وقفت الحافلة عند ناصية الشارع الطويل محشورة بين أخريات والرصيف قد ضاق بالواقفين في صفوف متراصة شاردين بين الذهاب والإياب في توتر حاد . انسل في الزحام بين الأجسام الملتصقة والمعلقة بالمقابض، تدحرجه ألأرجل المتشابكة لتلقي به على الرصيف الساخن الثائر من طول الانتظار. هرول بشوق ليخرج من زحمة ألغاضبين.. أسرع الخطى في سباق ض...د ظله يضم إلى صدره ملفا أخضرا ، يضمه بقوة حتى لا تتطاير أوراق اليانصيب الرابحة التي يحتضنها بين دفتيه وتتسرب بركتها من بين أصابعه لتختطفها عيون العاطلين ،شفتاه تسبحان من غير رغبته فوق كل الناس التائهين في الشوارع من دون أوراق اليانصيب الرابحة ترفعهم إلى سمائه كتلك التي يضمها إلى صدره . يسرع ألخطى والنفس يتصاعد من جوفه بزفرات شاقة وقطرات العرق تنساب على كعبيه لتتكسر على مشارف حذائه العفن محدثة شرخا بين هيكله وخياله .الشارع الطويل أبى أن ينتهي وعيون الوجوه البائسة تلاحقه وتضايقه في مآمرة معلنة..الناس كثيرون ،إنهم يملئون الشوارع ..الوقت وقت العمل .. سؤال يثقل رموش نظراته التائهة بين كتل الضباب الدامس ، ينظر إلى ساعته المتهالكة التي كان قد اختارها من بين المسامير الصدئة منذ أن نال شهادته العليا..سيشتري ساعة فاخرة ..كتلك التي تثيره وتشده إليها كلما مر بجانب الزجاج المرصع بتلك الساعات التي تلقي به في عمق أحلام طويلة لا تكسرها إلا نظرات الساعاتي الساخرة من وراء الزجاج.. ورقة اليانصيب الرابحة التي يضمها إلى صدره ستجعله سيد الساعاتي ، سيحتل منصبه ليسخر من المتسمرين خلف الزجاج المرصع.
خارت قواه ولم ينتهي الشارع الطويل وذيل الزحام.. دخل باب العمارة يعانق الملف الأخضر، صعد الدرجات يتمايل بين الجدران وحذاؤه العفن يتلاعب بقدميه يجره إلى الخلف.. يصمد ويقاوم أعداد الدرجات.. هزمهم بإصرار، وقف أمام اللوحة النحاسية .. يمعن إليها النظر ويداه ملتصقتين بملفه ألأخضر حتى لا تطير بركته.. الباب مفتوح، لا ضجيج ولا حركة.. أخرج من جيب صدره بطاقة أعاد قراءتها .. إنه نفس العنوان..ولا حركة ولا ضجيج. دخل من غير تردد وغاب في ظلمة الفناء..
من نفس الباب خرج منكسر الهامة ويداه تضمان الملف الأخضر إلى صدره ، يعد خطواته المثقلة بأحلام ماتت دفعة واحدة ، وزفرات خانقة تتصاعد من أعماق جوفه تلفظ دخانا أسودا يحجب عنه وجه الساعاتي المتربع على مقعده الخشبي وراء زجاجه المرصع بساعاته اللامعة ..
نزل الدرجات يجر حذاءه العفن، ألقى بنفسه إلى الشارع الطويل المكتظ بالوجوه البائسة التي لم تعد تضيق عليه الخناق .. غاب في الزحام .. تجاوز ناصية الشارع وقطرات العرق تنساب على كعبيه ، قدماه فقدتا توازنهما ترتعشان وشفتاه التصقتا بأسنانه.. تاه بين التساؤلات الخيالية والأحلام الشمسية والقمرية يصارع كثبان الحياة الضارية لا يرى غير صورته بين الأزقة والدروب.. يتمايل بين الباعة التائهين وأقزام الدواب .. تجاوز في تجاهل مقصود الزجاج المرصع بالساعات البراقة حتى لا تصيبه سهام الساعاتي.. دخل مقهى الأمل دون أمل .. راوغ أقدام البائسين الشاردين بين رطوبة الجدران والضباب الكثيف المتصاعد من سجائر تتناوب عليها الشفاه المحروقة ، ألقى بالملف الأخضر الذي يضم بين جنباته أوراق اليانصيب التي لم تعد رابحة بعنف على طاولة في عمق المقهى.. انزوى على مقعده الخشبي المعتاد الذي بقي وفيا له .
نكس رأسه يعد أعقاب السجائر المتناثرة بين قدميه وصخب رواد المقهى المتصاعد فوق ضجيج المعلق الرياضي على قناة اعتادت تسكين البؤساء مطارق تكسر دماغه . اقترب منه “عياذ”في صمت.. ينظر إليه بإشفاق وكأنه يرثيه في خسارته لربح أوراق اليانصيب ، يلامس رأسه برفق ، يشد بحرارة على يديه المتناثرتين على حافة الطاولة.. نظر إلى الملف الأخضر بحسرة مريرة، مسح وجه الطاولة بمنديله الأصفر، غاب وسط الضباب الأسود المتصاعد في فضاء ملوث بكل أشكال الروائح.. عاد وقد أحضر له قهوته المرة مرارة الزمن ورواده وسجائر ملفوفة في ورق أزرق.. عاود ملامسة شعره برفق لكنه ظل منتكس الهامة.. جلس “عياذ” بجانبه وقد تناسى طلبات زبنائه ، أخذ الملف الأخضر ..فتح دفتيه ..أوراق وأوراق مهلهلة اصفر لونها، هي وحدها تعرف تاريخ ميلادها ، عنوان عريض يتقدمها .. ثقافتنا بين الاسم والهندام.
رفع رأسه وقد ذبلت عيناه واصفرت وجنتاه وجف ريقه.. اخذ الكأس وأفرغ القهوة المرة في جوفه دفعة واحدة، أشعل سيجارة دون طعم.. يحاول نزع نفسه من بين مخالب اليأس.. أسئلة سوداء وأخرى بيضاء تضيق الخناق على “عياذ”.. هل الأستاذ خالف وعده وغدر به ؟ هل الأستاذ لم يجد بين الصفحات ما يستحق التضحية ؟؟ لكنه قرأها مرات ومرات وأعجب بها .. أتكون بضاعة فاسدة ..؟ لكنه أعجب بها ووعده بإصرار..هل حتى المثقفون يتخاذلون؟ لماذا ؟؟ أتكون السوق مكتظة؟.. أو ربما لا قراء لنا أو.. وإن كان الأمر كذلك فليس لنا مثقفين ولا ثقافة لنا أصلا ..هذا غير صحيح، طول وعرض ثقافتنا قرونا من الزمن وعمقها يبتلع كل ثقافات الكون كما ونوعا ،فأين الخلل إذا ؟..إيه تنكرنا لثقافتنا وهرولنا وراء ثقافة غيرنا وابتلعنا الفاسدة منها..أوأدنا تاريخنا..أجهزنا على حضارتنا . . وضعنا وطننا على حافة الانقراض..
صخب وضجيج وضباب دخان السجائر يحجب الوجوه المجعدة التي تتنفس رطوبة الجدران وأعناقهم مشرئبة إلى القناة التي تعودت أن تنسيهم أوساخهم بمباريات تبعث على الاشمئزاز. أشعل سيجارته الثانية، فالثالثة.. يحاول أن يجد أجوبة للأسئلة التي دغدغت دماغ «عياذ”..هل الذي يقرأ هندامك عموديا وأفقيا .. مثقف ؟؟هل الذي يبحث بين ألفاظك عن نسبك و .. مثقف؟؟هل البلد الذي يلفظ ثقافته الواسعة ويلهث وراء ثقافة مخرومة وسامة ، يشتريها بأثمان باهظة تنخر القوة الفكرية والاقتصادية للوطن ، وتبقى ثقافته تغط في نوم عميق بين الاسم والهندام ليتوارى إلى ذيل الحضارات ويركن إلى الزوايا الدامسة يبكي على الأطلال يمد يداه إلى حسنات من كان خلفه وتخطاه ليبقى هذا حاله في كل الأحوال .. أهذا البلد يحافظ على وجوده..؟؟
قام “عياذ” ورمى منديله الأصفر و وزرته البيضاء المتسخة في وجه سيده وسط تصفيقات وتصفير الوجوه البائسة ، وطوى الملف الأخضر على ورقة اليناصيب التي لم تعد رابحة ، أخذ صاحبه من يمينه وانصرفا في غضب لا يبشر بعودتهما مرة أخرى ، غابا في الزحام .. ابتلعتهما الدروب والأزقة الضيقة اللامنتهية يجتران طموحات متآكلة شابها الشيب منذ زمن بعيد… منذ أن أسقطها المخاض…
- محمدالمودني - فاس / 2005
التعليقات (0)