قصة الثعلب الأحمر
بقلم د/صديق الحكيم
(1)
وقفت أمام صورته الكبيرة زاهية الألوان المعلقة علي جدران أحد قاعات متحف الأرميتاج المجاور لقصر القيصر الروسي نيقولا الأول على نهر نيفا في مدينة سان بطرس بورغ التي كانت عاصمة روسيا القيصرية قبل الثورة البلشفية
(2)
أتأمل أجزاء جسمه الممشوق جزء بعد جزء وتسمرت أمام اللوحة مشدوها بإبداع الخالق البارئ سبحانه وتعالي قبل الإعجاب بإبداع الفنان المتمكن من أدواته الذي رسم اللوحة وجعل معظم أجزاء جسمه مدبببة تشبه رأس المثلث أونصل الخنجر العماني الأذن ومقدمة الفم وما فيها من الأنياب البارزة وحتي العينين أيضا نظرتها حادة وجريئة بل ومخيفة بالرغم من أن سحنته تبدو لغير المجرب والخبير مضروب عليها الذلة و المسكنة
(3)
إنه الثعلب الأحمر الذي اشتهر في التراث الشعبي بالدهاء والمكر والاحتيال فهو يفعل أي حيلة مهما كانت رخيصة حتي ينال غرضه الدنئ ولا يتورع في سبيل ذلك أن يسفك دماء الأبرياء
(4)
وخلال وقفة التأمل هذه تذكرت حكايات أمي لي عندما كنت خماسيا لا أنام إلا علي وقع أنغام صوتها الرخيم يقول يُحكي أن ثعلباً أحمرا ماكرا ذات يوم اشتهت نفسه أن يُفطر بقطعة من اللحم اللذيذ للدجاج الأبيض الوديع في حظيرة الفلاح الفقير فكر كيف الثعلب يحتال لاشباع شهوته ؟ فلبس ثوب الوعاظ ومسوح النساك واقترب في خشوع وخنوع من الديك الشهم الحارس لحظيرة الدجاج وبعد وصلة وعظ قصيرة الكلمات أدمعت العين وأدمت القلب وألهبت مشاعر الحماس الديني عند الديك الفتيّ فلما رأي الثعلب منه ذلك طلب منه أن يرتقي السلم حتي يصل أعلي مأذنة المسجد القديم ليؤذن لصلاة الفجر قبل أن يفوت وقتها وأن يرفع صوته بالآذان حتي يسمع الجميع فيكسب الأجر الوفير والثواب العميم وانطلت حيلة الثعلب الماكرعلي الديك الطيب
(5)
وما أن ذهب الديك للآذن أعلي مأذنة المسجد القديم ليجمع الناس لصلاة الفجرحتي خادعه الثعلب ودخل الحظيرة ليجهز علي الدجاج المسالم لقد استعمل الثعلب مكره وخداعه وألهي الديك في عمل يبدو في ظاهره الخير لكنه استبطن الشر وأراد أن يعطل مهمة الديك الأساسية وهي التنبيه عند اقتراب الخطر والغريب أن الديك وهو خط الدفاع الأول عن حظيرة الدجاج لم يتعرف علي الثعلب المكار لقلة خبرته وتغليبه للحماس علي التروي والحكمة
(6)
ويفلح الثعلب الماكر في دخول حظيرة الدجاج خلسة وأهلها يغطون في نوم عميق وقت الفجر وكما يقول الشاعر، وهو مجنون بني عامر:
فَلَوْ كُنْت مَاءً كُنْت مَاءَ غَمَامَةٍ وَلَوْ كُنْت نَوْمَاً كُنْت إغْفَاءَة الفَجْرَ
لأنها ألذ أوقات النوم ويبدأ الثعلب الأحمر الدموىّ في الذبح والتقتيل ويسيل دم الدجاج الآمن النائم علي ثياب الواعظ الماكر والناسك المحتال وينفرط عقد مسبحته الطويلة وتسقط لحيته وتتلطخ يداه الآثمتين وفمه بالدماء الذكية
(7)
ويعود الديك من أعلي المأذنة منتشيا جزلا ومعجبا بصوته الجهورى الذى أجهده ليسمع الجميع حتي بح وما فعل الديك الغرير ذلك إلا لينال الثواب الجزيل من الله والإطراء والبركات من الواعظ المبارك ليجد الثعلب وقد أنهي مهمته مع الدجاج النائم في الحظيرة وينتظر قدومه خارج الحظيرة
(8)
وبالقرب من شباك حجرة نوم صاحب البيت تربص الثعلب بالديك ليُحلي به وعندما أصبح الديك علي مسافة قريبة وثب الثعلب بغتة وانقض عليه فكانت رقبة الديك في برهة من الزمن بين فكي الثعلب يغرز فيها أنيابه التي تشبه رأس مثلث حاد الزاوية أو نصل خنجر عماني يحاول الديك أن يستغيث لكن صوته قد بُح من الآذن فلايسمعه أحد ولا يغيثه أحد ويفترسه الثعلب أيضا لأنه قد ظن يوما أن للثعلب دينا
ويصدق عليه قول أمير الشعراء أحمد شوقي
بلّغ الثعلب عني عن جدودي الصالحينا
أنهم قالوا وخير القول قول العارفينا
مخطئٌ من ظنّ يوماً أنّ للثعلب دينا
(9)
وتأخذ الثعلب الأحمر سنة من النوم بعد مذبحة الحظيرة التي أراق فيها دماء الدجاج المسالم وحلي بلحم الديك الشهيد فامتلأت معدته عن آخرها حتي أنه يلتقط أنفاسه بصعوبة
وبعد سويعة يصحو الثعلب من إغفاءته علي وقع أقدام صاحب البيت الذي انتبه من نومه علي استغاثات الديك الشهيد ورقبته بين فكي الثعلب كأنه في حلم ولكن بعد فوات الآوان
(10)
يتقدم صاحب الدار فتقع عينه علي أشلاء الديك الشهيد ممزقة ومتناثرة علي الطريق لم تكن استغاثته حلما بل كان علما فهرع إلي الحظيرة وعندها رأي بأم عينه المشاهد المؤلمة والمروعة لأشلاء جثث الدجاج الوديع ويبحث الفلاح في عقله المشوش بمناظر القتل عن الإجابة علي سؤال واحد يتردد في جنبات عقله من قتل دجاجه وذبح ديكه؟ ويراقبه الثعلب القاتل بعين مغلقة والأخري نصف مفتوحة ويفكر فيما عساه أن يفعل ليفلت من الموت المحقق رميا بالرصاص جزاءا وفاقا لمن جنت يداه
(11)
فيقرر الثعلب أن يستخدم دهائه مرة أخري ولكن بطريقة مختلفة تماما عن المرة الأولي لينقذ نفسه في اللحظة الأخيرة ويحتال حتي يفلت من العقاب العادل وهو بحكم العرف والقانون والدين ( القصاص) حيث قتل الثعلب الأحمر مع سبق الإصرار والترصد جمع غفيرمن الدجاج المسالم ثم الديك الشهيد في مذبحة الحظيرة ومن قتل يُقتل
(12)
ويبدأ الثعلب في تنفيذ حيلته الجديدة فيلقي بجسده علي الأرض كأنه ميت ويقترب منه صاحب الحق والدم ورب الديك الشهيد ويحركه برجله ليتأكد من أنه قد فارق الحياة وينخدع في منظره لأن الثعلب الأحمر الدموي يجيد الاحتيال ويتقن تمثيل دور الميت ببراعة وإقتدار فيتركه صاحب البيت طيب القلب ظنا منه أنه اصبح جثة هامدة بلاحراك ومن العار في عرف الكرام التمثيل بجثة ميت ويولي صاحب البيت دبره للثعلب عائدا يستغفر الله ويسترجع علي شهداء المذبحة
(13)
وما أن اطمئن الثعلب الليئم إلي أن خصمه الكريم قد خُدع بمنظره حتي نهض من رقدة الموت وانقض عليه من الخلف بمخالبه الحادة وأنيابه المثلثة الرأس كنصل خنجر عماني فأرداه قتيلا وتركه مخضبا في دمه الأحمر القاني لأن الفلاح الكريم قد أعطي الآمان للثعلب الماكر الذي كان يكفيه رصاصة في قلبه الآثم ليذهب غيظه و يشفي صدره ويروي غليله
(14)
ويتربع الثعلب علي عرش الدار وتصبح الحظيرة ملكه والبيت كله ملكه ولكن كيف يعيش الثعلب بلا دجاج
فيقرر أن يرحل إلي حظيرة أخري عامرة بالدجاج
هذه هي حياة الثعالب
حيلة وراءها حيلة
ومكر يعقبه مكر
ودهاء يتلوه دهاء
إذ كيف يعيش الثعلب بلا مكر ولا خداع
(15)
وكنت في كل ليلة عند هذا الجزء من الحكاية أغرق في بحورالنوم السبعة ولا أدري ماذا حدث للثعلب الأحمر القاتل وفي كل مرة كنت أعقد العزم علي الانتباه واليقظة حتي تنهي أمي الحكاية لأعرف مصير الثعلب أو حتي أسألها في الصباح هل قتل الثعلب في نهاية الحكاية أم فر بجريمته ؟ وفي كل مرة أنسي حتي كبرت وماتت أمي ولم أعرف حتي الآن وأنا علي مشارف الأربعين هل قتل الثعلب قصاصا في نهاية الحكاية أم فر بجريمته ؟
المسودة العاشرة 23/2/2012
الخبر الشمالية - السعودية
التعليقات (0)