قراءة في كتاب "العربية والأمن اللغوي" د. زهير غازي زاهد
المدخل:
يتناول كتاب العربية والأمن اللغوي لمؤلفه العراقي الدكتور زهير غازي زاهد قضية في غاية الأهمية وهي الأمن اللغوي في الوطن العربي.
ففي هذا البحث سنخص بالحديث عن كتاب (العربية والأمن اللغوي)، فقد وصف احد الباحثين هذا الكتاب فذكر انه انتظم مواضيع متنوعة في اللغة العربية ابتداء من وظيفتها وانتهاء بوصفها هوية وحضارة، مرورا بالتحديات التي واجهتها ومشاكل الإملاء والإعراب وجهود علمائها في إصلاح النحو العربي مع وضع الحلول المناسبة لمشاكل المصطلح اللغوي واللهجات ومراعاة الفصاحة، وذلك في أسلوب وصفي تاريخي نابع من أن الاستعمال اللغوي وظيفة المتكلم أولا وهو أمر يفضي الى متابعة هذا المتكلم واستعماله للغة بصورة تباعد بينه وبين الاستعمال الخاطئ أو المجرد من الغرض الذي وجدت من اجله اللغة 2.
درس الدكتور زهير غازي زاهد موضوعات عدة فبتدأ بتعريف اللغة عند ابن جني ودي سوسير وناقش تعريفهما للغة مناقشة علمية ثم انتقل الى بيان خصائص اللغة عند علماء الاجتماع فذكر أن اللغة (( اتسعت فشملت آفاقا أخرى حين اتسعت مدارك المجتمع وعاش غي مراحل رقي حضاري فكانت لديه لغة علمية ولغة فنون وآداب فالنظام اللغوي من النظم القابلة للاتساع والخلق ))3 وبهذا يؤيد ما ذهب إليه الدكتور تمام حسان من أن (( إغفال العنصر الاجتماعي في اللغة يحرم الدراسة من أقوى خصائص هذا الموضوع المدروس ))4، ثم أوضح وظيفة اللغة في العصر الحديث وأهميتها في المجتمع فذكر أن اللغة أصبحت هوية الأمة التي تتكلم بها وحضارتها فضلا عن كونها رابطة لسانية تربط أجزاءها وتشعرهم بانتمائهم5. ثم تناول موضوع اختلاف الألسنة واللغات، فأوضح أن اختلاف الألسنة في القران الكريم من آيات الخالق وحكمته ؛ لكن الإنسان جلب على نفسه الشرور بتحرك نزعة السيطرة في نفسه فكانت اللغة احد أسباب الخلاف والصراع قديما وحديثا بين البشر6.
ثم عرض موضوع أن العربية بين لغات التعامل الدولية التي اتخذتها منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة في إطار التعامل الدولي (لغات العمل) وهذه اللغات: العربية، والانكليزية، والفرنسية، والروسية، والصينية، والاسبانية 7.
ثم انتقل الى موضوع أن العربية لغة متطورة ذاكرا أن العربية تتصف بصفتين: القدم والسعة، فهي أقدم لغة بقيت مستعملة حية حتى هذا اليوم ، أما سعتها فيما وصل إلينا من موادها ومعاجيمها وموسوعاتها وبيّن أن العربية لغة متطورة فهي لم تقف عاجزة في استيعاب عصور الحياة وأجيال من المجتمع إنما ظلت لغة الخطاب والأدب والعلوم فوصفها أنها كالبحر الذي تصب فيه ما يتصل به من لهجات لكن البحر يبقى على عمقه ونظامه 8.
ثم درس موضوع العربية ومواجهة التحديات فأوضح أن أول عمل لغوي واجهت به العربية موجة اللحن والاختلاط اللغوي،مبينا أن انتشار اللغة خارج موطنها الأصلي يكون له صفتان: الأولى: تطور اللغة باحتكاكها ببيئة اللغات الأخرى ويحدث هنا التأثير والتأثر. وأما الصفة الأخرى فهي ظهور الوسائل التي تحفظ اللغة وتوفر أمنها في السن الناطقين بها. وعرض ما واجهته اللغة العربية خلال العصور ابتداء من القرن الثاني حتى العصر الحديث بأسلوب وصفي تاريخي 9، ثم خصص موضوعا تناول فيه ما وجّه للعربية من اتهامات وحددها بالنقاط الآتية 10:
1. قصورها عن استيعاب علوم العصر.
2. صعوبة نحوها وصرفها وصعوبة تعليمها.
3. قضية الكتابة (الإملاء،والحرف).
وأوضح انه لابد أن تكون هناك سبل وجهود مبذولة في مواجهة هذه التهم، وتكون هذه الجهود على وفق ما يأتي 11:
أولا: توسيع آفاق اللغة لاستيعاب التقدم العلمي والأدبي والحضاري.
وذكر أن توسيع اللغة العربية يحتاج الى مضاعفة الجهد في ثلاثة مجالات مهمة ؛ لتكون قادرة على استيعاب التقدم العلمي والأدبي والحضاري، وهي 12:
أ- إيجاد المصطلح المناسب في مجال العلوم والآداب وتوحيده بطريق استعمال البديل العربي من المعجم العربي أو التعريب.
ب- الترجمة من اللغات الأخرى سواء في ذلك ترجمة الكتب العلمية أم الأدبية.
ت- تأليف المعجمات المختلفة والمناسبة للمراحل الدراسية أو التخصصات العلمية والأدبية.
ثانيا: الجهود في الإصلاح النحوي 13.
ثالثا: الجهود في الإصلاح الكتابة14.
ثم انتقل الى موضوع الإعلام والعولمة والأمن اللغوي، فتناول موقف الإعلام ومؤسساته والعولمة من اللغة العربية فبيّن أن العربية بحاجة الى تخطيط لغوي وسياسة لغوية موحّدة، وتحصين النظام التربوي، وتعزيز الثقافة العربية من خلال تعزيز حقوق الإنسان العربي وصون صوته ولغته لغة القران الكريم والحضارة 15. ثم تناول موضوع العربية هوية وحضارة بعد إن استرسل في الكلام عن هذا الموضوع ذكر أن العربية محتاجة الى التنسيق والحويّة والتحديث قي مجالات16:
• التعليم في كل مراحله ومستوياته.
• الإعلام في كل مجالاته المرئية والمسموعة والمكتوبة.
• الترجمة والتعريب فهما افقان مهمان لاستيعاب الجديد وإشاعته باللسان العربي والقصور فيهما واضح.
وفي هذا البحث سألقي الضوء حول الوسائل التي تحقق الأمن اللغوي للغة العربية التي أوضحها الدكتور زهير غازي زاهد في كتابه هذا.
أقول إن هذه الوسائل لو تحققت لأصبحت دعامة قوية لحماية سلامة اللغة العربية وأمنها وبالتالي تؤدي الى حفاظ لغة أفضل الكتب السماوية وهو(القران الكريم )،وهذه الوسائل هي:
أ- السياسة اللغوية الموحدة:
إن العرب في مرحلتنا المعاصرة أخفقوا في تحقيق الوحدة الوطنية في المجال السياسي والاقتصادي أو الوقوف في القضايا المصيرية، فينبغي لهم -في الأقل- أن يجدّوا في الحفاظ على وحدة لسانهم بلغتهم الفصيحة، وذكر الدكتور زهير غازي زاهد أن اللغة أهم مقوّم من مقوّمات الدولة الحديثة، فهذه البلبلة اللسانية في الوطن العربي والفوضى في استعمال اللغة - في أخطر أماكنها التعليم والتعلّم، ثم وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية- تحتّمان الوقفةَ الجادّة من علماء اللغة والمثقفين والمؤسسات على اختلافها أن تكون واعية للخطر المرعب الذي يجتاح وطننا وألسنتنا17، فضلا عن أن هناك مشروعات خطيرة منها: استبعاد اللغة العربية من بين اللغات العالمية في هيأة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، ومشروع تشجيع اللهجات العامية في الوطن العربي، ومشروع تعليم مواد المعرفة باللغة الانكليزية في المدارس الخاصة والجامعات الخاصة في دول الخليج العربي، ومشروع اتهام اللغة العربية بالصعوبة وعدم مواكبة روح العصر واستيعاب العلوم المعاصرة، والدعوات التي تهاجم عمود الشعر العربي وتخليص المناهج منه ووضع الشعر الحديث مكانه في الكتب المدرسية18
ومن اجل الوقوف ضد هذه المشروعات والدعوات الخطيرة فقد دعا الدكتور زهير غازي زاهد الى تخطيط لغوي قائم على نطاق الجامعة العربية ومؤسساتها بمساعدة المؤسسات اللغوية والجامعات، موضحا أن التّخطيط اللغوي ينبغي أن يكون شاملاً لا جزئياً، يكون في مجال التعليم على اختلاف مراحله، ثم على نطاق الإعلام ووسائله، ثم على نطاق الإدارة وأجهزتها، ثم على نطاق الجامعات والتعليم العالي، ثم على نطاق اتّحادات الأدباء والمعلمين والنقابات المختلفة، وهذا التخطيط يشرف عليه علماء قديرون يعملون بروح الإيثار، لا التحيز إلى أي شكل من أشكال الفرقة التي تنخر الأمم وتفرِّقها؛ لأن الخطر لا يفرِّق بين قطر وقطر ولا بين طائفة وطائفة، إنما الجميع تحت حدِّ السيف سواء، وقوة الأمة ورفعتها فخر للجميع19. وأشاد بقوانين أو قرارات التي صدرت في أقطار عربية دعت إلى العمل على سلامة العربية كقانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية في العراق سنة 1977، وما صدر من قرارات بهذا الخصوص في تونس وليبيا، وقانون التعريب في الجزائر، غير أنه ذكر أنها تبقى جزئية من جهة ومقصورة على ذلك القطر من جهة أخرى، ثم هي محدودة التنفيذ لحاجتها إلى الوسائل المناسبة لتطبيقها تطبيقاً شاملاً، هذا إذا لم تكن الأحداث قد غطّت عليها ونسيتها20. فالتخطيط اللغوي عند الدكتور زهير غازي زاهد هو أن تسري اللغة وإصلاحها والجهود في ذلك سيراً متوازياً في كل مجالات الحياة العلمية والأدبية واليومية، وعلى جميع مجالات ممارستها في وسائل النشر وقاعات الدرس والبيت والسوق ومكاتب الدوائر الرسمية... الخ من اجل تحقيق الغرض المنشود21. أي أن يكون التخطيط شاملا في كل مجالات الحياة ويجب أن يكون هناك إصلاحات لغوية شاملة ليست محددة بقطر معين.
وذكر الدكتور زهير غازي زاهد أن بداية العناية بالتخطيط اللغوي على المستوى العربي والإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية كان في أثناء عمل المعجم العسكري العربي الموحّد، واتخذت شكلاً محدّداً بإنشاء مكتب تنسيق التعريب، موضحا أن هذه البدايات لم تتّسع ولم تتّخذ الخطة اللغوية الشاملة، ثم كان تفكير في وضع خطّة لغوية شاملة في الفترة القصيرة من عمر اتّحادات الجمهوريات العربية 1973، وقد اقترحت مصر وضع مخطط تُلزم به الأقطار العربية وفي مقدمتها دول الاتّحاد لنشر الفصيحة السهلة الميسّرة وتعميم استعمالها. وقد تناول التّخطيط استعمال الفصيحة في المؤسسات التعليمية والثقافية ومؤسسات الاتصال الجماهيري والسينما والمسرح والندوات والمحاضرات... الخ، مشيرا الى أن هذا التَّخطيط لا يقتصر على النوايا الحسنة، ولا هو أمل أو رغبة أو قرار سياسي أو صياغة مقترحات ووضع مصطلحات فقط، فلا قيمة للمصطلحات إذا لم تُستعمل في المجالات التي أُعدَّت لها، وفي الوقت نفسه ينبغي أن تكون التّوعية اللغوية مكوّنة للمناخ المناسب لتلقي هذه المصطلحات 22.
وموضحا انه يجب أن يكون التّخطيط اللغوي (( لنشر عربية سليمة على ألسن الناطقين بها، لا نقصد الوقوف في وجه تعلّم اللغات الحية، فإن إلمام المثقف العربي بلغة حية أو أكثر صار ذا أهمية كبيرة في هذا العصر الذي تتسارع فيه خطى العلم والأدب في مختلف مجالاتهما، إنما نريد المحافظة على وحدة العربية وفصاحتها على ألسن الناطقين بها باعتبارها لغة عقيدة وحضارة واسعة والعمل على تطويرها بالوسائل الحضارية))23.
ويتضح مما عرضه المؤلف أن التخطيط اللغوي والسياسة اللغوية الموحّدة في عموم الوطن العربي هما الغاية المنشودة لتحقيق الأمن اللغوي للغة العربية.
ويجب أن يكون هناك سياسة لغوية موحدة تعمل على تحديد الموقف من24:
اللغات الأجنبية في المنظومة التربوية، أزلة الأوهام من صعوبة اللغة العربية في نفوس أبائنا وفي أذهان الأجانب الراغبين في تعلمها، تفعيل الترجمة من اللغة العربية الى غيرها من اللغات، ومن الأجنبية الى العربية، والوقوف من العامية والشعر النبطي، وعدم السماح للعاملين على الأرض العربية بالعمل إلا إذا خضعوا لدورات تعليم اللغة العربية فضلا عن إلزام الشركات والمصانع الأجنبية التي نتعامل معها على ترجمة الأسماء كل السلع والبضائع وما يتعلق بها من كتابات ودعايات وتوضيحات الى اللغة العربية قبل توريدها وإدخالها الى الأسواق، ووضع اللغة العربية في فروع الجامعات الخاصة الأجنبية على الأرض العربية.
ب- العمل الجادّ لتعريب التعليم والعلوم المختلفة وتدريسها في مراحل التعليم قبل الجامعة ثم المراحل العليا:
يرتبط التعريب بالترجمة لأنهما يتعلقان بنقل العلوم الأجنبية إلى اللغة العربية. فالتعريب ظاهرة من ظواهر التقاء اللغات بالتقاء أهلها بطريقة مباشرة كالحرب والاحتلال والدراسة والترحال والتجاور أو غير مباشرة كالإعلام والتجارة والاتصال بوسائل حديثة كالهاتف والشبكة الدولية للمعلومات. والتعريب يعني استعمال اللغة العربية في مختلف فروع المعرفة كلاما وكتابة , دراسة وتدريسا , وبحثا وترجمة وتأليفا25.
أوضح الدكتور زهير غازي زاهد أن العربية صلحت في العصور الماضية لاستيعاب التغيير والجديد فيها، ففي العصر الإسلامي استوعبت التغييرات الجديدة في المجتمع والفكر والعقيدة، ثم امتدّت إلى أمم أخرى تقبلتها وتعلمتها راضية، وفي العصر الأموي صلحت لتعريب الدواوين وتنظيم الإدارة وقضايا المجتمع عامة، وقد أفادت من تجارب الأمم الأخرى الرومية والفارسية والهندية، وفي العصر العباسي نجد العربية تتّسع لكل المستجدّات من العلوم والفلسفة والأدب وظهور المصطلحات المعرَّبة أو العربية عن طريق الاشتقاق أو القياس أو التعريب أو النحت أو الاقتراض بعد ترويضها وجعلها منسجمة مع نظام العربية، وظهرت كذلك الأساليب الجديدة في الاستعمال على ألسن الشعراء وأقلام الكتَّاب والخطباء26. ويتضح من ذلك أن العربية غير قاصرة في استيعاب التغيير والجديد في العصور.
مؤكدا أنه من وسائل الأمن اللغوي العمل الجادّ لتعريب التعليم والعلوم المختلفة وتدريسها في مراحل التعليم قبل الجامعة ثم المراحل العليا. فأشاد بتجربة الجامعات في القطر السوري بتدريس علوم الطب والكيمياء والرياضيات الحديثة والفيزياء والجيولوجيا وعلوم الذرة والفضاء والطب النووي والصناعات الكيماوية والهندسة وعمليات القلب المفتوح وغيرها بلغة عربية خالصة لم تقلل من شأن أي متخصص في هذه العلوم، وكذلك ذكر مثالاً في اللغات المحدودة نسبة إلى العربية تُدرّس بها العلوم المختلفة في مدارسها وجامعاتها وتستعملها في كل جوانب حياتها في بولندا والمجر والدانمارك ورومانيا والسويد والنرويج وبلغاريا27، ومن خلال ما عرضه أوضح أن العربية غير قاصرة في استيعاب العلوم وحضارة العصر ، إنما القاصر عن التقدّم هم أهلها والناطقون بها28.
وكذلك لا ننسى دور مجامع اللغة العربية في التشجيع على التعريب حيث رأى مجمع اللغة العربية في القاهرة أن (( للتعريب في عصرنا الحديث فوائد تتلخص في غنى اللغة بذخيرة من الكلمات التي تعبر عن كل ظلال المعاني الإنسانية, كما أنه يمدنا بفيض من المصطلحات العلمية الحديثة التي لا نستغني عنها في نهضتنا العلمية ))29، فضلا عن عقد العديد من المؤتمرات والندوات ومنه المؤتمر العاشر للتعريب الذي عُقد في دمشق برعاية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تحت شعار ( قضايا تعريب التعليم العالي في الوطن العربي ) في 2002م، حيث خرج المؤتمر بمجموعة من التوصيات منها (( الحرص على احتواء كل كتاب علمي منهجي على مسرد أجنبي عربي وعربي أجنبي يضم كل المصطلحات العلمية الواردة فيه, ووضع الكتب العربية التي طبقت التعريب بين يدي الجامعات والمؤسسات, ودعم الطباعة المعجمية وأبحاثها ومشروعاتها التي تخدم قضية التعريب كمشروع الذخيرة اللغوية ومشروع المعجم الصحفي العربي المعاصر ومشروع يقيس المصطلح وغيرها من المشروعات المعجمية ))30.
ج- المصطلح- وضعه وتوحيده:
دعا الدكتور زهير غازي زاهد الى توحيد المصطلح في الاستعمال ؛ لأنه يزيده أهمية ويضعف من البلبلة اللسانية في الاستعمال ثم الفهم على نطاق الدلالة، ولا يتحقّق هذا إلاّ من خلال التخطيط اللغوي وقرار السياسة اللغوية الموحدة على نطاق الوطن العربي31. أي إن تعريب المصطلحات وتوحيدها سيحافظ على الأمن اللغوي العربي.
ومبينا أن انعدام التخطيط في الوطن العربي انعكس على الاستعمال اللغوي للمصطلحات الحديثة خاصة؛ لذا ظهرت الفوضى المصطلحية تعمّ العربية في أقطارها العربية فتكثر التسميات للمسمّى الواحد، ويحدث الاختلاط، وأورد مثالاً لذلك: علم اللغة وفقه اللغة واللسانيات والألسنية تستعمل في كثير من الأحيان لدلالة واحدة، و الهيكلية والبنيوية والبنائية،، فضلاً عن المصطلحات في ألقاب الشهادات العلمية الجامعية والعليا كل ذلك ناتج عن غياب التخطيط32، مؤكدا أن قضية المصطلح اللغوي ينبغي لها أن لا تخضع لرؤية فردية أو حزبية أو قطرية، المهم أن يدخل الاجتهاد في ضمن الجهد الجمعي لاختيار المصطلح، فما يفيد اللغة وثبات المصطلح فيها هو الذي ينبغي له أن يشيع، والإيثار مهم في هذا المجال33.
و موضحا أن المشكلة في عدم توحيد المصطلح ترجع الى أمرين 34:
الأولى: المشكلة القائمة في مجال التعريب التي تشير إلى تقصير المؤسسات اللغوية من جهة وانعدام التخطيط اللغوي من جهة أخرى التي تتعلّق في وقت وضع المصطلح وعدم اتّخاذ الوسائل الفعَّالة لإشاعته قبل أن يشيع على ألسن الناس والدارسين، فنجد أسماء الآلات والمستحدثات الأجنبية أو المصطلحات العلمية أو الأدبية والنقدية يُقترح لها مقابلات بعد شيوعها، وما يُقترح من مقابلات تكون أحياناً متعددة غير موحدة أو لا تفي بالغرض، فتحدث البلبلة أو التندر أحياناً ببعضها الآخر. من ذلك الأسماء الآتية: (المرناة) للتلفزيون و(الخيالة) للسينما و(الطارمة) للكشك و(المذياع) للراديو و(الهاتف) للتلفون وغيرها قد وضعت بعد شيوع أسمائها الأجنبية.
والأخرى: هي عدم اتفاق المجامع والمؤسسات اللغوية على توحيد المصطلحات الموضوعة لاستعمالها في الأقطار العربية، وهذه المشكلة تجعل استعمال الاسم الأجنبي أقرب إلى الفهم من استعمال المرناة أو التلفاز للتلفزيون والخيالة والسيما للسينما وغيرها.
ومن اجل للوقوف في معالجة توحيد المصطلح دعا الدكتور زهير غازي زاهد الى اتّخاذ القرار السياسي الذي يحدّد الخطة اللغوية على مستوى الوطن العربي من خلال مؤسسات الجامعة العربية وتنفيذه بعد معالجة المصطلح عن طريق اتحاد المجامع العلمية ومكتب تنسيق التعريب35. إذن فتعريب المصطلحات وتوحيدها سيحقق الأمن اللغوي.
د- اللغة ومناهج الدراسة:
أكد الدكتور زهير غازي زاهد أن استعمال العربية لغة قومية في مراحل الدراسة التي تسبق الجامعة وتعريب موادها العلمية ومصطلحاتها، مطلب مهم وملحّ خصوصاً، في الدول التي تخلّصت من السيطرة الفرنسية ومن فرض لغتها عليها36، ثم عرض المؤتمرات والندوات التي تؤكد أن لغة التعليم اللغة العربية في المراحل الابتدائية والمتوسطة والإعدادية،وقد اتخذت القرارات والتوصيات في الاهتمام بالتعليم قبل الجامعي الذي كان موضع اهتمام المؤسسات اللغوية ثم تعريب التعليم الجامعي والعالي وتدريس العلوم بالعربية الفصيحة وتعريب المصطلح وإشاعته، وذكر أن هذه القرارات و التوصيات قد أخذت مجال التطبيق إلاّ قليلاً، فتعريب العلوم على مستوى الجامعة طبَّقته سوريا، أما في باقي الأقطار العربية فما زال متعثّراً وجلُّه ينفَّذ بلغات أجنبية، وما زال التنسيق شبه مفقود أو ضعيفاً على نطاق وزارات التربية والجامعات والمجامع اللغوية والأجهزة الإدارية وكلهم يشكو من عدم التنسيق، حتى أصبح التنسيق مشكلة من المشاكل التي تُطرح في كل المؤتمرات37.
وبيّن أن المناهج الدراسية ما زالت تفتقر إلى الدقّة من جهة وإلى الاستعانة بالخبراء المتخصصين وترك المحسوبيات في تأليف لجان المناهج، وكذلك في الجامعات فما زالت أقسام اللغة العربية تشكو من تخلّف مناهج التدريس فيها، وما زالت الكتب القديمة تقرّر ولا يُعرف غيرها إلاّ نادراً شرحاً ودرساً وقراءة، على الرغم من شيوع منهج علم اللغة التطبيقي بكل فروعه وإمكانية الإفادة منه في كل مراحل الدراسة، أما الكتب المؤلَّفة، فما زالت تشكو الفقر المنهجي، ويغلب على مؤلفيها الروح التجارية أكثر من العلمية38. داعيا الى مراجعة المناهج الدراسية مراجعة شاملة تسهم في الأمن اللغوي العربي وان تستفيد في شرح القواعد النحوية من علم اللغة التطبيقي.
وأثار الدكتور زهير غازي زاهد قضية تدريس اللغة العربية لغير الاختصاص موضحا أنها ما زالت متعثّرة وضعيفة بسبب: أنها توكل لمدرسين غير ماهرين في غالب الأحيان، أو أنها تُؤدَّى لتكملة الأنصبة دون أن تنال من العناية اللازم، ثم عدم اكتراث الطلبة في الكليات العلمية والأقسام غير المتخصصة؛ لعدم وجود الحوافز التي تشجّع على الإقبال لدراسة العربية أو لإحساس الطلبة بعدم الرِّضا أو الفائدة من هذه الدروس، فضلا عن أن المناهج لم توضع بعناية على وفق تخطيط واضح المعالم وواضح الأهداف. موضحا أن العربية لغير المتخصصين ينبغي أن تكون مفرداتها منهجاً، عامةً سهلةً تتناسب والقسم والكلية التي تُدرَّس فيها، وذكر أن التدريس غير نافع إذا كان التأكيد على تلقين القواعد النظرية، وإذا خاطب المدرِّس طلبته باللهجة الدَّارجة، بل ينبغي له أن يكثر الحوار مع الطلبة باستعمال الفصيحة المبسَّطة علاوة على المشوِّقات في المادة المعروضة، وقد تحتاج إلى وسائل الإيضاح والعروض المرئية أو الأجهزة والمختبرات اللغوية لزيادة إتقان النطق والأداء39.
من اجل تحقيق ذلك فقد أوضح أنه يحتاج الى تخطيط لغوي وتنسيق بين المؤسسات اللغوية والجامعية ووزارات التربية ومؤسسات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والإفادة من كل وسائل الإعلام المختلفة في إيصال المعلومة المقروءة والمسموعة أو المرئية بلغة فصيحة ميسَّرة، يكون بها التعليم والسينما والمسرح والندوات والمحاضرات والمؤتمرات والخطب40.
هـ- العربية والدارجات:
بيّن الدكتور زهير غازي زاهد أن أهم هدف من أهداف الإصلاح اللغوي بكل وجوهه هو التقريب بين الفصيحة واللهجات التي تنطق بها المجتمعات العربية 41.
لابد من اتخاذ الوسائل التي تضمن توحيد اللهجات وتغليب لغة فصيحة سليمة عليها، وقد حدد الشيخ محمد رضا الشبيبي وسلتين لتوحيد اللهجات هما 42: الأولى: نشر التعليم المنهجي ومكافحة الأمية، وكثرة سواد المتعلمين المدركين لمكانة اللغة من الدولة والمجتمع والقومية. والأخرى: توحيد التلفظ وإصلاح النطق على أن تقوم بذلك مراجعة فنية مختصة. وذكر الدكتور زهير غازي زاهد أن المؤسسات اللغوية والتربوية والإعلامية إذا تعاونت بدعم السلطات السياسية يمكن توحيد النطق في كل البلاد العربية ؛ بحيث إذا قرأ المصري نصّاً أدبياً يفهمه العراقي والسوري والليبي والجزائري، وأوضح أن توحيد النطق لا يعني انعدام بعض الفروق اللهجية في النبرة أو طريقة الأداء، فهذه الفروق لا يمكن أي لغة أن تسلم منها، وذكر أن هذه الفروق يتكفّلها الزمن وانتشار وسائل الاتصال والتفاهم والتداخل الاجتماعي، بحيث تذوب الفروق شيئاً فشيئاً ويسود التوحّد أو التشابه في النطق. هذا هو الهدف المنشود الذي ينبغي أن نسعى إليه لتحقيق أمن لغتنا 43.
وقد بيّن الدكتور زهير غازي زاهد أهم العوامل التي تُرفع بها الحواجز وتقرّب من لهجات اللسان العربي وهي: فتح الحدود بين أقطاره، وإلغاء الحدود والموانع التي تحول دون الاتصال والتمازج الاجتماعي، وإشاعة التعليم في أوساطه على وفق سياسة لغوية موحّدة، ورفع أجهزته الإعلامية، وتوجيه برامجه ومسلسلاته، وتشجيع العاملين فيها، وفسح المجال أمام تيار الأدب الروائي والمسرح والسينما باللغة العربية الفصيحة، والوقوف بحزم في وجه الدعوات التي تدعو لاستقلال عاميات الأقطار العربية،غير انه لم يرفض دراستها بل شجع دراستها من اجل استخلاص ما يندمج مع العربية المعاصرة عن طريق عقد المؤتمرات والمهرجانات العربية، ومن خلال هذا التمازج والتداخل اللغوي تنشأ ما اُصطلح عليها عربية عصرية لها مستواها الفصيح ومستواها الدارج، فيتّصل مستواها الفصيح في أقصاه بالفصيحة القديمة و يتّصل مستواها الدارج في أقصاه بدارجة الأميين، ذاكرا انه من الطبيعي أن يكون هذان المستويان متكاملين، فيختصّ الفصيح بالكتابة خاصة ويختصّ الدّارج بالخطاب خاصة44.
و يتضح من ذلك أن من الوسائل التي تحقق الأمن اللغوي هي تقريب العربية الفصيحة من اللهجات عن طريق التمازج والتداخل اللغوي لنخرج بعربية معاصرة لها مستويان الفصيح والدارج فضلا عن توحيد النطق في كل البلاد العربية ليكون لسانا عربيا مفهموما. وهذا ما ناشد به الدكتور زهير غازي زاهد في هذا الكتاب.
و- الاتّساع اللغوي واتّباع المرونة تجاه الجديد والشائع مع مراعاة الفصاحة:
ذكر الدكتور زهير غازي زاهد أن هناك جانبين مهمين في العمل اللغوي، أحدهما يكمّل الآخر وفي كل جانب حدث صراعات وخصومة غير أن اللغة تجاوزت ذلك فقد أخذت طريقها في التطور، وما اعتُرِضَ عليه ظلَّ مستعملاً أو أُهمِلَ على حسب تحقيقه حاجة الخطاب أو الأدب أو المعجم، وهما45:
الأول: الاتّساع اللغوي والأخذ بالجديد الذي لا يتعارض مع الفصيح ألفاظاً وأساليب.
والآخر:إتباع المرونة وعدم التعصّب تجاه اللغات أو اللهجات التي تعيش في ظل اللغة العربية الفصيحة.
أولا: الاتّساع اللغوي:
قصد الدكتور زهير غازي زاهد بهذا المفهوم دلالته الشاملة الذي تقتضيه اللغة العربية المعاصرة من السيل العاتي من المصطلحات والأساليب الجديدة، وأوضح أن هذا السيل يحتاج الى جهد لغوي لاستيعابه وترويضه في رحاب اللغة ويكون ذلك عن طريق التنمية اللغوية خصوصاً في مجال المعجم باستعمال وسائل التنمية المختلفة من الاشتقاق والترجمة والتعريب فضلا عن وسيلة الاقتراض46. ومن الجدير بالذكر أن هناك عوامل تساعد على تنمية المصطلحات تنقسم على عوامل لغوية ( الاقتراض اللغوي، والترجمة، والتعريب، والنحت، والتركيب، والاشتقاق، والقياس )، و عوامل اجتماعية ( الإعلام والاتصال الجماهيري، والاقتصاد، والسياسة، والتقنية الحديثة والتقدم العلمي التعليم، والاتصال مع الغرب، والفن )، وعوامل دينية، وعوامل نفسية، وعوامل أدبية47. بيّن الدكتور زهير غازي زاهد أن كثيراً من الألفاظ يمكن أن يُوضع لها مقابل أفضل من اسمها الأجنبي وأكثر انتساباً للعربية عن طريق الاشتقاق، مثل: الهاتف (للتلفون) والسيارة (للاتمومبيل) والمذياع (للراديو) وغوغائي (للديماغوجي) وملهاة (لكوميديا) ومأساة (لتراجيديا) والتمثيلية (لدرامة) وتمثيلية غنائية (لأوبرا) وغنائية هزلية (لأوبريت)...، وذكر انه لو أُشيعت هذه الألفاظ العربية قبل شيوع الكلمة أو استعمالها بمصطلحها الأجنبي لما عرفت الأجنبية، وهكذا كل المصطلحات والألفاظ في مجال الأدب والفن48. وأوضح أن المصطلحات العلمية أو الألفاظ الشائعة شيوعاً التي لا يمكن أن يُوضع له مقابل فيمكن أن يُؤخذ عن طريق التعريب أو الاقتراض أو القياس، مثل: أسماء الأعيان وأعلام الأجناس كالأوكسجين والهيدروجين والأنزيم والإلكترون والأيون وأسماء الأدوية والعقاقير والمركبات الكيمياوية وأسماء النباتات والحيوانات، وذكر أن هناك ألفاظا شاعت وانتشرت ولم تستطع المجامع أن تضع لها مقابلا من الممكن أن يُعتمد الشيوع لإقرارها وقبولها في ضمن الكلم العربية مثل كلمات: برجوازية وإمبريالية وديمقراطية... 49. يتضح من ذلك أن موقف الدكتور زهير غازي زاهد من قضية التطور السريع في المصطلحات العلمية والفنية والأدبية هو إتباع كل الوسائل للمحافظة على حيوية اللغة من جهة وعلى أمنها من الأخطار من جهة أخرى، إذ لا مفر للغة العلمية من هذا التطور وأوضح انه في حالة الاقتراض اللغوي والاقتباس يعيا في وضع المقابل، فلا بأس أن يدخل الكلم العربي فما أكثر الكلم والمصطلحات التي احتوتها العربية قديماً وحديثاً ما دخل في معجمها أو ما لم يدخل، إنما ظلّ جارياً على الألسن، وذكر أن هناك ألفاظا شائعة دخيلة لكنها مستساغة ومقابلها الفصيح غير معروف ولا مستعمل، أو أن المقابل لها لا يدل على ما تدل عليه الكلمة الدخيلة الشائعة، فيمكن أن يدخل المعجم العربي على سبيل الاقتراض وضرب أمثلة بذلك مثل: كلمة (المسك)، فهي شائعة مستعملة، ولم يقم مقامها مقابلها المسموع، وكلمة (الباذنجان) مستعملة معروفة في كل الأسواق العربية، ولا أحد يعرف مقابلها(المغد) أو (الحدق)، وكلمة "النرجس" استعملها الشعراء كثيراً في عصور الحضارة، ولا يُعرف مقابلها الفصيح (القهة) أو(القهد)، وكلمة (ورشة) المعرّبة من الإنجليزية لا يدل مقابلها الموضوع على معناها الشائع مَشْغَل أو مُحْتَرف أو مَرْسَم أو مَصْنَع أو مَعْمَل، وكذلك كلمة "قرصان" المعرّبة من الإيطالية وجمعها قراصنة والمصدر قرصنة. كل ذلك دخل العربية وأصبح من رصيدها المعجمي50 ، مشيرا الى أن التعريب عن طريق الاقتراض يمكن أن يكون هو الحل المفضّل خاصة للمصطلحات التي صارت عالمية في مجالات العلوم وعند أصحاب الاختصاص51، وموضحا أن العربية غنية بطرق تركيب عباراتها وأساليبها، فلا تضيق بما يأتي إليها من الأساليب الجديدة، فيزيد اتّساع آفاقها التعبيرية بشرط أن لا يكون متقاطعاً أو مخالفاً لأساليب الفصاحة فيها فيؤدي إلى الركاكة في التعبير52. وقد أجاز مجمع اللغة العربية شيئاً من ذلك، ومن قراراته في هذا الباب: (( فالباب مفتوح للأساليب الأعجمية تدخل بسلام إذ ليس في هذه الأساليب كلمة أعجمية ولا تركيب أعجمي، وإنما هي كلمات عربية محضة رُكِّبت تركيباً خالصاً، لكنها تفيد معنى لم يسبق لأهل اللسان أن أفادوا بتلك الكلمات ))53.
والآخر: إتباع المرونة تجاه الجديد والشائع مع مراعاة الفصاحة:
ذكر الدكتور زهير غازي زاهد أن الجهود اللغوية التي بذلتها وتبذلها كل المؤسسات والمجامع اللغوية ومكتب تنسيق التعريب بكل وسائلها ومؤتمراتها، تتخذ مسارين54: أولهما استغلال طاقات العربية وتجاربها التاريخية وقدرتها على التطور؛ لتستوعب كل هذا السيل الجديد من المصطلحات والأسماء والأساليب، وتجعله في ضمن معجمها اللغوي والمقبول في أساليب التعبير.
أما المسار الآخر: فهو محاولة دراسة لهجات العربية، وهو أساس من أسس دستور مجمع اللغة العربية في القاهرة، فقد دعا الدكتور زهير غازي الى ضرورة إشاعة العربية المعاصرة بين المثقفين وفي كتابات الجرائد وما يُذاع في وسائل الإعلام خصوصاً نشرات الأخبار، موضحا أن هذه اللغة ينبغي العناية بها وتوسيع استعمالها باستعمال كل الوسائل الممكنة، فإذا شاعت هذه اللغة في السوق والمصنع والحقل والبيت والمدرسة وبين الناس لغة للخطاب والتفاهم قرَّبت الدارجة من الفصيحة، فتكون لغة الكتابة الفنية بأساليب أدبية ولغة الكلام والتخاطب بعربية غير متكلَّفة55، ومشيرا الى أن التطور الدلالي للألفاظ واستعمال المجتمع ألفاظاً جديدة بدلالات جديدة قضية قديمة في كل اللغات، وليست العربية بدعاً بينها، فالعربية نفسها لم تكن واحدة قبل الإسلام إنما هي لهجات تداخلت وتقاربت، فنشأت منها لغة موحدة نزل بها القرآن الكريم، لكن اللهجات وظواهرها اللغوية ظلَّت إلى جانب هذه اللغة الموحدة، واختلاف القراءات القرآنية ناتج عن الظواهر اللغوية في هذه اللهجات غير أن الفصيحة كانت هي لغة الدين والدولة والعلم والأدب56، مبينا أن عربيتنا المعاصرة تدخل في ظل عربية القرآن الكريم أنظمة ودلالات، واللغة الفنية ما زالت الفصيحة المتطورة الممتدة من الأصل؛ لذلك نحن نفهم شعر زهير بن أبي سلمى، وعمر بن أبي ربيعة، وأبي نواس، وأبي تمام، والمتنبي، والبهاء زهير، والبارودي، والرصافي، والجواهري، وعمر أبو ريشة، وأبي القاسم الشابي، ونزار قباني، والسياب، وغيرهم57.
وذاكرا أن العربية التي تجري على السنة الناس عامة، أي لغة للتخاطب في وسائل الإعلام المختلفة وقاعات المحاضرات لا تؤكد حركات الإعراب في النطق فهي هي ؛ لأن حركات الإعراب جزء من أواخرها، فإذا سُكّن آخر الكلم لم تفقد الجملة معناها على ما ألف الناس في خطابهم مستدلا بما وعاه ابن خلدون في قوله:(( لم يُفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم، وهو بعض من أحكام اللسان )) 58ويفهم من ذلك أن اللغة لها وسائلها في الإفهام إن أُوقف أواخر الكلم في لغة الخطاب. مؤكدا توحيد لغة التعليم على وفق سياسة لغوية واحدة والعناية بوسائل الإعلام من حيث ثقافة الإعلام اللغوية.
أوضح الدكتور زهير غازي زاهد أن العربية يمكن أن تحقق أمنها وسلامتها من خلال بلوغ مستواها المنشود لغة للكتابة الأدبية ومستوى لساني مصاحباً لها وقريباً منها لغة للتخاطب في مجالات الحياة اليومية 59. وهذا ما شعر به مجمع اللغة العربية في القاهرة فجاء بتوصية في قضية الدارجات: (( تتقارب اللهجات الدارجة في العالم العربي في العشرين سنة الماضية تقارباً ملحوظاً، وللمدرسة والمدرِّس شأن في ذلك ولوسائل الإعلام من صحافة وإذاعة ومسرح وسينما شأن أوضح، وما أجدرنا أن نتعهّد ذلك ونرعاه كي ينتهي إلى الهدف المنشود))60.
الخاتمة:
1. أوضح البحث دعوة الدكتور زهير غازي زاهد الى تخطيط لغوي وسياسة لغوية موحدة وشاملة على نطاق الجامعة العربية ومؤسساتها بمساعدة المؤسسات اللغوية والجامعات من اجل نشر عربية سليمة على السن الناطقين بها.
2. بيّن البحث أن من وسائل الأمن اللغوي التي أكدها الدكتور زهير غازي زاهد العمل الجادّ لتعريب التعليم والعلوم المختلفة وتدريسها في مراحل التعليم قبل الجامعة ثم المراحل العليا
3. أوضح البحث دعوة الدكتور زهير غازي زاهد الى توحيد المصطلح في الاستعمال قبل شيوعه ؛ لأنه يزيده عناية ويضعف من البلبلة اللسانية في الاستعمال ثم الوضوح على نطاق الدلالة ولا يتحقق هذا إلا من خلال التخطيط اللغوي وقرار السياسة اللغوية الموحّدة على نطاق الوطن العربي.
4. أكد البحث ما أوضحه الدكتور زهير غازي زاهد في أن استعمال العربية لغة قومية، في مراحل الدراسة التي تسبق الجامعة وتعريب موادها العلمية ومصطلحاتها، مطلب مهم وملحّ خصوصاً، في الدول التي تخلّصت من السيطرة الفرنسية ومن فرض لغتها عليها.
5. أوضح البحث أن لجان المناهج يجب أن تأخذ دورها في إصلاح المناهج الدراسية لأقسام اللغة العربية وان تستفيد في وضع المناهج من علم اللغة التطبيقي وهذا ما ذكره الدكتور زهير غازي زاهد.
6. أثار البحث قضية تدريس اللغة العربية لغير الاختصاص، فهي ما زالت متعثّرة وضعيفة، موضحا أهم أسباب ضعفها التي ذكرها الدكتور زهير غازي زاهد: أنها توكل لمدرسين غير ماهرين، أو أنها تُؤدَّى لتكملة الأنصبة دون أن تنال من العناية اللازم، ثم عدم اكتراث الطلبة في الكليات العلمية والأقسام غير المتخصصة؛ لعدم وجود الحوافز التي تشجّع على الإقبال لدراسة العربية أو لإحساس الطلبة بعدم الرِّضا أو الفائدة من هذه الدروس، فضلا عن أن المناهج لم توضع بعناية على وفق تخطيط واضح المعالم وواضح الأهداف. موضحا أن العربية لغير المتخصصين ينبغي أن تكون مفرداتها منهجاً، عامةً سهلةً تتناسب والقسم والكلية التي تُدرَّس فيها، وينبغي للمدرس أن يكثر الحوار مع الطلبة باستعمال الفصيحة المبسَّطة علاوة على المشوِّقات في المادة المعروضة، وقد تحتاج إلى وسائل الإيضاح والعروض المرئية أو الأجهزة والمختبرات اللغوية لزيادة إتقان النطق والأداء.
7. بيّن الدكتور زهير غازي زاهد أن أهم هدف من أهداف الإصلاح اللغوي بكل وجوهه هو التقريب بين الفصيحة واللهجات التي تنطق بها المجتمعات العربية، موضحا أهم العوامل التي تُرفع بها الحواجز وتقرّب من لهجات اللسان العربي وهي: فتح الحدود بين أقطاره، وإلغاء الحدود والموانع التي تحول دون الاتصال والتمازج الاجتماعي، وإشاعة التعليم في أوساطه على وفق سياسة لغوية موحّدة، ورفع أجهزته الإعلامية، وتوجيه برامجه ومسلسلاته وتشجيع العاملين فيها، وفسح المجال أمام تيار الأدب الروائي والمسرح والسينما باللغة العربية الفصيحة.
8. شجع الدكتور زهير غازي زاهد دراسة اللهجات المعاصر من اجل استخلاص ما يندمج مع العربية المعاصرة عن طريق عقد المؤتمرات والمهرجانات العربية، ومن خلال هذا التمازج والتداخل اللغوي تنشأ عربية عصرية لها مستواها الفصيح ومستواها الدارج، فيتّصل مستواها الفصيح في أقصاه بالفصيحة القديمة و يتّصل مستواها الدارج في أقصاه بدارجة الأميين، وانه من الطبيعي أن يكون هذان المستويان متكاملين، فيختصّ الفصيح بالكتابة خاصة ويختصّ الدّارج بالخطاب خاصة.
9. أوضح البحث ما ذكره الدكتور زهير غازي زاهد في الاتساع اللغوي بالمصطلحات والأساليب الجديد يجب الأخذ بها بشرط ألا يتعارض مع الفصيح ألفاظا وأساليب، موضحا أن استيعابها وترويضها في رحاب اللغة يحتاج الى جهد لغوي يكون عن طريق التنمية اللغوية خصوصا في مجال المعجم باستعمال وسائل التنمية المختلفة من الاشتقاق والترجمة والتعريب والاقتراض اللغوي.
10. أكد البحث إتباع المرونة وعدم التعصّب والأخذ بالشائع مع مراعاة الفصاحة تجاه اللغات أو اللهجات التي تعيش في ظل اللغة العربية المعاصرة.
11. بيّن البحث ما بيّنه الدكتور زهير غازي زاهد أن العربية يمكن أن تحقق أمنها وسلامتها من خلال بلوغ مستواها المنشود لغة للكتابة الأدبية ومستوى لساني مصاحباً لها وقريباً منها لغة للتخاطب في مجالات الحياة اليومية.
التوصيات:
أ- يجب إصلاح المناهج الدراسية في أقسام اللغة العربية في كليات التربية والآداب والاستفادة من علم اللغة التطبيقي وجهود المحدثين في تيسير النحو ، فضلا عن العناية بتدريب الطلبة على التطبيق العملي في قاعة الدرس وتخصيص ساعة في الأسبوع لذلك منذ السنة الأولى ؛ ليتمرن الطلبة على مواجهة المستمعين دون خجل أو تردد ثم لتتمرن ألسنتهم على النطق بالفصيحة في إلقاء الدرس تحت توجيه أستاذه.
ب- مساندة مشروع تدريس النحو الكوفي في أقسام اللغة العربية ؛ لأنه يتبع منهج لغوي سليم يعتمد على الاتساع اللغوي وينطلق من القران الكريم والشعر العربي، وهذا ما اقترحه الدكتور عبد الإله الصائغ وان يترأس هذا المشروع الدكتور زهير غازي زاهد، بشرط أن يكون هذا المشروع امتدادا للنحو الكوفي وليس تكرارا.
ت- إنشاء مركز في كل جامعة عراقية يعنى بالترجمة والتعريب يترأسه أساتذة يشاد لهم بجهودهم العلمية في هذا المجال، فضلا عن إنشاء مركز في كل جامعة عراقية يعنى بدائرة البحث اللغوي.
ث- تفعيل قانون سلامة اللغة العربية وان يأخذ هذا القانون مداه في التطبيق.
ج- تفعيل دور المجامع اللغوية في العراق و دمشق والقاهرة بمشاركة أساتذة ماهرين يشاد لهم بجهودهم العلمية وتكون مشاركة شاملة وليست مقتصرة على أشخاص معينين.
ح- الدعوة الى تيسير فرصة التفرغ اللغوي سابقا لمن يحتاج إليه من المتخصصين ليستفيدوا منه في جهودهم العلمية والثقافية.
خ- التعاون الفاعل بين المؤسسات التعليمية داخل العراق وعقد المؤتمرات العلمية الفاعلة ومتابعة ما يصدر عنها من توصيات واقتراحات والجدية في الأخذ بأفضل السبل لتحقيق ذلك.
د- إقامة ندوات لغوية ونحوية للإعلاميين، وإلقاء محاضرات بين الحين والأخر، تناقش فيها مختلف القضايا اللغوية والنحوية المتعلقة بوسائل الإعلام.
ذ- أن تستعمل وسائل الإعلام في توعيتها الكلمات الفصحى، والعبارات سليمة التراكيب التي تجمع بين البساطة في التعبير،واحترام قواعد اللغة وكذلك قيام وسائل الإعلام بالتوعية المستمرة في حثّ الجماهير على النطق بالعربية الفصحى.
ر- مساندة مشروع الذي اقترحه الدكتور المرحوم عبد الأمير الورد بإبدال عربية فصيحة في الحياة العامية بشكل يسير عن طريق إعطاء الجوائز والمكافئات مثلا: أفصح مدرسة تقدم لها جوائز ومكافئات، وأفصح أسرة، و أفصح جامعة، وأفصح بائع فاكهة في السوق، وكذلك كل من يخرج عملاً إعلاميا من لقاء أو مسرحيات أو أغان أو مسلسلات بلغة فصحى مبسطة للجماهير تعطى له جوائز ومكافئات.
الهوامش
1 السيرة الذاتية، للدكتور زهير غازي زاهد.
2 الدراسات اللغوية في العراق ( في النصف الثاني من القرن العشرين )، أطروحة دكتوراه، عبد علي حن ناعور، كلية الآداب جامعة الكوفة 2007 م: 203-204.
3. العربية والأمن اللغوي، للدكتور زهير غازي زاهد، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، الأردن 2000م: 14.
4. اللغة بين المعيارية والوصفية، للدكتور تمام حسان، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، 1980: 16.
5 العربية والأمن اللغوي:17.
6 المصدر نفسه: 19.
7 المصدر نفسه:24.
8 المصدر نفسه:25-28.
9 المصدر نفسه:35-36.
10.: المصدر نفسه:41.
11 المصدر نفسه:54.
12 المصدر نفسه:56.
13 المصدر نفسه:71-76.
14 المصدر نفسه:77-84.
15 المصدر نفسه:116.
16 المصدر نفسه:120
17 المصدر نفسه:: 85.
18 اللغة والهوية، د. محمود السيّد، مجلة المجمع اللغة العربية دمشق، المجلد (85)، والجزء (3) 2010م: 654-655.
19 العربية والأمن اللغوي: 86.
20 المصدر نفسه والصفحة نفسها.
21 المصدر نفسه والصفحة نفسها.
22 المصدر نفسه: 87.
23. المصدر نفسه والصفحة نفسها.
24 اللغة والهوية: 660-661.
25. المصطلحات والتنمية اللغوية العربية، عمر هزايمه، مجلة العلوم الإنسانية، السنة الخامسة، العدد 35، 2007 الأردن: 4، وتجارب في التعريب، د. محمود الجليلي: 9.
26. العربية والأمن اللغوي: 88.
27. المصدر نفسه:88-89.
28. المصدر نفسه: 89.
29. من أسرار اللغة، د. إبراهيم أنيس: 117.
30. موقع (مفكرة الإسلام www.islammemo.cc).
31. العربية والأمن اللغوي: 89-90.
32. المصدر نفسه:90.
33. المصدر نفسه: 91.
34. المصدر نفسه:91-92.
35. المصدر نفسه:92.
36. المصدر نفسه:93.
37. المصدر نفسه:94.
38. المصدر نفسه:94-95.
39. المصدر نفسه:95.
40. المصدر نفسه والصفحة نفسها.
41. المصدر نفسه:96.
42 توحيد اللهجات، للأستاذ محمد رضا الشبيبي، نشر في كتاب اللهجات العربية (بحوث ودراسات)، بإشراف الدكتور كمال بشر، القاهرة 2004م: 57.
43 العربية والأمن اللغوي: 97-98.
44 المصدر نفسه:98-99.
45 المصدر نفسه:100.
46 المصدر نفسه والصفحة نفسها.
47 المصطلحات والتنمية اللغوية العربية، عمر هزايمه، مجلة العلوم الإنسانية، السنة الخامسة، العدد 35، 2007 الأردن.
48 المصدر نفسه:101.
49.: المصدر نفسه:101-102.
50. المصدر نفسه:102-103.
51. المصدر نفسه:103.
52. المصدر نفسه:104.
53. المصدر نفسه: 105 نقلا عن مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة،ج1: 332، ج7: 185-187.
54.العربية والأمن اللغوي: 105.
55. المصدر نفسه:106.
56 المصدر نفسه:107.
57 المصدر نفسه:108.
58. مقدمة ابن خلدون فصل 8، والعربية والأمن
59. اللغوي: 108.
60. العربية والأمن اللغوي:109.
61. المصدر نفسه: 109 نقلا عن مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة، ج7، 1949م: 316.
التعليقات (0)