شاى بفتلة
(1)
جلس سالم عباس على مقهى المعلم عبده الوحش المقابل لمبنى محكمة إيتاى البارود الجزئية ينتظرصديقه محمود أبورواش المحامى الذى رافق أحد موكليه إلى داخل المحكمة ليترافع عنه فى قضية خلع رفعتها عليه زوجته لتتخلص منه بعدما فاض بها الكيل
وبينما هوجالس وحده على أحد المقاعد الموضوعة على رصيف الشارع الواسع الفاصل بين المقهى والمحكمة حيث الهواء المنعش المحمل بأريج العطر القادم من جهة الشمال حيث حديقة الزهور الفواحة
جاءه صبى المقهى وسأله السؤال المعتاد الذى يسأله لكل زبون
الباشا يشرب إيه
أجابه سالم شاى سكر برة
رد عليه صبى المقهى شاى بفتلة ولا شاى حر
- زى الناس
- زباين الخميس كلهم بيشربوا شاى بفتلة
- خلاص هات شاى بفتلة
- ولم يكن سالم يعلم علاقة الشاى بفتلة وزباين المحكمة والمقهى يوم الخميس
نمى إلى سمعه أصوات من يجاوره من زبائن المقهى الذين هم فى العادة من أصحاب القضايا التى تنظر يوم الخميس عند قاضى محكمة الأسرة السكندرى وهى قضايا تتعلق بالخلع والطلاق وإثبات النسب
كان حوار زبائن الترابيزة المجاورة منصبا على قضية واحدة وهى قضية اللعان كما يسميها ذلك الشاب الثلاثينى ذو اللحية الكثيفة الممتدة حتى فم المعدة
لم يعرف سالم معنى اللعان لكنه فهم من سياق الحوار على مدار الساعة التى انتظرفيها صديقه المحامى أن اللعان هو اتهام الزوج لزوجته بالعشق المحرم
ولكثرة ماسمع سالم من حديث فى تلك الجلسة ظن أن البلد كلها تحضر يوم الخميس من كل أسبوع أمام هذا القاضى السكندرى
تماما كمن يذهب إلى المستشفى لزيارة مريض فيظن أن أهل البلد كلهم مرضى ولا يوجد أحد خارج المستشفى
لدرجة أنه سمع من بين ما سمع أن الرول - بلغة أهل المحاكم أو قائمة القضايا التى ينظرها ذلك القاضى السكندرى فى الجلسة الواحدة تربو على خمسين قضية مابين خلع وطلاق و إثبات بنوة بمعنى خمسين أسرة كل خميس ينفرط عقدها على يد هذا القاضى
انتهى حديث الزبائن وفرغ كوب الشاى الأول لكن شيئا آخر قد بدأ يعتمل فى عقل سالم إنه مجرد شك خلفه هذا الحكى المطول الممزوج بالزيادات والبهارات والمكسرات قليل من الصدق مع كثيرمن الخيال المشهور به المصريون عندما يجتمعون فى انتظار قضاء حاجة من الحاجات الحكومية
حاول سالم أن يطرد ذلك الشك الملعون الذى أخد ينمو ويملأ عليه تفكيره طلب كوب شاى بفتلة ثان
(2)
ساعده شيطانه اللعين أن يعد خطة محكمة يكتشف بها خيانة زوجته اللعوب - كما سولت له نفسه الأمارة بالسوء - توقف للحظات قصيرة ،حاول خلالها أن يطرد وساوس الشيطان وينفض الظن السيئ عن خاطره لكن هيهات هيهات بعد أن ألقى حديث الإفك بالمقهى بذرة الشك الشيطانية التى وجدت أرضا خصبة فى عقله الضعيف ورواها الشيطان ببوله فنمت شجرة الشك وترعرعت حتى رانت على قلبه وأغشت بصره
قررسالم أن يبدأ الآن فى تنفيذ خطته الشيطانية
اتصل بالبيت جرس التليفون يرن حتى نهاية المدى ولا أحد يرد ربما كانت عفاف فى السوق أو عند أختها
أو ......
أو......
أو ماذا لم يجرؤ سالم أن يكمل العبارة
لكن النفس الأمارة بالسوء التى تحالفت مع الشيطان اللعين
وأصدرا الحكم على عفاف بلا أدلة أو إثباتات أو حتى قرائن
كل ما يحويه ملف القضية من حيثيات للحكم هو مكالمة لم ترد عليها عفاف
لم يكمل سالم كوب الشاى الثانى ولم ينتظرصديقه المحامى وغادر المقهى على عجل بعدما ترك له مع المعلم عبده الوحش ورقة صغيرة كتب عليها بيد قلقة ومتوترة العبارة التالية "انتظرتك كتير لكن طرأ طارئ نلتقى فى المساء أريدك فى موضوع خطير"
(3)
بعد دقائق قليلة من ذهاب سالم خرج محمود عباس المحامى من باب المحكمة المقابل للمقهى مباشرة وبحث عن صديقه سالم وعندما رأه المعلم عبده نادى عليه يا متر يا متر (لقب يطلقه العامة على المحامين ولا أعرف أصله ) وهو يغمغم فى نفسه سبحان الله لوكان صبر القاتل على المقتول كان زمانه مات
التفت إليه المترمحمود وهو مازال يبحث عن صديقه : خير يا معلم عبده الاستاذ سالم ترك لك هذه الرسالة
أخذ محمود الورقة بعدما شكر المعلم عبده
واستدار خارجا من المقهى قاصدا مكتبه فى الحارة الضيقة خلف السور الجنوبى للمحكمة وفى الطريق قرأ رسالة سالم وتمتم متحدثا مع نفسه أمر طارئ
عموما سأعرف كل شئ عندما نلتقى فى المساء
(4)
انطلق سالم إلى شقته والشمس فى كبد السماء ترسل أشعتها كألسنة لهب خرج من حريق اشتعل للتو إنه شهر أغسطس وهوعز الحر و تقع شقة سالم غرب مدينة إيتاى البارود
تلك المدينة التى يقسمها شريط القطار وطريق مصر الأسكندرية الزراعى إلى شرق وغرب
وصل سالم إلى العمارة التى يسكن بها
صعد للدور الرابع على رجليه بلا مصعد حتى وصل إلى شقة 12
توقف برهة من الزمن سأل فيها نفسه هل أفتح باب الشقة بالمفتاح أو أضغط على الجرس كما أفعل فى كل مرة
قال لنفسه : لكن هذه المرة مختلفة عن كل المرات السابقة
قرر أن يستعمل المفتاح
أدار المفتاح فى الكالون تكة ،اثنان ، ثلاث إنه مغلق كما تركته تماما
تسربت أشعة من نور براءة عفاف إلى قلبه لكن تحالف النفس الأمارة بالسوء مع الشيطان اللعين أبى أن يدخل هذا النور إلى قلبه وقالا له مازلنا عند الباب دعنا نكمل لنرى
فتح الباب برفق ودخل شقته كلص يتسلل لسرقة متاع ،خلع حذائه خلف باب الشقة ومشى نحو غرفة النوم على أطراف أصابعه حتى لا يحس أحد بقدومه المباغت
وفى طريقه إلى غرفة النوم بدا كل شئ فى مكانه نظيف و مرتب
حتى ترابيزة السفرة وضعت عليها أطباق بها طعام الغداء تغلفها أكياس بلاستيكية شفافة تحفظ عليها سخونتها وتمنع عنها الذباب
باب غرفة النوم مغلق أمسك المقبض بقوة وأداره بهدوء وفتح الباب بسرعة متمنيا أن يجد ما يبحث عنه ويمسك عفاف وعشيقها متلبسين فيقتلاهما ويغسل العار لكن خاب ظنه السيئ وتبددت شكوكه وتتطايرت كل أوهامه عندما وجد زوجته فى سريرها كملاك متخففة من الثياب فى كامل زينتها قد أعياها طول انتظاره فنامت بعدما غلقت النوافذ وأدارت مروحة السقف على سرعة متوسطة جعلت من الغرفة واحة بالنسبة لقادم من الشارع تلفحه أشعة الشمس الملتهبة من الخارج ويكويه جمر الشك من الداخل تذكر جلساته مع عفاف على شاطئ النيل تحت شجرة الصفصاف
تراجع سالم للخلف خطوتين واستدار وخرج تاركا الباب خلفه مواربا دخل الحمام
فتح الدش
بعدما أزال عنه ملابسه التى تفوح منها رائحة العرق الكريهة
غسل رأسه من كل الشكوك والأوهام والأدران خرج من الحمام فتح باب الشقة كسر التحالف بين نفسة الأمارة بالسوء والشيطان طرد الشيطان وألقى بحديث الإفك فى سلة الزبالة القابعة بجوار الباب ثم غلّق الباب ،
استغفر الله العظيم
على الظن السيئ فخرجت نفسه المطمئنة وتوارت النفس الأمارة
فتح الباب الموارب ثم أغلقه خلفه دس نفسه تحت ملاية رقيقة تجمعه مع ملاكه النائم التى انتبهت ليديه تعبث بشعرها وأشياء أخرى
ودارت رحى معركة حامية الوطيس لايسمع منها إلا الشهقات والآهات التى غطت على ماعداها من أصوات
وبعد وقت غير محسوب من الزمن وضعت الحرب أوزارها ليخرج طرفى النزال فائزين بعدما أنهكهما شدة العراك
هدنة و استرخاء لالتقاط الأنفاس
بعد قليل نشبت بين الطرفين معركة ثانية مثل سابقتها ليخلد بعدها الاثنين فى نوم هادئ تحت شجرة الصفصاف (مروحة السقف ) على شاطئ النيل (أرض المعركة)
(5)
صوت خفيض عند أذنه ويد ناعمة تمتد نحو خده
سالم سالم يفتح عينيه على وجه فينوس
الطعام جاهز
كم الساعة الآن ؟ إنها السابعة والنصف خلاص دخلنا على آذان المغرب
(6)
يرن جرس الهاتف يرد سالم أهلا يامحمود
سالم :انا انتظرت على المقهى كتير وبعدين مشيت
محمود : رسالتك أقلقتنى حاولت الاتصال بك أكثر من مرة جرس التليفون ولا أحد يرد
سالم : حصل خير الأمور كلها على مايرام
لكن لن أذهب إلى مقهى المحكمة مرة أخرى
محمود : لماذا
سالم :وبالأخص يوم الخميس
ضحك محمود على الطرف الاخر ورد قائلا فهمت كل الرول قضايا خلع وطلاق وخيانة زوجية وزباين المقهى صدعوا رأسك بحكايتهم
لذلك تجد الناس كلها تحب يوم الخميس ما عدا أنا والقاضى السكندرى والآن أصبحنا ثلاثة أنا وأنت والقاضى السكندرى والبقية تأتى
سالم : عندك حق أنا من ساعة وحدة انتظرتك فيها صدقت إن البلد كلها بين طلاق وخلع وخيانة زوجية
ولم يستطع سالم ان يصارح محمود ببقية القصة
وأردف قائلا مصائب قوم عند قوم فوائد
فهم محمود أن الكلام عن فوائد المحامين من مصائب موكليهم
وإن قصد سالم معنى آخر تماما
انتهت المكالمة وعاد سالم ليكمل طعامه مع زوجته عفاف
وبعد الطعام سألت عفاف : شاى ولا عصير
رد عليها سالم وهو يبتسم شاى بفتلة طبعا
نظرت إليه عفاف والبسمة تملء عينيها
ثم قالت هذا ثالث كوب شاى بفتلة النهاردة
كتبت المسودة الأولى
فى مكتب صد يقى
الاستاذ إسلام حسن مرسى الصعيدى المحامى
بجوار محكمة إيتاى البارود الجزئية
يناير 2010
التعليقات (0)