الروائية ناهيد رشلان، هذا الصوت الحر، الذي نأى عن النصر للسلطة المترهلة، وتقوقع في الاغتراب الإنساني والبحث عن المعنى. ذهبت هذه الكاتبة الجريئة إلى تقديم صورة للمجتمع الإيراني في الفترة الزمنية الممتدة بين عامي (1941-2006م). وأدخلت القارئ في الشوارع الضيقة التي تصطف على جوانبها بيوت من الطين والقش وأشجار النخيل وجوز الهند، مروراً بجادة بهلوي الأحياء المليئة بالمحلات الفخمة البراقة والأبنية الحديثة والبيوت المؤلفة من طبقتين. لم تكن النساء اللاتي يمشين في الجانب الآخر يرتدين الشادور النسائي الساتر بل يرفلن بأحدث الأزياء العصرية والمستوردة.
بجانب السيرة الذاتية الواقعية التي غيرت فيها أسماء القليل من الشخصيات والمؤسسات والأماكن للحفاظ على خصوصيتهم، كما أجرت تغييرات ثانوية واختصرت بعض الأحداث والتواريخ، وأغفلت ذكر البعض أو تغاضت عنهم. بجانب هذا أحتوت الرواية على ثلاثة مراحل سياسية مرت بها إيران، بدءاً من سنة 1941م حين وضع الشاه الشاب الذي خلف والده على العرش تحديث إيران نصب عينيه، حيث تلقى تعليمه الابتدائي في سويسرا وأراد أن يجعل من إيران سويسرا الشرق الأوسط. وهو من وقع معاهدة الصداقة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1955م، حينما كان عمر ناهيد تسع سنوات، وتوارد وقتها الحديث على أنه لم يعد هناك أي مانع من حق النساء الإيرانيات في الانتخاب.
المرحلة الثانية كانت في سنة 1979م التي هرب فيها الشاه من إيران إلى مصر بعد احتجاجات عامة ومتواصلة. أراد قبل اللجوء إلى مصر أن يحظى بدعم واستقبال الولايات المتحدة الأمريكية له، إلا أن الرئيس جيمي كارتر رفض السماح بمجيء الشاه إلى الولايات المتحدة باعتباره نصيراً لحقوق الإنسان. في تلك السنة استقبل الخميني بكل ترحاب عائداً من منفاه إلى إيران فشجب الماضي ودعا إلى مناخ جديد وأطلق على البلد اسم جمهورية إيران الإسلامية، بدلاً من إيران أو فارس. لكنه للأسف، تبع ذلك حكم الإرهاب، فاتبع نهج الانتقام السياسي، وبلغ ذروته بإعدام مئات من الأشخاص، وتعرضت المكاسب القليلة التي بدأت المرأة تحقيقها في عهد الشاه إلى الانتكاس، وأصبح ارتداء الشادور إلزامياً على النساء وجرى الفصل بين الرجال والنساء في الحافلات، الرجال في الأمام والنساء في الخلف، واعتراض الشرطة النساء في الطرقات ومسائلتهن عن الحجاب ومساحيق الوجه، ولم يسمح بأن يبث على التلفزة سوى البرامج الدعائية الموالية، وعرض صور الخميني في كل مكان، وتغيرت أسماء الشوارع إلى أسماء تبعث إلى الكآبة‘ وأصبحت الرقابة على الكتب أسوأ مما كانت عليه من قبل. هاجر البلاد العديد من الإيرانيين والأغلبية من المواطنين العصريين.
المرحلة الثالثة عندما توفى الخميني في سنة 1989م لم تعد الأمور متشددة كما كانت في عهده، ولم يطرأ أي تحسن على العلاقات الإيرانية الأمريكية. وقد سمى الرئيس بوش، إيران والعراق وكوريا الشمالية “محور الشر” – وحسب ما قبل ختامية الروائية – يوجد الآن – نوفمبر 2006م – توتر شديد بشأن الأسلحة النووية التي تصنع في إيران.
خلال المراحل السياسية التاريخية السابقة كانت تدور أحداث متتابعة لسيرة ناهيد رشلان، الطفلة التي دفعت بها والدتها “محترم” إلى خالتها “مريم” ، حيث قامت بتقديم ابنتها هدية لشقيقتها، الوليدة السابعة لمحترم والخامسة بين الأطفال الأحياء، حيث مات اثنان. لم تحمل مريم عندما كانت متزوجة، ثم مات عنها زوجها، فرجت محترم أن تتيح لها تبني أحد أطفالها، ووعدتها شقيقتها محترم بأن تعطيها الطفل التالي، وكانت “ناهيد” هي الطفلة. وكانت الجدة عزيز هي من أخذ ناهيد إلى مريم.
كانت مريم تسكن في حي قديم من أحياء طهران حيث نشأت هي ومحترم، لم يتأثر ذلك الحي بمحاولات الشاه تحديث إيران، فلم يتغير إلا القليل منذ أن كانت مريم طفلة. كان معظم جيرانها من الطبقة العاملة، ومن المسلمين الشيعة الشديدي الإلتزام، ومثل معظم البيوت في المنطقة. كانت النساء مثل رجال الدين يتحدثن عن الأحداث التي جرت منذ القدم وكأنها تجري الآن. فيتحدثن عن النبي محمد وعلي ويزيد وعمر، وعن الاختلافات بينهم، وعدلهم وكرمهم. وكن يذكرن علي، صهر النبي، الذي يعتقدن بأنه الأحق بخلافته. “كن يستنكرن ما قام به عمر الذي خلف محمداً بدلاً من علي، وذلك موضع اختلافهم مع السنّة الذين لم يعتقدوا بوجوب ذلك”. – وفي حقيقة ذلك الوقت كان أبوبكر هو الخليفة بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم بعد أبوبكر كان الخليفة عمر بن الخطاب -.
“هناك مسرحيات حزينة أخذتني مريم إليها وهي إعادة تمثيل درامية للمعركة التي أدت إلى مقتل حفيد النبي، الحسين. كانت آخر مسرحية شاهدتها في باحة مدرسة للصبيان، غير بعيدة عن بيتنا، واضطررت في تلك المناسبة إلى ارتداء الشادور، إذ لا يسمح بالدخول بخلاف ذلك، وتطبق العمر، وهو سني في ذلك الوقت. كان الإنتاج متقناً، جمال حقيقية ومحاكاة جيدة لمشهد ساحة المعركة. وقد أشعلوا النار في دمية تمثل عمر، مصنوعة من المناديل الورقية، ولعنوا يزيداً، واتهموه بأنه مدمن خمر خالف قواعد الإسلام”.
بني منزل مريم منذ مئة سنة وفق الهندسة المعمارية الإسلامية القياسية. كان البيت يتوسط فناء محاطاً بجدران عالية من الطوب. لا يوجد فيها فتحات تطل على الطريق لكي لا يجد النساء حرجاً من أن يراهن الرجال المارين من دون غطاء. كثيراً ما قالت مريم لناهيد “إن الله رحيم، لقد استجاب لدعائي وأرسلك إلي”. عاشت ناهيد مع خالتها التي كانت تدعوها “أمي”، حتى سن التاسعة ودخلت المدرسة ونوت أن تشتري لها شادوراً، فالتقاليد تدعو إلى فرض لبس الشادور عند سن التاسعة من العمر. لكن ناهيد قالت “إننا لا نلبسه في المدرسة”، حيث قد ترك الشاه للفتيات حرية ارتداء الشادور.
عندما كانت ناهيد واقفة مع بعض الفتيات أثناء الاستراحة في المدرسة، لاحظت رجلاً يقترب منهن، كان نحيلاً وقصيراً تعلو وجهه ندوب شبيهة بآثار الجدري وشارب كثيف. لم تعرفه إلا عندما قال لها “ألا تعرفين والدك؟” كان قد قدم مرة واحدة فقط مع محترم في احدى زياراتها، قال لها “هيا بنا سآخذك إلى الأهواز”. وأمسك بيدها وقادها بقوة نحو الباب الخارجي. وطار بها من طهران إلى منزلهم في الأهواز قرب أعمال النفط والأمريكيين.
ماذكر بعاليه ليس أسلوب الروائية لأن ناهيد كانت تقدم الرواية من داخلها بوصفها شخصية من شخصياتها، وهي مشاركة في الأحداث، وشاهدة عليها.
هذه الذات الأنثوية الساردة تقول عندما استبعدت عن أمها بالتبني “استيقظتُ عند منتصف الليل، شعرت بالعطش الشديد، فمددت يدي لأخذ إبريق الماء الفخاري الذي تضعه مريم دائماً قرب سريري، لكنني لم أجد شيئاً. انتابني الخوف عندما أدركت أنهم أبعدوني عن مريم. لا بد أنها بكت عندما وصلتها رسالة والدي التي يخبرها فيها أنه سيأخذني، ولا بد أنها هدأت من روعها وهي تفكر في القدوم إلى الأهواز بأسرع ما يمكن لترجو والدي أن يعيدني إليها. متى ستصل إلى هنا؟ هل ستتمكن من استعادتي؟ دارت الأفكار المقلقة والمتشابكة في رأسي”.
يبدو أن هناك أحداث كثيرة رغبت الروائية سردها، لكنها اضطرت إلى التسارع في بعضها والمراوحة في البعض الآخر ووضعت لها علامات استفهام مقصودة!. ولأن حداثة عهدها بأخوتها لم تجعلها مطمئنة كثيراً لوجودها في منزل والدها، ورغبت العودة إلى منزل الخالة، الأم بالتبني، ودلل على ذلك بأنها لم تدع أمها التي انبجتها بـ أمي بل باسمها المجرد “محترم” أو لا تتطرق إلى ذكر أي منهما نهائياً، لاحساسها بأنها وقعت في مظلمة. واضطرت ناهيد بموجب مكوثها الاجباري في منزل والدها القاضي العارف بالقوانين، والذي استقال من عمله ليعمل محامي متجول، أن يكون في ذلك المنزل صداقات وعداوات، فالحميمية كانت بين الأختان “ناهيد” وأختها الكبرى “باري” أما “مانيجة” وهي أكبر من ناهيد وأصغر من باري، لم تأتلف معها لسبب أو لآخر.
دخلت ناهيد في نقاش مبالغ في تفظيعه مع باري حول محترم:
“هل رأيتِ المطرزتين اللتين صنعتهما محترم؟”
أجابت باري “إنها تعبر عن نفسها بهذه الطريقة فقط”.
“هل تعتقدين أنها شعرت يوماً تجاه والدي ما تشعرينه تجاه مجيد؟”
غرقت باري في أفكارها “كيف يمكنها ذلك؟ كانت مجرد طفلة عندما أجبرت على الزواج”. وسكتت برهة ثم قالت “لكن ربما انتابها هذا الشعور تجاه رجل آخر”.
شهقتُ قائلة “ماذا؟ من؟”.
“ما زلت أذكر منذ سنين عندما كان والدي يسافر كثيراً، كان هناك رجل وسيم، يملك محلاً للمجوهرات في جادة بهلوي، كانت أمي تذهب إلى هناك طيلة الوقت. رأيتها ذات مرة عندما كانت تخرج، كان وجهها متوهجاً كأنه مشتعل، مثلما أشعر عندما أرى مجيد”.
وتحكي ناهيد وتقول “عندما خرجت من غرفة باري صادفت محترم تقف أمام مرآة طويلة قرب الستائر البيضاء في غرفتها، تتأمل مظهرها. كانت تموج شعرها دائماً بشكل يظهر حسنها، وتضع أحمر الشفاه. ارتسم على وجهها تعبير ناعم، حزين، وبدت مختلفة جداً عن المرأة التي حاولت إقناع باري بالمنطق”
تقول “عذبني الحديث الذي دار بيني وبين باري، جافاني النوم تلك الليلة فجلست في سريري أحلل كيف يمكن أن تكون قد نشأت العلاقة بين محترم والصائغ”.
هكذا تحس بالواقع وتتخيله، إذا ما كان والدها ومحترم شريرين، لكن جدتها التي تحبها كثيراً فعلت الأمر نفسه فأجبرتهن على الزواج من رجال اختارتهم هي وجدها، بل إن والدها، إن كان والدها حقا، كان ضحية نظام القمع الذي يملي على الناس كيف يشعرون ويعيشون حياتهم. هذا هو الوقت الذي يجب على باري أن تقاوم فيه الزواج من أي شخص غير مجيد، وتكسر السلسلة، كما تعاهدت احدهما الأخرى.
لكن باري ببساطة تتنازل مرغمة عن عهدها لأختها ناهيد، بالزواج من طاهري وهي تهوى مجيد، كما كانت محترم تهوى الصائغ وتزوجت رغماً عنها غيره، في مجتمع ذكوري يخالفه عالم أنثوي رومانسي.
أصرت وعاندت ناهيد على التشبث بالعهد، وقاومت بارسال رسائل خاصة لوالدها برغبتها اكمال دراستها من حين لآخر، وفي آخر مرة طلبت منه أن تسافر برفقة أخويها إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة.
على كثرة تسويف والدها إلا أنها لم تستلم وقاومت ذلك الجبل. وافق أخيراً بعد أن رأى حياة أبنته باري العصيبة وطلبها الطلاق من طاهري المتعجرف، وحياة الجحيم التي عاشتها معه، وانجبت منه طفلاً، يرغب بامتلاكه وحيداً. حتى النظام لم يساعدها في استخلاص ابنها من رجل غير سوي.
سافرت ناهيد إلى أمريكا بعد رضوخ والدها لطلبها. شعرت بالخوف في بداية الأمر من الغربة، وسرعان ما تأقلمت على الحياة الأمريكية العصرية التي كانت تقرأها في المجلات وتشاهدها في دور السينما، وتجاذبت مع الحرية بشبان غربيين، ولم تع بالوقت، ونتيجة للوعي القاصر، وجدت نفسها في أحضان زوج أمريكي يهودي الديانة. وتضاءلت فاعليتها لتحاول اقناع نفسها بأن هذه هي الحياة التي جازفت وعاهدت على امتلاكها، فلن تعود للوطن وهي تحمل الكثير من المنعطفات التأويلية التي تصاعد صداها في بواطن ذاكرة امرأة.
كان تضاداً درامياً يفرض التناقضات التي من اجلها يستشعر المرء بأن الحقيقة ليست حقيقة وأن مادة الحياة ممزوجة بواقع فوضوي في كل الحالات. يموت الوالد من ذاكرة الحياة، وتموت أختها باري بانهيار شبيه بالانتحار، وتبقى مانيجة بصفات عميقة ترعى الجميع. وتستشعر ناهيد، الهاربة دوماً نحو الرغبات، بأن الزيارات للوطن أصبحت حتمية من حين لآخر، برغم أنها لن تستطيع الإفلات من زوج ركز ركيزته وأدمت تلك الركيزة بـ ليلى.
التعليقات (0)