صحيفة صوت الأمة لم يكن مستغرباً أن تظهر مسرحية الانتخابات بهذا الشكل السيئ إخراجاً وسيناريوهاً ؛ إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج . والاعوجاج في رأينا بدأ منذ مرحلة مبكرة جداً إبتداءاً بالإحصاء الُسكاني الذي علي أساسه تم تحديد الدوائر الجغرافية؛ توسطاً بعملية التسجيل التي لم تُغلق بعد لمؤيدي النظام حتى يومنا هذا ؛ ثم إنتهاءاً بانحياز المفوضية الواضح للعيان لكل المراقبين للساحة السياسية السودانية .
لكل هذه الأسباب كان قرار القوي الوطنية الواعية هو عدم المشاركة في هذه المهزلة ؛ لأنها تُمثل تزويراً لإرادة أهل السودان ؛ هذا التزوير أراد أهل الإنقاذ أن يدفعوه مهراً لزواج السيد البشير وحاشيته من أهل الإنقاذ علي السُلطة بعد اغتصابٍ دام أكثر من عشرين عاما ! .
لقد وقع قرار المقاطعة برداً وسلاماً علي كل الحادبين علي مصلحة الوطن وسلامة أراضيه ؛ وبهذا القرار يُسجل حزب الأمة القومي ، والأحزاب المقاطعة موقفاً تاريخياً يُحفظ في أضابير الحركة السياسية السودانية .
كان أهل الإنقاذ في الأيام السابقة يُمنَون أنفسهم بمنازلة حزب الأمة في السباق الانتخابي ؛ وكانت ولا زالت وستظل ذروة الطموح لدي السيد البشير أن يتشرف بمنافسة الإمام الصادق المهدي . يُريد بهذه المنافسة أن ينتزع الشرعية الدستورية التي يُمثلها السيد الإمام .
لم تخب قيادة حزب الأمة آمال السيد البشير ؛ فقد دفعت أغلي ما عندها في إطار الاستعداد للبُطان الانتخابي.
ومع أن القيادة علي علمٍ كامل بأن المعركة مختلة الموازين ؛ وأنهم سوف يباطنون فيها بلا سياط . رُغم هذا لم يُقاطعوا الانتخابات إلا بعد أن تأكد لهم تماماً أن الإنقاذ لا تُباطن بسوطها فحسب ؛ بل تستخدم في المعركة مدافع المفوضية ، وقذائف القوات النظامية، وبُمبان الأجهزة الإعلامية ، ورُصاص الجماعات السلفية. كل هذه الوسائل في مواجهة أحزاب لا تمتلك سوي الرصيد الشعبي الواسع المُناصر لبرنامجها السياسي .
كم كنت عندي كبيراً وعند كثيرون أيها الحزب العملاق وستظل؛ وأنت ترفض تدنيس تاريخك الناصع بنجاسة اعتبرها البعض طهُر . وكم كنت عظيماً عندما أيقنت مُبكراً أن التحول الديمقراطي ما زال سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ؛ حتى إذا جاءوا يوم الاقتراع لم يجدوا شيئاً سوي التزوير الذي تعتبره الإنقاذ من اجل العبادات التي تُقربهم إلي الله زُلفى ! . لأن التزوير ينصر الحق – بحسب رأيهم – وكل وسيلة تؤدي إلي نصرة الحق فإتباعها واجب .
إن حزب الأمة بقرار مقاطعته للانتخابات ، يكون قد أضاف إلي تاريخه الحافل بالمواقف ، موقفاً ديمقراطياً سطره بمدادٍ من ذهب ؛ وقد قالها د/ عبد الوهاب الأفندي في مقالٍ له سابق في صحيفة الصحافة : ( أن الأحزاب السودانية لا تتورع في دعم الشمولية بصورة أو بأخرى ، بخلاف حزب الأمة – جناح الصادق – فان الديمقراطية بالنسبة له تُمثل موقفاً مبدئياً لا تراجع منه ) .
إلي وقتٍ قريب كان الظن لدي أن الإنقاذ لا تحتاج إلي تزوير في أيام الاقتراع ؛ فقد زورت من قبل الإحصاء السكاني ؛ حيث أن دائرة الهدي ذات النفوذ الأنصاري التي يترشح فيها الأخ قاسم محمد إبراهيم كان عدد الناخبون فيها اثنان وسبعون ألف ناخب ؛ بينما هناك دوائر في الولاية الشمالية لا يزيد عدد الناخبون فيها عن الأربع وأربعون ألف ناخب؛ كما أن الإنقاذ قد زورت السجل الانتخابي ؛ وهناك مقاطعة للأحزاب ذات الوزن الشعبي الكبير ؛ فما الذي جعل أهل الشجرة يحتاجون إلي التزوير بعد كل هذا في يوم الاقتراع ؟
لأجد رداً علي هذا السؤال أبلغ من احدي المواقف الطريفة التي رواها لي أحد المقربين ؛ حيث قال : ( بعد أن طبق النُميري قوانين سبتمبر ذهبت لاستخراج جوازاً للسفر ؛ فإذا بأحد الأشخاص الذين قُطعت أيديهم نكالاً لما سرقوا يبحث عن المال بيده الأخرى في جيوب الآخرين! .
وفي هذا دلالة علي أن الذين يدمنون علي فعل شي محدد ، من الصعوبة بمكان أن يقلعوا عنه ؛ وهذا هو سر عدم اكتفاء أهل الشجرة بممارسة ثقافة التزوير في الإحصاء والسجل ؛ بل والتمادي فيه حتى يوم الاقتراع بلا خجل تحت سمع وبصر العالم .
وحيث لم يعد ممكناً في ظل مُناخ العولمة إخفاء مظاهر التزوير كما في السابق ؛ فإن القنوات الفضائية خاصة – قناة الحرة – قد تمكنت من نقل بعض مظاهر التزوير علي الهواء مباشرة من داخل مراكز الاقتراع .
لقد مثل يوم أمس الأول نهاية أيام الاقتراع الثلاث ؛ والتي أُضيفت إليها يومان لمعالجة الخلل الذي شاب أيام الاقتراع . ويبدو أن الخلل ليس بالسهولة التي يمكن معها معالجة هذه المسائل في ظرف يومين أو شهرين حتى .
وبين أيدينا الآن تقرير من شبكة تمام المُكونة من أكثر من مائة منظمة سودانية تراقب العملية الانتخابية ؛ هذه التقارير التي نُشرت في مؤتمر صحفي عقدته الشبكة في مركز الخاتم عدلان يوم الاثنين الماضي أكدت فيه الآتي :
إن تمديد فترة الاقتراع ليومين لن يُعالج الخُرقات والأخطاء الفنية -( ناهيك عن ممارسة التزوير ) - وهذه من عندي .
أن اعتراف المفوضية بوجود تجاوزات في 26 مركز اقتراع يُجافي الحقائق ؛ حيث أن الخروقات والتجاوزات منتشرة علي نطاق واسع .
هناك طرد تم من قبل الأجهزة الأمنية لوكلاء الأحزاب والمرشحين ؛ حيث مُنعوا من حراسة الصناديق ليلاً . ( ربما لان أهل الإنقاذ ينوون قيام الليل! ولا يريدون أحداُ من الوكلاء أن يراهم علي تلك الهيئة ؛ وهذا إن دل إنما يدل علي شدة الورع والخوف لدي هؤلاء القوم !).
هناك استغلال لموارد الدولة ؛ فقد تم ضبط عربة حكومية تنقل ناخبين من القوات النظامية .
الجدير بالذكر أن شبكة تمام لديها ثلاثة ألف مراقب في تسع ولايات ؛ وهذا سوف يعطي تقريرها ضمن تقارير أخري مصداقية دولية .
ومن نافلة القول أن قرار المقاطعة كان صائباً وموضوعياً بكافة المقاييس ؛ إذ انه أثلج صدوراً تغلي من الاكتواء بنيران الإنقاذ . ولو لم يُتخذ قرار المقاطعة ؛ فإن هذه الصدور كان من الممكن أن تنفجر لا جرم في ظل الخروقات العديدة التي شهدتها العملية الانتخابية .
إنني لا أجد وصفاً لقرار حزب الأمة بمقاطعة الانتخابات أجمل من وصف الأستاذة رشا عوض في مقالها المنشور في صحيفة أجراس الحرية : ( ربح البيع يا أبا أم سلمة ).
في مقالنا القادم سوف نُناقش بإذن الله ؛ ثم ماذا بعد المقاطعة ؟.
التعليقات (0)