عرفته وكان متقدما في السن قد جاوز الخمسين وكان من الناس الذين يعيشون على الهامش في مجتمعهم ، لم يكن يشارك في أي مناسبة تحدث في القرية فلا يشارك بحفل زواج ولا ببيت عزاء ولا باحتفال ديني ولا حتى بصلاة جمعة كان كل وقته لعمله خارج القرية ، فقد كان راعيا للعجّال يجمع أبقار القرية وثيرانها ويسرح بها إلى البرية حيث يبقى من بعد طلوع الفجر وانتشار ضوء الصباح وحتى مغيب الشمس وانتشار العتمة . في كل صباح كنا نأخذ أبقارنا إلى ساحة القرية ونسلمه إياها مع كثير غيرنا وعند المساء نعود لنستلم ألأبقار فكان يعرف أبقارنا من بين أكثر من مئة بقرة ، لم يته يوما ولم نراه يقسو على بقرة ، لقد كان يعامل ألأبقار ككائنات حية لها كيانها وأحاسيسها ويقول أن ألأبقار ذكية وتعرف أصحابها وبيوتهم فلو تركت تعود للبيوت لوحدها . كنا كأولاد نجلس معه في الصباح وحتى يتم تجميع ألأبقار ويحكي لنا كيف يقضي وقته وحكى لنا كيف هاجم الأبقار يوما ضبع كاسر وكيف قام ثور كبير فدافع عنها ونطح الضبع حتى أصابه وأبعده وكيف احتمى هو بالثور وكيف راح الثور يتيه أمام ألأبقار ويمشي مشية من يعرف أنه حقق شيئا مهما .
كان يعلق بكتفه كيسا من القماش المقوى كم تمنيت أن أعرف ما بداخله ويوما انفرط الكيس فسقط منه عددا من ألأكياس الصغيرة والعلب الكرتونية وكُرَة من الخيطان القوية ولما سألته ما بهذه ألأكياس فتح واحدا فإذا به يحوي كمية من الخرز الملون وقال لي يا بني إن النهار طويل وألأبقار ليست بحاجة للكثير من العناية وأشاغل نفسي بشغل أساور وعقود من الخرز للبنات الصغار تبيعها أم العيال للجارات فتساعد على تدبر العيش وكذلك بتمضية الوقت بشيء مفيد ، فعجبت من سعة حيلة هذا ألإنسان وعلمت من أين تأتي هذه ألأساور الملونة والعقود التي تلبسها البنات وتتزين بها في قريتنا .
يوما أعلن في القرية أن ابنة الشيخ فقدت أسورة ذهبية في الليل وهي عائدة هي وأمها من زيارة ورغم البحث عنها لم يتم العثور عليها وكان أول شخص يخرج في الصباح هو راعي العجّال فادعى جار له أنه رآه فجر اليوم الذي فقد فيه السوار ينحني إلى ألأرض ويأخذ شيئا يفحصه ويتأمله ثم يدسه في كيسه وقد كان كأنه السوار . عند عودة الراعي في المساء أرسل الشيخ مساعده ليخبر الرجل أن الشيخ يريده لأمر هام وأن يحضره مع كيسه قبل ذهابه لبيته وتم أخذ الرجل إلى بيت الشيخ وسأله الشيخ عن السوار الذي وجده ، فأخرج الراعي حلقة حديد من كيسه وقال انه وجد حلقة الحديد هذه ، فاقترب منه مساعد الشيخ ولكزه بخاصرته وقال : يا نصاب يا لئيم لحقت أن تدبر حيلتك وتريد أن تضحك علينا وتستغفلنا ، فأقسم الرجل أنه لم يجد إلا هذه الحلقة وأنه احتفظ بها من أجل أن يثبت بها رسن بقرة أي بقرة فقال الشيخ إسمع يا رجل إن كنت وجدت السوار فأرجعه ولك حلوانا عشرة قروش كاملة فارتبك الرجل وظهرت الحيرة والتأثر في وجهه وسائل نفسه أبعد هذا العمر وكل هذه الخدمة للناس تتهم بأنك خائن ولص ومن الشيخ هذا والله شديد على النفس فأقسم بأيمان مغلظة وطلب مصحفا ليحلف عليه انه لم يجد إلا حلقة الحديد هذه ، ولكن مساعد الشيخ استمر بالسخرية من أقواله وأصر هو على ما يقول فقال الشيخ : إسمع يا رجل إذهب لبيتك ومعك ثلاث أيام تفكر إما أن تعيد السوار أو تترك عملك ونجد راعيا آخر يعمل مكانك فالناس لن يعودوا يأمنوك بعد إنكارك هذا . فخرج الرجل يحمل الحلقة بيده ويحدث نفسه حلقة حديد والله حلقة حديد ليس إلا ولاقاه بعض الناس وألقوا عليه السلام ولم يرد كان يردد حلقة حديد والله حلقة حديد حتى وصل بيته ودخل الدار فلما رأى زوجته مد يده وأراها الحلقة قائلا حلقة حديد والله حلقة حديد ولم يتعشى ونام والحلقة بيده وقالت زوجته أنه كان يقول معظم الليل حلقة حديد والله حلقة حديد وطلع النهار ولم يخرج الرجل كعادته لجمع ألأبقار ولما حاولت زوجته تذكيره أنه تأخر عن عمله مد يده وقال حلقة حديد ولا غير ذلك وبقي في فراشه وساءت حالته ولزمته الحمى وكان يهذي حلقة حديد انا لست بكاذب وفي مساء اليوم جاء مساعد الشيخ يعلن أنهم قد وجدوا السوار ولكن الرجل كان مريضا جدا ويهذي حلقة حديد حلقة حديد ولم يعد يذهب إلى عمله وكلما رأى زوجته يقول حلقة حديد حلقة حديد واستمر على ذلك بضعة أيام وأصبح لا يقوى على السير ولزم بيته تعتني به زوجته ومع الوقت شفي من الحمى ولكن عقدة حلقة الحديد لازمته وصار يخرج إلى الطرقات وكأنه ليس هو ،وكلما قابل أحدا بادره بالقول حلقة حديد حلقة حديد وراح يفقد عقله شيئا فشيئا ويتوه في الطرقات عن بيته حتى يرجعه احد يعرفه وظل يردد حلقة حديد والله حلقة حديد ليس إلا.......!!!
التعليقات (0)