في ثقافة الهزيمة التي يتبناها الشارع العربي ، لايجب الحراك الفعلي بعد الإدلاء بالآراء الكثيرة المناهضة للأنظمة وسياساتها ، إلا بعد رؤية برهان الرب ، أوإبصار إشارة من السماء ! .. كأن يُقدِم أحدهم مثلا على سكب لترات من البنزين على جسده ، ويضرم فيه النار أمام الملأ ؟! .. بهذا السيناريو فقط تتحرر الأجساد والإرادات ، وتولد الأفعال من رحم تلك الآراء والكلمات ! ..
لاشك أن الثمن باهض جدا ، ذاك الذي دفعه الشاب التونسي ، حين قدّم روحه قربانا لإنتفاضة الجبناء ، ليتزلزل إزفلت شوارع محافظة سيدي بوزيد ، على وقع فوضى المواطنين المتعاطفين مع أنفسهم من خلال الشاب الفقيد ! .. لكن أكان يجب أن يكون القربان بتلك الصورة ، كي ينقلب المواطنون على حكومة تونس السادية ؟! ..
نعم إن الحكومة التي تنتظر أن يقوم مواطنوها برحلات مأساوية مِن وإلى الجحيم ، لإظهار تعاطفها معهم هي حكومة سادية وما بعدها سادية .. إذ كيف يُعقل أن تكون البطالة متفشية في عموم تونس ، وفي محافظة سيدي بوزيد تحديدا منذ عقود طويلة ، ولا تنظرالحكومة التونسية في خطورة الوضع إلا بعد حدوث ما حدث ، لنسمع من وكالات الأنباء أنها خصصت ملايين الدولارات للنهوض بالتنمية في المنطقة المذكورة ؟! ..
التنمية المتأخرة المزعومة لن تصل نسبتها إلى واحد في المائة من الثمن الذي دفعه ذاك الشاب ! .. والتحركات المتأخرة هي كما كل حلولنا العربية ، دوما إرتجالية وترقيعية ، وآنية لاتخضع لدراسات مسبقة .. ما يُظهر أزمة (السياسة الرشيدة) التي نعاني منها !..
فتلك المبالغ الزهيدة التي جادت بها الحكومة التونسية لن تعيد الزمن إلى الوراء .. ولن تعيد كتابة السيناريو الذي قامت على ضوئه تلك الأحداث .. كما لن تعيد الحياة لرماد ضحية تجاهلها ولامبالاتها ! .. الرماد الذي إنتشر في أرجاء تونس وماكان مباركا ، لأنه من نيران الظلم ، والله لايبارك الظلم والظالمين ! ..
الحكومة التونسية ظلمت الشاب الفقيد ، لأنها لم تكتفي بإبقائه واقفا على هامش الحياة بعد تخرجه ، بل كانت تضيق عليه الخناق ، وتحاول حرمانه حتى من الفرص الضئيلة للكسب الشريف والبسيط كبائع للخضار! .. فهل كان ذاك الشاب سيُقدم على الإنتحار لو لم تمنعه السلطات من جر عربة الخضار؟! .. لاأعتقد ذلك .. بل وحتى مع وجود حتمية الأجل ، لن تكون موتته بتلك الصورة وبتلك الفظاعة ! ..
أما الشاب الفقيد ، فقد أراد الإنتصار لنفسه فظلمها هي الأخرى .. والأحياء من بعده أبصروا هول المصير! .. مصيرهم المنبعث من رماده ! ..
إذن ، ألم يحن الوقت بعد للكف عن عقلية الإختباء خلف بعضنا ، ودفع بعضنا البعض إلى أفواه الأنظمة التي وكأننا لايكفينا ما نعانيه من تهميش لإراداتنا ومصالحنا العمومية على أيديها ، كي نكفر عنها ذنوب تقصيرها وجورها ، بقرابين ظلم أنفسنا وقتلها فلا ننعتق أبدا من الجحيم .. جحيمٌ هنا وآخر هناك ؟!.
ــــ
تاج الديــن : 12 ـ 2010
التعليقات (0)