مجرد عقرب
هدوء ونسيم يهب، لا يقاطعه إلا أشعة الشمس البادية بخجل من وراء غيم رقيق، وأصوات جمع من رجال القرية تتعالى حينا بعد حين، قد يبدو لأول وهلة أنها مزايدة في أسعار بضاعة، أو في
أقل الأحوال تجارة بيع وشراء تتنازعها أصوات الرضا والطلب، لكن ما إن يقترب الناظر حتى يعلم أن القوم بين لاعب ورق، وجمهور، وفضولي يحشر أنفه بين المتنافسين لربح نصيب من القسمة.
وفي الجانب الأخر من القرية نساء يتناثرن جماعات ووحدانا بين الحقول والأبار في أشغال يومية معتادة، والأطفال بدورهم بين كتاب، وبين لعب بدائي يتناسب وأعمارهم وظروفهم .
فجأة صرخات صالح تقاطع جمع الرجال، وينتبه معظمهم والبعض الأخر يبدو وكأنه معتاد على الصراخ والعويل .
_ أبي .. أبي أدركها، إنها أمي، قد لسعتها عقرب قبل قليل وهي في الحقل ..
ينتبه الأب ووجوم يملأ جبينه ..
_ مجرد عقرب؟ أشر عليها بشرب بعض العسل، وقل لها أن تكف عن الشكوى فيكفيها أنها تفضحني أمام الناس .
عاود الأب لعبه، وتعالت من جديد صرخات التشجيع في حلقة اللعب، وعاد كل إلى دوره السابق بين مشاهدة وفضول، فيما الإبن يهب مسرعا إلى أمه، ودمعاته تملأ عينيه خشية عليها، ومضاضة من ردة فعل الأب القاسي،ومن بعيد تبدو سيارة رباعية الدفع تقف بجوار بيت صالح، وأمه تغادر معها إلى البلدة المجاورة قصد العلاج في المستوصف الوحيد هناك .
انفض الجمع ويبدو أن أبا صالح خسر كل ما لديه في مراهناته، وعاد وأذان المغرب يرتفع من سطح المسيد العتيق في القرية، يدخل باب بيته ويبادر بكل غلظة ..
_ هل من أحد في هذا الجحيم؟
يهمهم صالح ببضع كلمات لم يكد أبوه يفهم منها شيئا
_ أين أمك يا ابن الشؤم؟
_قد ذهبت إلى البلدة للعلاج في المستوصف .. يجيب صالح .
_ الله لا يردها إن شاء الله، تتركني بلا إفطار، أصل صوم النهار بالليل ؟ بئست من امرأة .. الله يأخذها عاجلا أو أجلا.
ثلاث ساعات قضتها أم صالح أمام المستوصف ترمق كل غاد ورائح لعله يكون طبيبا أو ممرضا،لا أحد في المستوصف، وكل من في البلدة حول المائدة يتناول إفطار رمضان، ولا احد بجوارها يواسيها أو يأخذ بيدها، بدأت زفرات قلبها تنتفض على شفتيها، وتنهمر دمعاتها على خديها،تفكر في ابنها الوحيد وعن مصيره مع أب قاس، بلا أم أو شفيق، تفكر في فلذة كبدها، الذي تحوم حوله الأقدار القاسية، وفظاعة المعيشة، وقسوة أهالي القرية .
_ سامحني الله فيك بني، وسامحني الله في تركك وحيدا ..
بهذه الكلمات تودع أم صالح الحياة وكلها حسرة وندامة على حال ابنها بعد موتها، ولعلها تعلم أن الأب من بعدها لن يتوانى في إحضار زوجة أخرى، ويبعد الإبن الصغير عن البيت، ويبدأ حياته بموتها ..
التعليقات (0)