شهيد عند المصب
(1)
كان مايزال فى أول سنوات العقد الخامس من عمره(إحدى وأربعون سنة ) تقلب فيها بين جميع أنواع الشقاء وذاق فيها من عذابات الحياة الدنيا ألواناً و صنوفاً مابين فقر مدقع وبطالة محبطة وما أن ضحكت له الدنيا وتدرج صعودا من فئة رقيقى الحال إلى فئة ميسور الحال مروراً بفئة محدودى الدخل - أو كما كان يقال أيام الزمن الجميل فى العهد الملكى - من فئة معذور إلى فئة ميسور مروراً بفئة مستور
وهكذا ضحكت له الدنيا بعد طول عبوس
ولكن مالبست أن عاودت العبوس
(2)
وهكذا هى
الدنيا اذا حلت اوحلت ..
واذا كست اوكست ..
واذا جلت اوجلت
واذا اينعت نعت ..
واذا جفت اوجفت !!!؟
وكم من قبور تبنى وما تبنى
... وكم من مريض عدنا وما عدنا
وكم من ملك رفعت له علامات
فلما علا مـــات
هى الدنيا تربى الفتى حتى إذا ما تم : أمره دهته كما ربى البهيمة جازر
(3)
لم يكد يبلغ الخامسة والثلاثين حتى كشر له المرض اللعين عن أنيابه فأصاب منه الكبد
والكبد هو التعب والمشقة كما جاء فى التنزيل " ولقد خلقنا الإنسان فى كبد"
وفى لغة أهل لندن عاصمة الجزيرة العجوز فى أقصى غرب أوروبا المنحدرة من لغة أهل اليونان فى أقصى الشرق الأوروبى
الكبد من الحياة وصحة الكبد تساوى حياة صحية ومرض الكبد يعنى حياة بلا حياة
خمس سنوات عانى فيها من داء الكبد وأخد الجولة المعتادة على الأطباء فى القاهرة والأسكندرية ودمنهور واستقر فى المتابعة الشهرية على طبيب القرية
(4)
ومرت الأيام والمرض اللعين ينهش فى كبد ه وهولا يدرى تعتريه على فترات بعض الأعراض يزور على إثرها الطبيب فيصف له مزيلات الأعراض لأنه لا دواء ناجع لهذا الداء العضال الذى استشرى فى أكباد المصريين ولم تحرك الدولة له ساكنا ربما لأنه مرض من أمراض الشعب المطحون وليس من أمراض علية القوم كالشد والنفخ والشفط
(5)
إنه لعنة النيل على المصريين كل من يقترب من النهر الخالد تصيبه اللعنة ولكن بدرجات متفاوتة كل حسب براءته وجنايته
وتلك اللعنة ليست جديدة على أكباد المصرين لقد اكتشفها بلهارس فى مومياء أحد الفراعين قبل مائة وخمسين سنة
(6)
تطور الداء العضال مع يوسف
وصل ذروته فى السنة الأخيرة
ظهر ماء النيل كأنما يفيض من بئر عميقة
فيضان من ماء النهريستقر فى بطنه لينتج عنه تابع من توابع لعنة النيل يطلق عليه الأطباء الاستسقاء
(7)
يناير 2009
ماء النهر مابين مد وجذر
يرتفع المد فلا يستطيع التنفس وربما ينام جالسا من شدة التعب
ويهبط فى الجذر فيتحسن ويخرج إلى الناس الذين عرفوه هاشاً باشاً
كثير المزاح يجلس على الدكة الخشبية أمام محله فى الشارع العمومى
يتجاذب أطراف الحديث مع صنوف شتى من الناس الناظر والحداد والمدرس والبواب والفلاح
(8)
فبراير 2009
غياب عن الوعى تابع آخر من توابع لعنة النهر يحضر الطبيب فيصف المحاليل والحقن بعدها يرجع الوعى وتستمر الحياة بلا حياة
(9)
مارس 2009
نحو المصب
أرى من بعيد النقطة التى يلقى النهر فيها بنفسه مستسلماً لتنتهى به الرحلة بين أماج البحر
يجرفنا تيار النهر المتسارع من الجنوب إلى الشمال لا يتركنا لحظة نلتقط فيها الأنفاس اقترح البعض أن نذهب إلى المستشفى لمزيد من الرعاية وماذا سيفعل الأطباء لنهر كتب عليه أن تنتهى قصته عند المصب
هذا قدر وليس من القدر فرار
(10)
أبريل 2009
عند المصب
ثلاث ليل جلسنا فيها حول النهرنصلى وندعوا ونبتهل إلى الله أن تعود الحياة
لكن أبى النهر إلا أن يخرج من مجرى الحياة إلى حيث مثواه المحتوم شهيداً نعم شهيدأ ولما لا ودليلى ماورد عن نبي الرحمة أن المبطون شهيد
هاهو يلقى بكل همومه وعذاباته التى لاقاها طوال الرحلة الممتدة عبر أربعة عقود خلفه ويغتسل
ويزوره الأهل والأقارب والأحباب ويمنع من زيارته أناس قليلون لم يكن ينسجم معهم
(11)
الليلة الأخيرة
الجمعة 3 أبريل 2009
فى ليلة مثل هذه الليلة مساء الجمعة 24 فبراير 1991 رحلت أمى
وكان يوسف يجلس
جلسنا عند الممر الضيق الذى تتسرب منه مياه النهر إلى حيث البحر الأبيض من حياة الكد والمرض إلى سعة رحمة الله
جف النهر
همد النهر
مات النهر
(12)
عند التاسعة مساءً
أعلنت الخبر فأذاعته النسوة المتشحات بالسواد اللاتى كن يجلسن عند عند حافة النهر
الآن تحولن للالتفاف حول زوجته الثكلى
بدأت تبكى زوجته فى صمت ومن حولها يتبارين فى العويل والضراخ
فنهرت الجميع وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة
وكل البواكى يكذبن الإ باكيت الشهيد
مرت ساعات الليل الطويل المظلم
مرت خلالها ذكرياتى معه خلال ربع قرن كان فيها الأخ والأب
شاركنى فيها الأفراح والأتراح
وشاركته فيها الآمال العريضة والطموحات
نفذت وصيته الأولى وجعلت قبره ملاصقا لقبر أمى عند حافة النهر
وعدت إلى البيت أغلقت الباب واقتصر العزاء على المقربين
(13)
فى ذكرى رحيله الأولى جاء وقت تنفيذ وصيته الثانية حضرإلى بيتنا الشيخ عبد العظيم زاهر قرأ آيات الذكر الحكيم بصوته العذب الشجى على مسامع الحضور من المقربين الذين حضروا بعد صلاة المغرب
(14)
وفى ذكرى رحيله الثانية كانت ذكرى فريدة كنت هنا وحيداً غريبا على شاطئ الخليج العربى أجلس كانت ذكرى مسيّلة للدموع عبرت فيها عن حزنى علي فراقه بالبكاء والنحيب
لأول مرة أبكى على فراقه سالت نفسى
لماذا تأخرت دموعى كل هذه الفترة ؟
لأننى الآن فقط ومع وحشة الغربة والوحدة استوعبت أنه رحل
طوال الأيام الماضية وعقلى لا يريد أن يصدق أننى من أعلن نبأ وفاته وأنا من صلى عليه ودفنه وتلقى عزاءه ونفذ وصياه
الآن فقط استطاع عقلى أن يصدق أننا لن نلتقى ثانية عند النهر
رجائي من رب الشهيد أن نلتقى عند نهر الكوثر
4/4/2011
الذكرى الثانية لوفاة أخى يوسف صديق
كتبت المسودة الأولى على كورنيش الخبر
كتبت المسودة الثالثة 30/5/2011
فندق الفورسيزون – برج المملكة - الرياض
التعليقات (0)