رغم السطوع القوي لوميض اجهزة التصوير التي احالت ليل جامعة الدول العربية نهارا..الا ان كل اضواء اجهزة الاعلام العربي والدولي لم تكن كافية لتبديد بعض العتمة عن الغموض الذي تلفلفت به الكثير من التفاصيل والمراحل والسيناريوهات التي تختفي خلف الهمة العالية التي بذلتها دول الخليج العربي ممثلة بالجهد القطري والدعم السعودي لاستصدار قرار تعليق عضوية سوريا في مجلس الجامعة..فعلى الرغم من الوضوح الشديد لحراجة النقطة التي وصلت إليها الامور حد اللاعودة
وان كل الإحتمالات أصبحت مفتوحة على المواجهة التصادمية بين الارادات المتناقضة ..فان هناك عسرا واضحا في هضم ان تكون الممالك والمشيخات العربية هي من ترفع لواء الدعوة الى منح الشعوب حريتها وحقوقها السياسية في ظل فتاوي تكفير الاحتجاجات الشعبية مما قد يشي بان الخطوات التي ستلي هذا القرار سيكون لها تأثير حاسم في رسم مسار الخلافات المتصاعدة التي بلغت ذروة مداها في التاجيج والتوتير والتحريض.
خياران لا ثالث لهما قد يحددان الخطوة التالية للجامعة العربية بعد قرارها التاريخي بتعليق عضوية سوريا في الجامعة.. اما اعادة انتاج التجربة المرة لقوات الردع العربية او استنساخ التجربة الليبية من خلال دعوة مجلس الامن الى التدخل بداعي حماية المدنيين..ولن يكون من الصعب ملاحظة افتقار الاحتمالين الى المعطيات الموضوعية على الارض الذي قد يرجح احدهما على الآخر..
فليس من الخفي ان الجامعة لا تمتلك الآليات اللازمة للقيام بعمل عسكري من خلال دعم قوات مسلحة تتولى تأمين الحماية اللازمة للمدنيين وانشاء منطقة عازلة تكون ملاذا آمنا للهاربين من مناطق التوتر والنزاع بسبب الخلافات المرشحة للتصاعد تجاه مثل هذه الخطوة وافتقار الضوابط القانونية التي قد تؤمن مستوى مقبول من التفاهمات بين الدول العربية وعدم الزامية قرارات الجامعة للدول الاعضاء الذين لم يصوّتوا على هذه القرارات..وفي الخيار الثاني فان اي تحرك دولي سيكون مرشحا للاصطدام بالفيتو الروسي الصيني المتوقع حد الحتمية بسبب مصالح معينة للدولتين في منع التحرك الغربي مبنية على قراءات خاصة متوجسة من محاولات الغرب لمد نفوذه على دول الاقليم وسيطرته على مفاتيح ومغاليق الازمات في المنطقة..
كما انه ليس من الحكمة تجاهل ان جامعة الدول العربية –تاريخيا- لم تتحرك الى اصدار مثل هذه القرارات الا بايعاز مباشر من القوى الغربية وبشكل اقرب الى التكليف ولا تعد مثل هذه القرارات عادة الا كتمهيد بروتوكولي وتسوية قانونية لخطوات اخرى غالبا ما تنتهي بالتدخل العسكري المباشر..ولكن غياب المؤشرات عن توجه دولي حقيقي وفعلي للخيار العسكري في مواجهة النظام قد يزيد من تعقيد الصورة ومن صعوبة تفسير التسارع اللاهث لخطوات الجامعة والتقليص المخل للفسح الزمنية التي تقدم للنظام لكي يعود عن ما لا يجيد سواه..وهذه الوقائع تدفعنا الى التساؤل حول الخطوات التي ستلي القرار الذي يبدو انه كان نتيجة حتمية لفشل المبادرة العربية في سوريا والتي كان من المتيقن مسبقا أن لا نتيجة إيجابية متوقّعة منها بسبب طبيعة النظام السوري وارتهانه لسياساته الامنية ضدّ شعبه المطالب بالديمقراطية.
وقد يكون اول التوقعات وايسرها على الفهم هو الحديث عن تدخل تركي بدعم وغطاء عربي ودولي يستهدف اقامة منطقة عازلة داخل الاراضي السورية متزامنا مع قرار يصدر من مجلس الامن يقضي بحماية المدنيين على ارضية قرار لبجامعة العربية..ويدعم مثل هذا التصور التحشيد العسكري الكبير الذي تمارسه القوات التركية على الحدود والذي يصل حسب بعض التقارير الى مستوى تعبئة فرق كاملة مما يجعله يتجاوز الهدف المعلن المتمثل بمكافحة حزب العمّال الكردستاني الذي يتحرّك انطلاقاً من شمال العراق رغم انه قد يسوق اعلاميا ضمن هذا الاطار.خصوصا بعد التسريبات المتواترة التي تتحدث عن تبني النظام السوري المسؤوليّة عن تحريك حزب العمّال الكردستاني داخل الأراضي التركية وهو ما يعد مبررا كافيا لتركيا لمزيد من التصلب والمواجهة مع النظام السوري..وعند هذه النقطة بالذات قد نتوقع تبخر ملامح الجامعة العربية امام طغيان صورة الشيخ حمد مصحوبا بضجيج واهازيج بدوية ونثر للاموال بجميع الاتجاهات وتجيير مؤلم لجراحات والام الشعب السوري المكلوم في خدمة مشاريع أخونة المشهد السياسي العربي ..
ان الحقيقة التي لم يحسن القرار تغطيتها جيدا هي ان هذا الحراك العربي ضمن جميع المسالك المتوقعة له لم يكن لوجه الله ولا الشعب السوري بقدر كونه استجابة لمواقف اقرب الى التواطؤ والاملاءات من قبل قوى اقليمية ودولية قد تتقاطع مصالحها مع الجماهير الثائرة في تغيير النظام العائلي القمعي المتهالك ولكنها قد لا تتفق مع طموحاته في بناء الدولة المدنية الحرة المعافاة التي تستند الى الحرية والتداولية وحقوق الانسان في استعادة ..وقد لا نكون متجنين لو تطيرنا من تكرار الدور التآمري للدول المتصدية لاصدار القرار في ادامة وتأزيم الوضع السياسي والامني والانساني في اليمن الجريح..
ان مصلحة وامن وسلامة الشعب السوري تدفعنا الى دعوة جميع الاطراف وخصوصا النظام السوري الى محاولة فهم واستيعاب المتغيرات والمتحولات الكبيرة في المشهد الإقليمي والدولي والتي من شأنها أن ترخي بثقلها وتاثيراتها وانعكاساته على نتائج وتداعيات القرار العربي..كما يجب على الاطراف العربية وخصوصا قطر ان تعي بانها لن يكون لها من القدرة اكثر من اعتلاء المنبر والتذاكي ببعض العبارات البليغة التي لن تقوى على تبديد الصورة الراسخة في اذهان الشعوب العربية عن الامارة الصغيرة المناهضة لحركة التاريخ والتي تردد شعاراتها الثورية رابضة كقط اليف تحت اعتاب القواعد العسكرية الامريكية..ولا اليقين المتقادم عن الجامعة بكونها مجرد نادي لتحشيد قوى الانظمة على شعوبها..ويجب عدم الامعان في محاولة تحويل مسار الحراكات الشعبية نحو طرق ومفازات السياسات الخليجية المستنزفة لطاقات ودماء الشعوب في مشاريع وأطر فئوية وطائفية ضيقة..وان لا تستثمر اليات العمل العربي المشترك لتنفيذ مخططات قد تستهدف حرية الشعب السوري وامنه وحقه الطبيعي بالحياة والحرية والكرامة..والا فلن يساوي هذا القرار "الحبر الذي كتب به".
التعليقات (0)