مواضيع اليوم

قراءة في كتاب : الخرافة ووأد العقلانية

حسن الزوام

2009-12-01 08:26:10

0

 

 

قراءة في كتاب : الخرافة ووأد العقلانية

 

ـ الكتاب: الخرافة ووأد العقلانية (محطات في الثقافة والسياسية والحياة).‏

ـ المؤلف: د.محمد خلف الجراد.‏

ـ الناشر: دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع (دمشق 2008 ـ الطبعة الأولى).‏

 

 

في حقبة يتهاوى فيها الحضور الفاعل للمثقف العربي، بل وتتحول قطاعات واسعة من النخب العربية، إلى المطارح السلبية المعاكسة والمناقضة للدور التاريخي، الذي يشكل شرطها لمطابقة موقعها مع دورها وسلوكها (وممارستها)، تصبح تلك النخب مصدراً إضافياً جديداً وخطيراً لتعميق الأزمة التي تنهش الحياة العربية على الصعد كافة، ويكون التسارع في الانهيار هو النتيجة الطبيعية لارتدادها وتحجرها، أي إنها تصبح أداة إنتاج للأزمة، لا قوة فعل تعمل على الخروج منها وتجاوزها.‏

النقد العلمي والجريء لمظاهر التردي والسقوط وإنتاج الأفكار التي تسهم بتجسيد إرادة النهوض، بدءاً من وضع حد للارتداد والتدهور، هي من الواجبات ـ السهلة الممتنعة ـ التي تعد دلالة، من جملة دلالات ـ أخرى، على مصداقية المثقف في انتمائه لقضية شعبه وبلاده.‏

الفكر النقدي خطاباته متعددة ومتباينة، وإذا كان الخطاب النظري التجريدي يعد بمنهجيته حاضنة هامة لبلورة مشروع النهوض والتغيير، إلا أن النقد من خلال الخطاب المواجه للظواهر اليومية الدالة على الأوضاع السلبية، والداعي إلى استئصالها من حياتنا، ربما يشكل التربة الصالحة والضرورية للمشروع النظري للنهوض والتغيير.‏

الظواهر التي تناولها د.محمد خلف الجراد في كتابه (الخرافة ووأد العقلانية)، هي من عيار يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، خاصة وأن موضوعات الكتاب هي عبارة عن مقالات في الصحافة اليومية، غير أن التقاط الكاتب لها، وتناولها نقدياً، ثم طرحه لسبل إبعادها عن سلوكنا، ودعوته للارتقاء بسلوكنا لإقصائها من حياتنا، هو أمر يفضي بالقارئ الحصيف، الممتلك قسطاً من بعد النظر، إلى الوقوف على معاني عميقة وجوهرية، تبدأ بالإنسان الفرد وقيمه وأخلاقه، ثم تنفتح بكل يسر وسلاسة على الجماعة (المثقفين ـ المواطنين ـ المؤسسات ـ المبدعين).‏

وإذا كانت طبيعة الكتاب(مجموعة مقالات يومية ـ تقارب الأربعين عنواناً).‏

تناولها الكاتب بلغة بسيطة خالية من التعقيد والتجريد، إلا أن منهجه في إبداء مقارباته للمشكلات التي طرحها، يظهر ملكات ثقافية ومعرفية وأدبية وتراثية، شكلت إغناء للأفكار، وفتحت بوابات رحبة للتواصل الحميم مع المتلقي.‏

المشكلات والظواهر التي انطوت عليها العناوين،كثيرة، ومتنوعة، ثقافية، وسلوكية، وأخلاقية، لكنها في مضمونها ودلالاتها، تحيلنا إلى البحث عن آفاق واسعة، نغادر معها حالة التخثر، ونتجاوز في مسارها أمراض التخلف والفوات.‏

مشكلة العقل العربي، التي نقرؤها في الموضوع الأول في الكتاب، تحت عنوان: وأد العقلانية، يجري الدخول إليها تحت عناوين أخرى مثل: متى نحتكم إلى العقل، ليكون الخطاب موجهاً هنا، ليس لنقد دعاة تجريم العقل لحماية الإيمان الديني، كما هو موضوع العنوان الأول، إنما أيضاً إلى حالة تنتشر كثيراً هذه الأيام يسميها الكاتب (الإقصاء) ونضيف: إن هذه بعينها رافعة الاستبداد والتحجر. "فالانفتاح الفكري والثقافي... هي سمات الشعوب والمجتمعات الحضارية، التي لا تخشى من غزو العقول والثقافات والقيم". ثمة عقلانية ضرورية في السياسة، يؤسس رأيه الكاتب نحوها بنقده لطغيان اللا عقلانية والانفعالية في الخطاب السياسي العربي المعاصر، ويحذر في هذا المجال من غياب العقلانية والتوازن والديمقراطية والعدالة والاجتماعية عن القرارات السياسية الخاصة بإدارة شؤون المجتمعات، ويدعو إلى "التحرر من سلطة العقل المغلق،عقل العشيرة والطائفة والجماعة الخاصة، ومن جمود الفكر ودوغماتية الأيديولوجيا بمختلف عناوينها ومسمياتها".‏

تحت عنوان: الجهل المتنامي والعمل التنويري الغائب، يدخل المؤلف إلى زوايا مظلمة تعممها قنوات فضائية عديدة، تنشر الجهل عبر ما يدعى فتاوى رجال الدين.‏

منها مثلاً فتوى تآخي المرأة الموظفة مع زميلها، بإرضاعه أربع مرات حتى الشبع، حتى يحل لهما العمل معاً في غرفة واحدة!! أو تبريك ماء وضوء أحد الشيوخ لمريديه إن شربوه، وشفائهم من الأمراض، بل وبعضهم أبدى استعداده للعق حبات عرقه وقطرات بوله.‏

الظاهرة الثانية التي تدور حولها بعض العناوين، مسألة القيم والأخلاق، والعناوين ذات الصلة بهذه المسألة كثيرة. (الثقة ـ آفة مزمنة ـ المفسدون في الثقافة ـ بين منطقين ـ خطوات بسيطة لحياة رائعة ـ هل فقدنا فضيلة الوفاء ـ مدمنو النفاق ـ من يجرؤ على الاعتراف ـ هل نقدر على التسامح فعلاً ـ الشخص المناسب للصداقة ـ بعوض ومزمار ـ ترياق مجرب ـ رسالة ابن العصر ونصائحه الذهبية) ـ ولعل ما انطوى عليه العنوان الأخير، رسالة... فيه تكثيف للظاهرة وإصرار الكاتب على القيم الإنسانية والأخلاق. أحد القراء يصف الكاتب بعد قراءة مجموعة من مقالاته، بالطوباوي والمثالي الساذج، والسياسي الفاشل.... وأوصاف أخرى، إضافة للشتائم، وجاء ذلك برسالة من القارئ المذكور (أكيد أنه ليس قارئاً عادياً؟!)، ويختم رسالته التعليمية والتوجيهية، بنصائح للدكتور جراد، منها: «تتطلب السياسة قدرة على اللعب بالمظاهر ولهذا عليك أن ترتدي أقنعة كثيرة، وأن تحتفظ بحقيبة ملأى بالحيل الخادعة. ويجب عدم النظر للمخادعة وارتداء الأقنعة كأشياء قبيحة أو غير أخلاقية. كما يتوهم الأغبياء في السياسة، لأن جميع أشكال التفاعل الإنساني تتطلب الخداع على مستويات كثيرة، وإن ما يفصل البشر والناس الأذكياء عن الحيوانات والأشخاص الأغبياء هو قدرتنا على الكذب والخداع» والنصيحة الثانية يقول فيها ابن العصر: «عليك ألا تسقط في فخ معادلة الخير والشر، وإن أخطر شيء على الإنسان العملي أن يلتزم بما يسمى الأحكام والمبادئ الأخلاقية، التي هي في الحقيقة أسطورة أو ذريعة يتمسك بها الفاشلون والخائفون والخائبون والمترددون...».‏

إن ما انطوت عليه مقالات المؤلف من نقد مباشر للخواء الروحي والأخلاقي، ومن استغلال للموقع، ومن نفاق ورياء، ومن استعداد لتغيير المواقف من أجل مصالح وضيعة... الخ ما هنالك من مظاهر الفساد والسقوط، لابد أن تستفز أولئك المنغمسين حتى أنوفهم في الممارسات «الذكية والمناسبة للعصر»‏

الظاهرة الثالثة التي تناولتها بعض العناوين، تتصل بالشأن الثقافي والسياسي العام. وأهمها ما دار حول الاستشراق والعلاقة مع ثقافة الآخر، وأم العناوين في هذا المجال هي (صوت أمريكي شريف ـ إلى متى نظل نشوه صورتنا بأيدينا ـ الإساءة لإسلام ـ قوة الدول وهشاشتها ـ شخصية أمريكية تستحق الإعجاب).‏

يتناول الكاتب هذه القضية بمنهج تفكير ينأى عن ترذيل الاستشراق، حيث البعض يضعه في سلة واحدة. فهو يثمن أفكار عدد من المفكرين الغربيين، وينتقد آخرين، وفي معالجته للمسألة ينفذ إلى تقصير المثقفين العرب والمؤسسات البحثية، في مد جسور التواصل مع المفكرين المؤيدين للقضايا التحررية المشروعة، أو في الرد العقلاني المقنع على من يقدم طروحات زائفة نحو القضايا العربية. فحتى، والآخر (جزء منه بالطبع)، يرتكب الإساءة بحق تاريخنا ورموزنا وتراثنا "يجب ألا يدفعنا أبداً إلى المواقف الأقصوية المتطرفة وردود الفعل، التي تواجه الأخطاء بالأخطاء، والإساءة بالإساءة... وإنما يجب أن يقود العرب والمسلمين إلى العمل الجماعي المنظم، القائم على دراسة الظاهرة".‏

جسد خلف الجراد، في أكثر من موقع، داخل مقالاته، انسجامه مع ما يطرحه وما يدعو إليه، فهو كمثقف يدعو إلى الاعتراف بالخطأ، وممارسة نقد الذات، وقبول النقد من الآخر، فقدم نموذجاً شخصياً على هذا الصعيد.‏

مقالته المعنونة (نقد مثمر) تدور حول حوار له مع صديق عن العقلية الخرافية وتنمية التخلف، التي كتب عنها مقالاً منشوراً في الكتاب. والمقالة تفصح دون مواربة عن صحة الرأي الآخر في الحوار. وفي مقالته (نصيحة مخلصة من أستاذ جليل) يشير عليه تغيير أسلوب السجال على صفحات الجريدة، والابتعاد عن الكلمات الساخرة، في الرد على بعض من شنوا هجمات على ما جاء في مقالاته. أيضاً جاء في مقالة (هل نقدر على التسامح فعلاً؟!) مايبين استعداد الكاتب لنقد تجربته في الحياة، وسعيه للتعلم من نواقصها وأخطائها، فهو يقول: «أعترف أنني شخصياً كنت في بدايات حياتي العملية لا أتحمل النقد أو ما أعتقده تجريحاً مقصوداً أو إساءة متعمدة.».‏

موضوعات الكتاب عموماً، يربطها هم عام متعدد المناحي، وتدعو إلى العقلانية في التفكير، وإلى الأخلاق في الحياة وفي السياسية، وإلى احترام الآخر وقبول التعدد والتنوع. وخلف الأفكار الواردة فيه تشف الروح الإنسانية الصادقة للكاتب، فضلاً عن سعة المعرفة والاطلاع.‏

ثمة سؤال أخير، وبكل الود أوجه للدكتور الجراد، ليس على ما جاء في موضوعات الكتاب، إنما على ما أعتقده غياباً عنه، وهو الشأن الإنساني الثقافي والواقعي لحياة المرأة، ومشكلاتها في بلادنا، وكما يقول فورييه: درجة تقدم المجتمع تقاس بمستوى تحرر المرأة.‏

 

منشورات الطليعة العربية في تونس

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !