مع الناس بالحي غير سوية وأنه أناني انتهازي ، وبالعموم فأنه لا يصلح حتى لهذا العمل فقال المهندس جربوه لمدة ولعل الله يهديه ، فقبلوه على مضض ، ويوم افتتاح المسجد دعينا وصلينا ووقف شيخ كريم من الحي وألقى كلمة وكذلك رئيس اللجنه حامدين الله شاكرين كل من ساهم بإنجاز هذا العمل . وكان الشاب يتنقل بقبعته من مكان لمكان ويقول ويعترض وكأنه مالك المكان ويبدي نشاطا وخفة . ومن إعجابي بكلام الشيخ وأسلوبه وجمال المكان صرت آخذ أولادي كل يوم جمعة ونصلي الجمعة بالمسجد رغم بعد الحي الذي نسكنه عن حي الطلعة .
وتركت سكني في المدينة ورجعت وسكنت في بيتنا بالقرية وصرت أسافر كل يوم لمكان عملي وأعود في المساء إلى القرية وانقطعت عن مسجد الحي مدة لا تقل عن عشر سنوات وبعد عام ألألفين وألإجتياحات التي صارت تحدث من قبل قوات ألإحتلال والتضييق على المدن والطرق بالحواجز العسكرية ومنع التجول وتكرر تأخرنا في الصباح وانقطاعنا عن العمل أياما طلبت منا المؤسسة أن نسكن في المدينة لنكون أقرب لعملنا ، وقد تصادف سكني الجديد مع اثنان من زملائي في شقة بطرف حي الطلعة ، وكان يفصلنا عن حدود البلدة القديمة شارع لا يتجاوز عرضه عشرة أمتار ويوجد مسجد ضمن البلدة القديمة مميز ومبني على الطراز المملوكي بمئذنة مربعة وهو الوحيد من طرازة في المدينة وبه شيخ فاضل عالم جليل لم يتجاوز ألأربعين سنا فكنا نذهب ونصلي به كل ألأوقات وذلك لقربه من سكننا ، ويوما صحونا على مكبرات الصوت تعلن منع التجول في البلدة القديمة كاملة وكان مسجدنا المملوكي ضمن منع التجول في حين شارعنا لا ، فاتفقنا أن نصلي العشاء في مسجد الطلعة فذهبنا ودخلنا المسجد ولم يكن المسجد الذي أعرفه فقد قسم إلى خلوات قيل أن أحدها مكتب متولي الجامع والثانية لتعليم القرآن , والثالثة لدروس وندوات تعطى لبعض ألأولاد ، والآخر كمصلى للنساء، وكان بيت الصلاة قد انحسر في جزء من القاعة لا يتسع لعشرة مصلين يقفون صفا واحدا ولخمسة صفوف ، وكان المسجد يعج بأولاد بين العاشرة والخمسة عشر سنا وعدد كبار السن لا يتجاوز الخمسة ونحن ، وكان هناك شخص يجلس أمام المحراب يلبس عباءة سوداء ويضع قبعة لبّاد خضراء وكان عريضا يأخذ مكان اثنين وكل الأولاد يركزون نظرهم نحوه والكل يشير إليه ولم تُقَم الصلاة إلا بأمر منه، وأقيمت الصلاة ووقفنا أربعة صفوف وكان الرجل يقف خلف ألإمام مباشرة ، وأنا وقفت في الصف الثاني خلف الرجل ، والإمام شاب لم يتجاوز عمره السابعة عشرة حسبما قدرت وله لحية معدود شعراتها ، ونوينا للصلاة وبدأ الشيخ القراءة بدأ بالفاتحة ثم بسورة البقرة من أولها فقرأ ثلاث أيات ثم وقف وبدأ يعيد ما قرأه مرة ومرتين وثلاثا ولم يرده أحد فرددته من مكاني في الخلف فقرأ ألآية والتي بعدها ثم وقف وبدأ يعيد ما قرأ فرددته مرة أخرى وسارت ألأمور على ما يرام وكان بالفعل شابا خاشعا ومتقنا في صلاته حسن الصوت جهوره ، وانتهت الصلاة فلم أجد إلا والرجل صاحب العباءة يلف وجهه علي ويصيح ، لا يجوز ، لقد أفسدت صلاتنا ، لِمَ لَم تتركه حتى يتذكر من نفسه وتأملته فإذا وجهه نحيلا ورأسه يشبه حبة جوز هند قد قص نصف قشرتها ولكن كان في وسط جبينه بقعة سوداء دائرية الشكل تماما وكأنما رسمت بإتقان وبفرجار، فتذكرت من هو ولكن على شك، فسألته ألست فلان ، وكأني وقعت في محذور ، فنسي حرمة المسجد والصلاة وراح يرغي ويزبد ووقف فوقف جميع ألأولاد حتى ألإمام وصارت الدائرة تضيق علي شيئا فشيئا وعلق أحدهم إنه بدون لحية فكيف يرد إمامنا في الصلاة ، وبإشارة من عجوز قدر حراجة موقفي فهمت ما علي فعله فقلت يا أخي أني حافظ للقرآن ولكن من يقف بالصف ألأول أحق برد ألإمام وربما كما قلت أنت أن ألإمام يتذكر دون ردة فهدأ قليلا وأكملنا سننا وخرجنا ، فلحقنا الشيخ الذي أشار لي أن أختصر ألأمر وقال أريد أن أتحدث معكم لأنكم على ما يبدو غرباء عن الحي فدخل بيتنا وحضرت الشاي للجميع فقال: يبدو أنك تعرف هذا الرجل ، فقلت نعم ، جاء مرة للمكتب الذي كنت أعمل به ليتوسط له مدير المكتب عند لجنة الحي للعمل كخادم للمسجد ، فقال وعمل ثلاث سنوات وبطريقة لا نعلمها أصبح له أتباع ومريدون وأصبح ما رأيت لا يستطيع أحد أن يناقشه أو أن يقرب المسجد إلا تحت لواءه وفرض علينا فرضا فهو بلا علم ولا ذوق وأدخل أشياء إلى المسجد خارجة عن هدف المسجد لا أحد يرضى بها ولا بيدنا حيلة فانقطع أهل الحي عن الصلاة فيه ، فركز جهده على ألأطفال من سن عشر سنوات حتى خمس عشر سنة وكأنه يغريهم بشيء ولبس هذه العباءة وأنت تعلم أن جسمه نحيلا ولكن في هذه العباءة تجده عريضا ضخما لأنه عند الصلاة يضع رؤوس أصابعه أمام بعضها على صدره وليس كفيه فوق بعضهما ويفرد كوعيه علي سعتهما فيبدو بهذا الوضع عندما يقف في الصلاة وبضعفي حجمه الحقيقي ، اما سبب ثورته عليك عندما رددت ألإمام لأنك كشفته أمام مريديه أنه لا يحفظ شيئا من القرأن وكل الذي يحفظه كلمات لقنت له ليقولها وربما يجهل معناها وأدعية وأحادث بعضها مشكوك بسندها . فضحكنا وقلت توبة يا حاج أنها المرة ألأولى والأخيرة .
التعليقات (0)