بسم الله الرحمان الرحيم
قرين اللذيذ لذيذ، وقرين المؤلم مؤلم، والمعتزلة وابن سينا
نَسَب "الدكتور محمد عثمان نجاتي" الاكتشاف "القرين اللذيذ لذيذ، والقرين المؤلم مؤلم" لابن سينا، في كتابه "الإدراك الحسي عند ابن سينا"، فهل هو لابن سينا أم للمعتزلة؟
قال ابن سينا:”.. إنَّ الوهمَ هو الحاكمُ الأكبر في الحيوان. ويحكم على سبيل انبعاث تخيلي من غير أنْ يكون ذلك محققا. وهذا مثل ما يعرض للإنسان من استقذار العسل لمشابهته المرارة، فإنَّ الوهمَ يحكمُ بأنَّه في حكمِ ذلك. وتتبع النفس ذلك في الوهم، وإنْ كان العقلُ يكذبَه. والحيوانات وأشباهها من الناس إنَّما يتبعون في أفعالهم هذا الحكم من الوهم الذي لا تفصيل منطقيا له، بل هو على سبيل انبعاث فقط..” الشفاء 177-178.
وقال أيضا:” إنَّ الحيوانَ إذا أصابه ألم، أو لذة، أو وصل إليه نافع حسي، أو ضار حيِّ مقارنا لصورة حسيِّة، فارتسم في المصوِّرة صورة الشيء وصورة ما يقارنه، وارتسم في الذكر معه النسبة بينهما والحكم فيها، فإنَّ الذكر لذاته وجبلَّته ينال ذلك. فإذا لاح للمتخيِّلة تلك الصورة من الخارج تحركت في المصوِّرة وتحرك معها ما قارنها من المعاني النافعة، أو الضارة، وبالجملة المعنى الذي في الذكر على سبيل الانتقال والاستعراض الذي في طبيعة القوة المتخيِّلة، فأحسَّ الوهم بجميع ذلك معًا، فرأى المعنى مع تلك الصورة، وهذه على سبيل يقارن التجربة، ولهذا تخاف الكلاب المُدر والخشب وغيرها" الشفاء 179-180.
قال الدكتور محمد عثمان نجاتي في كتابه المذكور سابقًا، صفحة 178:"أنَّ الغزالي تأثر فيما بعد برأي ابن سينا في هذا الموضوع، وقد استعان برأيه السابق في أحكام الوهم في مناقشة المعتزلة عن موضوع الحسن والقبح العقليين"، فقد قال الغزالي:"... ويضاهي نُفْرَةَ طَبْعِ السَّلِيمِ عَنْ الْحَبْلِ الْمُبَرْقَشِ ؛أَنَّهُ رَأَى هَذِهِ الصُّورَةَ مَقْرُونَةً بِالثَّنَاءِ فَظَنَّ أَنَّ الثَّنَاءَ مَقْرُونٌ بِهَا بِكُلِّ حَالٍ ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْأَذَى مَقْرُونًا بِصُورَةِ الْحَبْلِ وَطَبْعُهُ يَنْفِرُ عَنْ الْأَذَى فَنَفَرَ عَنْ الْمَقْرُونِ بِالْأَذَى فَالْمَقْرُونُ بِاللَّذِيذِ لَذِيذٌ وَالْمَقْرُونُ بِالْمَكْرُوهِ مَكْرُوهٌ ، بَلْ الْإِنْسَانُ إذَا جَالَسَ مَنْ عَشِقَهُ فِي مَكَان فَإِذَا انْتَهَى إلَيْهِ أَحَسَّ فِي نَفْسه تَفْرِقَةً بَيْنَ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَغَيْرِهِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ :
أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ لَيْلَى أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا
وَمَا تِلْكَ الدِّيَارُ شَغَفْنَ قَلْبِي وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا
وَكَذَلِكَ إخْفَاءُ السِّرِّ وَحِفْظُ الْعَهْدِ إنَّمَا تَوَاصَى النَّاسُ بِهِمَا لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْمَصَالِحِ وَأَكْثَرُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِمَا ، فَمَنْ يَحْتَمِلُ الضَّرَرَ فِيهِ فَإِنَّمَا يَحْتَمِلُهُ لِأَجْلِ الثَّنَاءِ ، فَإِنْ فَرَضَ حَيْثُ لَا ثَنَاءَ فَقَدْ وُجِدَ مَقْرُونًا بِالثَّنَاءِ فَيَبْقَى مَيْلُ الْوَهْمِ إلَى الْمَقْرُونِ بِاللَّذِيذِ وَإِنْ كَانَ خَالِيًا عَنْهُ فَإِنْ فُرِضَ مَنْ لَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ هَذَا الْوَهْمُ وَلَا يَنْتَظِرُ الثَّوَابَ وَالثَّنَاءَ فَهُوَ مُسْتَقْبَحٌ لِلسَّعْيِ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ وَيُسْتَحْمَقُ مَنْ يَفْعَلُ ذَاكَ قَطْعًا ، فَمَنْ يُسَلِّمُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُؤْثِرُ الْهَلَاكَ عَلَى الْحَيَاةِ وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْجَوَابُ عَنْ الْكَذِبِ وَعَنْ جَمِيعِ مَا يَفْرِضُونَهُ .
ثُمَّ نَقُولُ : نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ أَهْلَ الْعَادَةِ يَسْتَقْبِحُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْقُبْحِ وَالْحُسْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَنْ قَضَى بِهِ فَمُسْتَنَدُهُ قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَكَيْفَ يَقِيسُ وَالسَّيِّدُ لَوْ تَرَكَ عَبِيدَهُ وَإِمَاءَهُ وَبَعْضُهُمْ يَمُوج فِي بَعْضٍ وَيَرْتَكِبُونَ الْفَوَاحِشَ.
المستصفى، الجزء 1، الباب الفن الأول في حقيقة الحكم، الصفحة 112”.
الأرجح هو أنَّ الغزالي تأثر بالمعتزلة وليس بابن سينا، فينتقد المعتزلة ببضاعة المعتزلة، وكلامه ليس موجهًا للمعتزلة، فهو على الأرجح موجَّه للذين على المذهب الأشعري ليحتفظ بهم على مذهبه الأشعري، فلا يوجد أسهل من رد كلام الغزالي، ونُورد هنا شيئًا من كلام شيخ من شيوخ المعتزلة، وينقل في كتبه كلامًا لشيوخ المعتزلة أيضًا، وهو القاضي عبد الجبار، يقول القاضي عبد الجبار:"إنَّ ما له يُسْتَقْبَح النظر هو نفور الطبع عن ذلك، وذلك مما لا يوجب قُبْحه، لأنَّه لا يمتنع حسنه مع ذلك" مجلد "التعديل والتجوير"، ص 21.
في هذا الكلام يوضح القاضي عبد الجبار أنَّ الشيء الذي يستقبحه فلان ليس بالضرورة أنْ يكون قبيحًا في ذاته، بل قد يكون حسنًا في ذاته، وفي هذا تمييز لأحكام العقل عما ليس بأحكام العقل، فالحسن في ذاته لا يستقبحه العقل، بل النفور في الذي يؤدي إلى استقباحه، وهذا سيتضح أكثر في الصفحات التالية.
ويقول القاضي عبد الجبار أيضًا:"ووصفهم للخلقة بأنَّها قبيحة، لا يؤثر في ذلك، لأنَّ الاسم الواحد لا يمتنع كونه حقيقة في معنيين مختلفين، وإنْ كان الأغلب أنَّ هذا الاسم حقيقة فيما يصح عقلًا. وإنَّما يجري على الخِلقة القبيحة من حيث كان نفور النفس عن النظر إليها في أنَّه يَنْفِر عن ذلك بمنزلة العلم بقبح القبيح، فتشبه به. وإنْ كان شيخنا أبو هاشم رحمه الله قد قال في بعض النصوص: إنَّ غَرَضَ مَنْ وصف القرد بأنَّه قبيح هو أنَّ العين ترتد عنه ولا تستحلي النطر إليه؛ وذكر فيه وفي بعض الأبواب ما يدل على أنَّ استعمال ذلك فيه محال، من حيث يُتَكَرَّه ويُسْتَشْنَع كما يتكره القبيح لما فيه من الذم والضرر وأي قول في ذلك لم يؤثر فيما ذكرناه، فلذلك لن نتقصَ القول فيه، وإنْ كان ما يعلمه من أنَّ العلم بما يقبح عقلًا يمنع من فعله ويستمر حال العقلاء فيه على وجه واحد يوجب ترجيح القول بأنَّه حقيقة فيه ومجاز في الصورة.
وقد قيل أنَّه / مجاز في الصورة لأنَّ استقباحها لأمر يرجع إلينا. وليس كذلك حال الظلم.
وقد قال شيخنا أبو هاشم رحمه الله أنَّه لا بد في استقباحها من أنْ تكون بحال تختص به، وإنْ كان لا بد من إثبات أمر فينا" مجلد "التعديل والتجوير"، ص 25 – 26.
نلاحظ أنَّ وصف الخلقة بالقبيحة لا يمنع أنْ تكون حسنة في ذاتها، "وإنَّما يجري على الخِلقة القبيحة من حيث كان نفور النفس عن النظر إليها في أنَّه يَنْفِر عن ذلك بمنزلة العلم بقبح القبيح، فتشبه به”، وكلمة "الخلقة القبيحة" لا يقصد بها القاضي عبد الجبار أنَّها قبيحة في ذاتها، بل قبيحة من حيث نفور النفس عنها، والفرق واضح، فإذ تكون الخلقة حسنة وتنفر النفس منها لتكون قبيحة في نفس النافر؛ فيكون هذا النفور سببًا في إنزال الخلقة الحسنة منزلة الخلقة القبيحة، وكونها نزلت منزلة الخلقة القبيحة ليس حقيقة بل مجاز.
ويقول أيضًا على لسان معترض – ربما يكون مُتَخَيَّلًا -:"فإنْ قيل: أليس قد صحَّ مفارقة الخِلْقة القبيحة للخلقة الحسنة، لأمر يرجع إلى غيرهما، من غير أنْ تختص احداهما بما تفارق به الأخرى، فهلَّا صح مثله في مفارقة القبيح العقلي للحسن، ومفارقة الندب للواجب؟" التعديل والتجوير ص 55.
نلاحظ أنَّه أطلق على الخلقة القبيحة اسم الخلقة الحسنة، بدلالة قوله "من غير أنْ تختص إحداهما بما تفارق به الأخرى"، وسبب ذلك هو "لأمر يرجع إلى غيرهما"، وغيرهما (الخِلْقة القبيحة والخلقة الحسنة) هما المُسْتَقْبِح، والمُسْتَحْسِن.
فيرد عليه القاضي عبد الجبار" قيل له: إنَّ شيخنا أبا هاشم رحمه الله قد قال: إنَّ الخلقة القبيحة لا بد من أنْ تفارق الحسنة بأمر تختص به، ولذلك ينفر الطبع عنها دون الأخرى. فالحال فيهما على هذا القول كالحال في مفارقة القبيح العقلي للحسن. ولكن الأمر وإنْ كان كما قاله رحمه الله، فقد يصح أنْ يَستحسن نفس الخلقة التي يَستقبحها، بأنْ توجد فيه الشهوة بدلًا من النفور. وذلك يوجب أنْ كونها قبيحة يرجع إلى حال المُسْتَقْبِح، وإنْ كان لا بد من إثبات الخلقة على صفة لكونها عليها يصح أنْ يستحسنها تارة ويستقبحها أُخرى، ويصح أنْ لا يستقبحها ولا يستحسنها، فليس يصح أنْ يقال أنَّ ما هي عليه صفة يؤثر في استحسانها أو استقباحها. وليس كذلك حال القبيح العقلي؛ لأنَّه لا بد من إثباته على وجه يقتضى كونه قبيحا، ويستحيل خلافه. ولذلك يستحيل مع كونه ظلما أنْ يستحسن كما يستقبح، أو لا يستحسن ولا يستقبح. فقد صح على كل حال الفرقُ بين الأمرين" التعديل والتجوير ص 55.
القاضي عبد الجبار يوضِّح كلام الشيخ أبو هاشم، ويبدو كما لو كان كلام القاضي عبد الجبار متناقضًا يرد بعضه بعضًا، ولكن إنْ تمعَّنا في كلامه جيدًا فسنعلم أنَّ كلامه لا يرد بعضه بعضًا، ونستشهد هنا بقول آخر، لتوضيح عدم وجود "تناقض ممتنع"، وهو، يقول القاضي عبد الجبار:"وقد بينا في غير موضع أنَّ نفور الطبع لا يتعلق بالتقطيع، وإنما يتعلق بما يحدث عنده. فلا يمتنع في ذلك أنْ يشتهيه كما لا يمنع أنْ ينفر طبعه عنده، وإنْ استبعد في العادة ذلك من حيث علم كل أحد من نفسه متى قطع يده إربا إربا انَّه يؤلمه لا محالة، كما يعلم أنَّه متى أكل ما اعتاده أنََّه شبع ومتى شرب روي.
وإذا جاز خلاف ذلك في الطعام والشراب، فما الذي يمنع من خلافه فيما ذكرناه، حتى تحدث في الإنسان الشهوة للمعنى الحادث عند تقطيع يده، ويكون ملتذا بذلك.
وإنْ لحقته مضرة بالتقطيع من حيث يحتاج إلى صحة الآلة في التصرف، فمتى تغير عن حال الصحة لحقته مضرة.
ولهذه الجملة يجد الحي منا البرد الشديد - عند الاصطلاء أو الغوص في الماء الفاتر – اللذة الشديدة، ويجد من به جرب اللذة المختلفة على حسب ما لحقاه من هذه العلة.
ولا يجب من حيث جوزنا ذلك أنْ يشتهي الحي منا قطع أوصاله؛ لأنَّا قد نينا أنَّ ذلك مما لا يدرك، فلا يصح أنْ يشتهي ولا ينفر الطبع عنه (عن قطع أوصاله).
وإنما يصح ذلك في المعنى الحادث عنده. وقد يصح ذلك في المعنى أنْ يحدث والصحة قائمة فتخلص له اللذة، وقد يصح أنْ يخلص فيه الألم.
فأما إذا حدث مع تقطيع العضو ما يشينه، فإنَّه وإنْ التذ فلا بد من أنْ يقترن الألم بذلك الغم الذي ربما غمر القلب وأثر فيما يجد من اللذة؛ لأنَّ العاقل لا بد من أنْ يغتم بفساد أعضائه لحاجته إليها ولكونها آلة له؛ ولأنَّ صحتها تقتضي العواقب ضروبا من اللذة والمنافع لا تحصل به (الغم)؛ فلذلك لا تخلص له اللذة.
اللطف والآلام ص 242-243.
كلمة "يُحْدُث عنده" لا بد من فهمها جيدًا، فالذي تتقطع أوصاله إنْ اشتهى، فلا يشتهي تقطيع يده، ولكنه يشتهي معنى (بمنعى شيء) عند تقطيع يده، وإذ يشتهي الشيء (المعنى) الذي اشتهاه؛ فتحصل له اللذة، فيقترن الشيء اللذيذ بتقطيع يده؛ فيلتذ بتقطيع يده؛ وبهذا فكلمة "قرين اللذيذ لذيذ" موجودة في كلام المعتزلة بالمعنى وبوضوح قلَّ نظيره، وهو موجود في جملة القاضي عبد الجبار التالية بالتمام "تحدث في الإنسان الشهوة للمعنى الحادث عند تقطيع يده، ويكون ملتذا بذلك”.
وهذا الكلام أورده القاضي عبد الجبار للرد على المعترض، وهو يعترف في أنَّ التصديق بالالتذاذ بتقطيع اليد مستبعد في العادة، فيقول: "وإنْ استبعد في العادة ذلك من حيث علم كل أحد من نفسه متى قطع يده إربا إربا انَّه يؤلمه لا محالة”.
ولا يهمنا هذا المثال تحديدًا، فما يهما هو جنس الذي يندرج تحته هذا المثال، ومن جنس هذا المثال، مسألة "الخِلْقة القبيحة والخلقة الحسنة" التي تناولناها سابقًا
"ولكن الأمر وإنْ كان كما قاله رحمه (أبو هاشم الجُّبَّائي) الله، فقد يصح أنْ يَستحسن نفس الخلقة التي يَستقبحها، بأنْ توجد فيه الشهوة بدلًا من النفور. وذلك يوجب أنْ كونها قبيحة يرجع إلى حال المُسْتَقْبِح،" التعديل والتجوير ص 55.
الكلام عن كون الخلقة قبيحة يرجع إلى حال المُسْتَقْبِح يقيده القاضي عبد الجبار بالكلام التالي:
"وإنْ كان لا بد من إثبات الخلقة على صفة لكونها عليها يصح أنْ يستحسنها تارة ويستقبحها أُخرى، ويصح أنْ لا يستقبحها ولا يستحسنها، فليس يصح أنْ يقال أنَّ ما هي عليه صفة يؤثر في استحسانها أو استقباحها.” التعديل والتجوير ص 55.
مسألة "قرين اللذيذ لذيذ، وقرين المؤلم مؤلم"، واضحة هنا تمامًا، فالخلقة لكي تُسْتَقْبَح فلا بد أنْ يكون فيها (الخلقة) شيء يستقبَح، وإذ تنفر النفس من الشيء القبيح في الخلقة؛ فيتعمم الاستقباح على الذي يُسْتَحْسَن - في ذاته - في الخلقة، وأنا هنا لا أُحَمِّل الكلام ما لا يحتمل، فقد مرَّ معنا عن اشتهاء ما يَحْدُث عند تقطيع يد، فيصير التقطيع لذيذًا، وبهذا تتعمم اللذة من الشيء المُشتهَى إلى الشيء الذي يقترن بالمشتهَى، وهذا ما يَحْدُث بشأن الذي يُسْتَحْسَن في الخلقة، حيث يقترن "الذي يُسْتَحْسَن في الخلقة" في النفس بنفور من "الذي يُسْتَقْبَح في الخلقة"؛ فينزل "الذي يُسْتَحْسَن في الخلقة" في النفس بمنزلة "الذي يُسْتَقْبَح في الخلقة"؛ وبهذا "فقرين المسْتَقْبَح مسْتَقْبَح"، والذي يُسْتَقْبَح مؤلم؛ لأنه (الذي يُسْتَقْبَح) تابع للنفور؛ وبهذا "فقرين المؤلم مؤلم”، وبشأن الاستحسان فلا بد من اشتهاء الشيء الذي يُسْتَحْسَن في الخلقة، وبهذا يقترن الذي يُسْتَقْبَح بالذي يُسْتَحْسن، فيتعمم الاستحسان على الذي يُسْتَقْبَح؛ وهذا هو “قرين المُسْتَحْسَن مُسْتَحْسَن"، والمُسْتَحْسَن – في هذا السياق - تابع للشهوة التي ينتج عنها اللذة؛ وبهذا “فقرين اللذيذ لذيذ”، ولكن أنْ نظر الناظر لشيء في الخلقة ولم يَسْتَحْسِنه ولم يَسْتَقْبِحُه، فيتعمم هذا الحال على الذي يُسْتَحْسَن في الخلقة والذي يُسْتَقْبَح؛ وبهذا "فقرين الذي لم يُسْتَحْسَن ولم يُسْتَقْبَح؛ لم يَسْتَحْسَن ولم يَسْتَقْبَحُ”.
قد يقال: نُسَلِّم بجزء من الاكتشاف للمعتزلة، فالمعتزلة لم تتكلم عن ثبوت أنَّ "قرين المؤلم مؤلم”، وأنَّ “قرين اللذيذ لذيذ”، فهل لديكم ما ينفي صحة قولنا؟
نقول: بلى، فقد قال القاضي عبد الجبار:"بيَّنا ما يختاره (أبو هاشم) من أنه بالعادة يجب أنْ يكون نافر الطبع عنه، ويجوز أنْ يشتهه، بدلًا من أنْ ينفر طبعه عنه" اللطف والآلام ص 267.
وقال:"يبين صحة ما قلنا علمنا بأنَّ أحوال الأحياء تختلف فيما يلحق أجسامهم عند التقطيع وإنْ كان قدره لا يختلف. وذلك أنَّ هناك معانٍ حادثة يتعلق بها نفار الطبع، وتوجد في أحد الحيَّيْن أكثر مما توجد في الحي الآخر. لذلك تجد للعادات تأثيرًا في هذا الباب. ألا ترى أنَّ من <يتفتى> ويكثر منه احتمال هذا الباب ولا يجد من الآلام ما يجده غيره، كما لا يغتم بما يغتم به غيره؟ وعلى هذا الوجه تعد الرياضة في كثير من هذه الأمور مخفِّفة لما لولا الرياضة لثقل تحمله.” اللطف والآلام ص 251.
العادة هنا بمعنى التكرار، فلا عادة بلا تكرار، والتكرار هو الذي يجعل "قرين المؤلم مؤلم” يتثبَّت في النفس، وكذلك “قرين اللذيذ لذيذ”، ولكن هذا الثبوت يمكن أنْ يَخرُج عن كونه ثبوتًا، بدلالة نهاية قول الشيخ أبو هاشم في الاقتباس السابق، فالذي كان بالعادة نافر الطبع عنه يمكن أنْ يشتهيه، ويمكن أنْ تتعلق العادة بهذا الاشتهاء.
وبهذا يبطل النقد الذي وجهه الغزالي للمعتزلة، فما سبق يُبيِّن الأحكام غير العقلية، ولكن هل حال الأحكام غير العقلية يماثل الأحكام العقلية؟
يجيب القاضي عبد الجبار على هذا السؤال بما يلي:
"وليس كذلك حال القبيح العقلي؛ لأنَّه لا بد من إثباته على وجه يقتضى كونه قبيحا، ويستحيل خلافه. ولذلك يستحيل مع كونه ظلما أنْ يستحسن كما يستقبح، أو لا يستحسن ولا يستقبح. فقد صح على كل حال الفرقُ بين الأمرين" التعديل والتجوير ص 55.
القبيح العقلي لا يقر بقبُح الخلقة الحسنة إذا اقترنت بنفور من خلقة قبيحة من نافر، ولا يقر بحسن الخلقة القبيحة إذا اقترنت باشتهاء خلقة حسنة من مشتهِي؛ ذلك "لأنَّه لا بد من إثباته على وجه يقتضى كونه قبيحا، ويستحيل خلافه”؛ وبهذا يتبين الفرق بين الأمرين، ويبطل نقد الغزالي الذي وجهه للمعتزلة.
قد يطعن البعض بكلام المعتزلة هذا، وأنَّه مبني على أساس غير سليم، فيستشهد بكلام القاضي عبد الجبار التالي: "وقد وجدنا الألم الحال في بعضنا كما نجد الحرارة الحالة في بعضنا، وعلمنا أنَّا ندركه كما ندركها، لكن الحرارة من حيث ثبت لها ضد، حصل فيها من الفصل أكثر مما يحصل في الألم.
ولا يمنع ذلك من كون الألم على ما هو به؛ ولسنا نثبته أجناسا؛ بل هو من جنس واحد، لأن بعضه يلتبس ببعض إذا كانت حال المدرك واحدة.
ولو كان مختلفًا لم يلتبس بعضه ببعض والحالة هذه؛ فصارت هذه الدلالة في أنَّها تقتضي كونه جنسًا واحدًا بمنزلة الدلالة على أنَّ الحرارة جنس واحد. ولكن الحرارة اسم يبين جنسه من غيره، وليس للألم اسم يفيد ذلك فيه لـ"أنَّه" يسمى مَّرة ألما إذا حصل المدرِك به نافر الطبع، ومرة لذة إذا أدركه مع الشهوة؛ وإنَّما يخص باسم يبين به من غيره لأنَّ أقوى الطريقة في معرفة حاله / هو ما يجده الإنسان من كونه آلما به وملتذًا، وصار ذلك في أنَّه يوجب التفرقة عند المدرَك بمنزلة التفرقة بين الحرارة والبرودة؛ وإنما يضع أهل اللغة العبارات للمعاني بحسب ما يظهر من أحوالها لهم فيسيقون إلى الأظهر فالأظهر من ذلك.
ولذلك وضعوا للأكوان المختلفة عبارات ولم يضعوا للأكوان المختلفة ذلك، وإنما وضعوا لها ما كان أظهر عندهم من كونها حركة وسكونًا واجتماعًا وافتراقًا. فلمَّا ثبت من حال الألِم أنَّه يجد – لكونه ألمِا – من التفرقة أظهر مما يجده لإدراك نفس الألم، صارت هذه التفرقة أغلب عليه وأقوى عنده، فوضع له من العبارات ما يفيدها، ولم يضع له ما يفيد جنسه”، اللطف والآلام ص 255 – 256.
نقول: الواضح من هذا الكلام أنَّ الذي أدى بالمعتزلة إلى القول بـ"أنَّ اشتهاء ما يَحْدُث عند المؤلم؛ يجعل الذي كان مؤلمًا لذيذًا، والنفور مما يَحْدُث عند اللذيذ؛ يجعل الذي كان لذيذًا مؤلمًا" هو قولهم بأنَّ جنس "الألم واللذة" واحدًا، وليس الألم جنسًا مستقلًا، واللذة جنسًا آخر، وهذا يعني أنَّ الألم هو اللذة، واللذة هي الألم، والذي يجعل الألم لذة هو الشهوة، والذي يجعل اللذة ألمًا هو النفور، وأرجو عدم الظن بأنَّني أخطأتُ إذ قلتُ "الذي يجعل اللذة ألمًا هو النفور”، فهذا ليس خطأ مني، بل هو ما يقتضيه قول من قال من المعتزلة بأنَّ "الألم واللذة جنسًا واحدًا"، وأبو علي الجُّبَّائي المعتزلي من اللذين لم يقولوا بأنَّ "الألم واللذة جنسًا واحدًا"، بل قال بأنهما جنسين.
وعلى كل حال، فهذا يبقى شيئًا مستقلًا عن الأخطاء التي تقع بها آلة التَّعَقُّل، فالعقل يميز بين الحسن في ذاته وما يقترن، وبين القبيح في ذاته وما يقترن به، فالعقل لا يقع في الالتباس الناتج عن كون "اللذة والألم جنسًا واحدًا"، فله عالم مستقل عن جنس "اللذة والألم"، وإنْ تشابهت الأخطاء التي تقع فيها آلة التَّعَقُّل والأخطاء الناتجة عن كون "اللذة والألم جنسًا واحدًا"، وقول القاضي عبد الجبار التالي، يؤكد صحة ما أقول:”العازم (على ترك القبائح) يتصور في القبائح المضرة، حتى يعزم على تروكها، ولا يجوز أنْ يعزم والحال هذه وقد وقعت منه معاصٍ إلَّا ويتصور فيها المضرة، ولا يجوز والحال هذه ألَّا يندم عليها” الأصلح استحقاق الذم، التوبة، ص 348.
والكلام هنا ليس عن القبائح التي ترجع لأمر في نفس المسْتَقْبِح، بل ترجع للقبائح في نفسها، فهي تقترن في تصور العازم على تركها بمضرة، وهذا اقتران عقلي، ليس كاقتران المسْتَقْبَح باللذة، فيصير المستقبَح لذيذًا، ففي حال الاقتران العقلي؛ لا يمكن أنْ يصير المستقبَح لذيذًا في النفس، والكلام عن هذا موجود أكثر في " الفصل: في ذكر اختلاف أحوال التائب فيما يلزمه من التوبة"، المجلد: الأصلح، استحقاق الذم، التوبة.
التعليقات (0)