قراءة نقدية في العدد 24 من دراسات كارينغي
بناء التعاون في الجزء الشرقي من منطقة الشرق الأوسط
بلال الشوبكي
في هذه الدراسة يحاول بول سالم الباحث في مؤسسة كارينغي للسلام الدولي أن يوجد مدخلا مختلفاً لدراسة قضايا الشرق الأوسط. المدخل يقوم على أساس فكرة التوجه نحو منع الصراعات بدلاً من إدارتها، وإدراكاً منه بحقيقة الوضع المتسم بالخلاف والصراع في منطقة الشرق الأوسط، يطرح بول افتراضاً مؤداه، أن العوامل المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط وطبيعة الصراعات القائمة بين اللاعبين فيه قد تدفع نحو بناء منظومة من التعاون تتجاوز الخلافات القائمة وتؤسس لعلاقة مبنية على أساس المصالح والمنفعة المتبادلة، وفي سبيل فحص مصداقية فرضيته يجري بول نوعاً من المسح لطبيعة الصراعات في المنطقة ودوافعها، مضافاً إليها إدراجاً لتاريخ العلاقات البينية بين أطرافه سواء تلك العلاقات المتمسة بالصراع أو تلك السلمية أو المحايدة.
بول سالم جعل من المنطقة الشرقية في الشرق الأوسط مجالاً لدراسته، حيث اعتبر أن بناء التعاون يجب أن يكون في هذه المنطقة أساساً للتوصل إلى منع الصراعات وتجاوز إدارتها. حقيقة الأمر فإن بول سالم قد أخلّ كثيراً بمصداقية دراسته ومن ثم نتائجها حين حدد دراسته بالجزء الشرقي من الشرق الأوسط، وربما تعمّد ذلك. أن تقتصر الدراسة على المنطقة الشرقية فهذا شيء مقبول كون المنطقة الشرقية تمتاز بخصائص تميزها عن باقي الدول خاصة في منطقة شمال أفريقيا، لكن الخلل كان في استثنائه بعض الدول من المنطقة الشرقية، دون أي مبرر أكاديمي.
يتبين من الدراسة، أن بول استثنى الأردن ولبنان والسلطة الفلسطينية وإسرائيل من حدود المنطقة الشرقية، وواقع الأمر أن هذه الدول لا يمكن أن تنفصل بأي حال عن المنطقة الشرقية، فلا يمكن دراسة العلاقة بين سوريا والسعودية وإيران، دون دراسة لبنان كعامل مؤثر ومتأثر. كما لا يمكن دراسة بناء أي تعاون في المنطقة الشرقية في ظل استثناء دور إسرائيل أو الأردن، أو أن يصل الأمر إلى استثناء القضية الفلسطينية كواحدة من اهم القضايا الشائكة في الشرق الأوسط. إضافة لذلك، فإنه لا يوجد أي مسوّغ من الناحية الجغرافية لاستثناء هذه المناطق، خاصة أن بول سالم أدخل سوريا للمنطقة، فدول مثل لبنان وفلسطين والأردن هي جزء من جغرافيا بلاد الشام، هذا من الناحية الجيوسياسية. أما من الناحية الأمنية فلا يمكن استثناء إسرائيل ولبنان على وجه الخصوص، فهي بالإضافة إلى العراق تعتبر مصدر التوتر الأمني في المنطقة.
السبب الذي قد يكون دفع الباحث لاستثناء هذه المناطق، هو عدم قدرته على استثناء إسرائيل لوحدها، فاختار استثناء مجموعة متقاربة دون مبرر واضح. المسألة برأيي لا تتجاوز عدم قدرته على نقاش الفرضية في ظل اعتبار إسرائيل جزء من المنطقة المفترض أن يقوم فيها التعاون، وهو بذلك يهرب من نقاش ودراسة أهم عامل في صياغة العلاقات في منطقة الشرق الأوسط، فهل ستقف إسرائيل مكتوفة اليدين أمام قيام منظومة متماسكة تستثنيها، وهي التي تعمل دوماً من أجل شرق أوسط جديد تكون هي الرائدة فيه. تجدر الإشارة هنا إلى أن بول سالم أخفق أيضاً بشكل جزئي في استبعاد دور مصر في المنطقة والتي ترى نفسها كمنافس لقيادة المنطقة، فصحيح أن مصر تقع خارج المنطقة الشرقية، لكن من المهم الإجابة على تساؤل: هل ستقف مصر متفرجة على قيام تعاون إقليمي بقيادة إيرانية أو سعودية أو تركية؟
يبدأ بول سالم من حيث انهار النظام العراقي في العام 2003، ليقول: أن العراق تحول من حاجز أمام تركيا وإيران إلى ساحة للصراعات الإقليمية، مشيراً إلى الشعور المتبادل بالتهديد من قبل إيران والدول العربية، والصراعات بالوكالة التي نشأت في العراق، والتخوف التركي من وضع الأكراد، وشعور الغرب بأن مصالحه مهددة في المنطقة. بول سالم يقول أن أميركا انتخبت أوباما الراغب في الانسحاب التدريجي من العراق، لكنه سيترك خلفه بيئة متوترة، وهذا ما قد يقنع جميع الأطراف أن التعاون هو الخيار الأمثل لتجنب الصراعات والحفاظ على المصالح، في ظل شعور الجميع بالتهديد.
بول سالم يحاول إسقاط التجربة الأوروبية على المنطقة الشرقية في الشرق الأوسط، فالصراعات التي شهدتها أوروبا والتنافس الحاد بين أقطابه قاد الدول الأوروبية إلى التعاون الذي تطور تدريجياً من معاهدة الفحم والصلب إلى الإتحاد الأوروبي. مؤكداً على أن التخوفات الأمنية في المنطقة قد تجد في المصلحة الإقتصادية المشتركة عامل مساعد في توفير نوع من الاستقرار والتعاون الذي قد يقضي مستقبلاً على تلك التخوفات. هنا يغفل بول سالم أن طبيعة الخلافات في منطقة الشرق الأوسط ليست مجرد خلافات أمنية أو صراعات نفوذ وإنما مرتبطة أيضا بعوامل أيدولوجية، وهو ما يجعل أي محاولة للتعاون الإقليمي تقف عند هذا الحاجز. أما أوروبياً، فقد كان الواقع مختلف فالإتحاد الأوروبي اعتبر نادياً للدول المسيحية التي تبنت العلمانية كنظام حياة، وحين أصبح الحديث متاحاً عن إمكانية انضمام تركيا للإتحاد كدولة مسلمة، وضعت الكثير من القوى عقبات مختلفة امامها.
عموماً، فإن تقسيم بول سالم لخيارات التعاون في المنطقة يدعم موقفي المشكك بصلاحية إسقاط التجربة الأوروبية على الشرق الأوسط، فقد أشار إلى ثلاث رؤى لشكل التعاون في المنطقة:
• الرؤية الإيرانية، تريدها منطقة مقاومة للهيمنة الخارجية وبقيادتها وتبرر ذلك بامتلاكها للقوة.
• الرؤية السعودية، تريدها منطقة منفتحة على الخارج بقيادتها.
• الرؤية التركية، تريدها منطقة أقل أيدولوجية قائمة على المصلحة الأمنية والاقتصادية.
ويتضح من الرؤى الثلاث أن مسألة التقسيم تعتمد بشكل مستتر على خلفية أيدولوجية، بين الشيعة في إيران والسنة في السعودية، والعلمانية التركية.
ينتقل بول سالم لنقاش الخلفية التاريخية للعلاقات في المنطقة الشرقية، ومن ثم تجارب الوحدة والتكامل في المنطقة، مثل مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية وغيرها، مشيراً إلى تاريخ الخلافات العربية التركية وتحسنها خاصة بعد بروز حزب العدالة والتنمية، مغفلاً أن سبباً آخر ربما أكثر أهمية في توجه تركيا نحو الشرق مجدداً وهو عدم انضمامها للإتحاد الأوروبي حتى اللحظة. على أية حال، فإن سالم يعتبر أن وجود تركيا ضمن معادلة المنطقة الشرقية قد يعزز التعاون، وهذا يعود إلى التخوف العربي من نفوذ إيران في المنطقة مقارنة بالدول العربية، فحين تنضم تركيا إلى هذه المنظمة فإنها سترجح كفة الدول السنية، وتخفف من حدة الشعور بالتهديد، خاصة في ظل قوة تركيا واحتفاظها بعلاقات مميزة مع إيران، أو كما أسماها سالم علاقات محايدة. قد يكون طرحه منطقياً في حالة واحدة، إذا كانت تركيا ترغب أن تكون لاعباً في هذه المنطقة تحت المظلة العربية، وهذا برأيي افتراض يصعب الدفاع عنه، في ظل المؤشرات التي تظهر من السياسة الخارجية التركية الحالية، فخطابها السياسي تجاوز سقف الخطاب العربي.
يرى سالم أن مخاطر استقرار المنطقة الشرقية تنبع من مصدرين، هما مصير العراق والمشروع النووي الإيراني، فهو يرى أن الاستمرار في الموقف الإيراني المتشدد قد يدفع أميركا وإسرائيل لضرب إيران، وهذا لن ينهي إيران وإنما قد يعزز التيار المتشدد فيها ويعطل إمكانية التعاون. كما يرى أن تفكك الدولة العراقية قد يدفع تركيا للتدخل خوفاً من قيام دولة كردية، والسعودية لدعم السنة وإيران لدعم الشيعة، بما قد يؤثر على التعاون أيضاً، وهنا لا بد من القول أن تدخل هذه الدول سيكون سبباً في التفكك لا نتيجة لها، على عكس ما يقول سالم. فالصراعات الداخلية في العراق هي صراعات بالوكالة وهذا ما لم ينكره سالم في بداية دراسته.
بعد هذا النقاش لواقع المنطقة الشرقية، خرج سالم بثلاث سيناريوهات لمستقبل المنطقة:
الأول: استمرار الوضع على ما هو عليه، وهو الأرجح كما يقول.
الثاني: تدهو أمني كبير، وهو احتمال ممكن.
الثالث: بناء التعاون في المنطقة وهو أقل احتمالاً.
ووفقاً لذلك فإن بول عجز عن تعزيز افتراضه بإمكانية بناء التعاون، فقد رجح بقاء الوضع على ما هو عليه، لكنه حين تحدث عن السيناريو الأقل احتمالاً وهو التعاون، لم يوضح ملامح هذا التعاون ولمن ستكون الريادة وفقاً للخيارات الثلاثة التي طرحها، التركية والسعودية والإيرانية.
من الملاحظات الهامة التي يجدر طرحها أيضاً بعد الاطلاع على دراسة بول سالم، أن هناك تجاهلاً لدور الشعوب في تحقيق التعاون، فالمسألة ليست مجرد اتفاقيات تعاون بين دول المنطقة، وإنما بحاجة إلى استقراء دور الشارع ومعرفة آليات توجيهه نحو التعاون. الخلاف في المنطقة الشرقية التي تحدث عنها سالم خصوصاً ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، تجاوز الخلاف النخبوي بين الأنظمة ليصل إلى المستوى الشعبي، بحيث خلقت ثقافة سياسية فيها نوع من التنافر بل وصل حد الصراع المذهبي والطائفي والسياسي. ومثال ذلك أن اتفاقية سلام موقعة بين إسرائيل ومصر منذ أكثر من 30 عاماً لم تنجح في إتاحة الفرصة لسائح إسرائيلي واحد أن يتجول في أحياء القاهرة معرفا نفسه كإسرائيلي، وإن عُرفت هويته اضطر لحماية أمنية خاصة.
• كاتب ومحلل سياسي فلسطيني- كوالالمبور
"حقوق النشر محفوظة لموقع "قاوم"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"
التعليقات (0)