قراءة في دراسة: الشرق الأوسط الجديد، الصادرة عن مركز كارينجي للسلام
بلال الشوبكي
تنطلق الدراسة من مسلمة تفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد بلورت أفكار جدية لصوغ الشرق الأوسط بشكل جديد بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وفي هذا الإطار تم تصنيف الحرب على العراق ضمن أولى الخطوات نحو الشرق الأوسط المنشود، والإقرار الضمني بالحرب على لبنان، ورفض نتائج الانتخابات الفلسطينية، كلها كانت على طريق الصياغة الأمريكية للشرق الأوسط، تحت مظلة الديمقراطية من وجهة نظر أمريكية.
-------------------------
الشرق الأوسط الجديد هو عنوان الدراسة التي أصدرها مركز كارينجي للسلام لتقييم الفترة ما بين 2000-2008، وقد شارك فيها كل من مارينا أوتاواي وناثان براون وعمرو حمزاوي وكريم سجدبور وبول سالم، وهذه الدراسة تتمع بأهمية واضحة من حيث الموضوع الذي يشغل حيز واسع في السياسة الدولية ومن حيث منهجيتها حيث تقوم على رصد الواقع الشرق أوسطي بشكل دقيق، بالإضافة إلى قراءتها النقدية للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط ومحاولة وضع مقترحات لإمكانية تعديل المشهد القائم في تلك المنطقة. المحاور الرئيسية التي تدور في فلكها الدراسة هي سياسة أميركا تجاه الشرق الأوسط، والتحول الديمقراطي فيه.
تنطلق الدراسة من مسلمة تفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد بلورت أفكار جدية لصوغ الشرق الأوسط بشكل جديد بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وفي هذا الإطار تم تصنيف الحرب على العراق ضمن أولى الخطوات نحو الشرق الأوسط المنشود، والإقرار الضمني بالحرب على لبنان، ورفض نتائج الانتخابات الفلسطينية، كلها كانت على طريق الصياغة الأمريكية للشرق الأوسط، تحت مظلة الديمقراطية من وجهة نظر أمريكية.
لكن الدراسة وفي مقدمتها تشير إلى أن المقارنة بين ما طرح من أفكار لتغيير الشرق الأوسط في العام 2001 وبين ما تم رصده في العام 2008 تدلل على أن التغيير حصل، لكن خلافاً لرغبات أميركا.
ويمكن استقراء تلك المتغيرات التي وردت في الدراسة، وتوضيحها في الآتي:
- العراق منقسم ممزق، لا مؤسسات ولا ديمقراطية، ورغم التحسن التدريجي في الأمن، إلا أن الدراسة وصفتها بالدولة الفاشلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
- إيران مستمرة في التخصيب إلى جانب المراوغة السياسية.
- نمو متزايد للحركات الإسلامية وضعف متسارع للحركات الليبرالية.
- انقسام سياسي فلسطيني.
- تراجع التحول الديمقراطي في المنطقة.
- بزوغ الانقسامات المذهبية والطائفية.
تشير الدراسة إلى أن الولايات المتحدة ليست وحدها من أدت إلى هذه المتغيرات وإن كانت العامل الأهم، فهناك حركات ودول في الإقليم ساهمت في ذلك.
وبغرض توضيح الإشكاليات التي واجهتها أميركا في الشرق الأوسط، قسم القائمون على الدراسة الاشكاليات إلى 3 ساحات، هي في الحقيقة مترابطة إلا أنها لضرورة التحليل الموضوعي تطلبت الفصل.
أولا: الساحة الإيرانية العراقية:
تحت بند حقائق الشرق الأوسط تم إلقاء الضوء على هذه الساحة، حيث توضح أن العلاقات الايرانية العراقية اضحت أكثر تعقيداً بعد زوال صدام، ولم يعد ممكناً تفعيل أي سياسة جديدة في العراق بمعزل عن الموقف الإيراني، مشيرين في الدراسة إلى ثلاث حقائق يعيشها العراق الآن:
1- العراقييون، من شعب لا يسمح له بالحكم، إلى شعب يحارب نفسه من أجل الحكم.
2- العراق دولة كبيرة من الصعب ضبطها بقوة خارجية فهي ليست مثل البوسنة.
3- إخفاق أميركا والعراق في وضع خطة مفصلة لكيفية إخراج العراق من الوضع الحالي، الا أن الأكراد في العراق هم الوحيدين من يملكوا رؤية واضحة لماهية وضعهم وما يتطلب فعله من أجل مستقبلهم الخاص، أما بقية الاطراف العراقية فلا يوجد لها سياسة ثاتبة واضحة.
أثناء معالجة ملف العراق يشير الباحثون في مؤسسة كارينجي أن الولايات المتحدة ترفض تماما تقسيم العراق، حت على مستوى خفيف، ولذلك تقوم بدعم الجيش العراقي كقوة مركزية.
بالنسبة لإيران، فقد كانت تطمح الولايات المتحدة من حربها على العراق إلى محاصرة إيران عسكريا، كما أن نهوض الشيعة في العراق بعد زوال صدام سيحول مركز الشيعة من قم إلى النجف، لكن واقع الحال بعد الحرب جاء معاكساً تماماً؛ ففي ظل الفوضى الأمنية والسياسية في العراق أصبحت طهران لاعباً مؤثراً في السياسة الداخلية الإيرانية، وبدلاً من أن تصبح القوة الشيعية في العراق هي المركز، بقيت الحوزة العلمية في قم مصدر القوة الدينية. كما أن قوى المعارضة الإيرانية لم تستغل الحرب على العراق لاستلهام الانقلاب على النظام الديني في طهران.
ومن الحقائق التي تسجلها الدراسة في المشهد الإيراني:
- تراجع الحياة الديمقراطية في عهد أحمدي نجاد.
- إيران أصبحت قوة إقليمية أكثر تأثيراً من السابق.
- إيران أصبحت مصدر تخوف بعض القيادات العربية مما أسموه "الهلال الشيعي".
- تعاظم العلاقات الإيرانية مع شيعة العراق، بشكل جعلها أكثر تأثيراً على مجريات السياسة الداخلية العراقية.
- أميركا لا تمتلك سوى الخيار العسكري لإحداث تغيير في السياسة الإيرانية.
- إيران رغم عداواتها لأميركا منذ ثورة الخميني، إلا أنها باتت تفضل منطق الدولة على الاعتبارات الأيدولوجية، فهي استعدت لإبرام صفقات مع أميركا تتضمن دعم حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية وتحويل حزب الله إلى حزب سياسي فقط، وهذا الاستعداد أنكرته أميركا.
ثانيا: الساحة السورية اللبنانية:
هي ساحة أخرى؛ لكن أطرافها حسب الدراسة هم ذاتهم إيران وأميركا. الدراسة تشير إلى أن حقيقة التوتر في العلاقات اللبنانية السورية أو اللبنانية الداخلية تعود لمواجهة أخرى بين إيران وأميركا. فهي ترصد العلاقة القوية بين سوريا وإيران وحزب الله كنقيض لقوى 14 آذار. تشير الدراسة إلى أن سوريا واجهت أميركا في الحرب على العراق وتغاضت عن المقاتلين الذين يعبرون حدودها إلى العراق، متسببة في توتير العلاقات مع أميركا إلى الحد الذي دفع الكونغرس إلى سن قانون محاسبة سوريا، رغم أن الأخيرة قد توافقت مع أميركا مراراً بخصوص نفوذها في لبنان خصوصاً إبان حرب الخليج الأولى حين كانت أميركا بحاجة إلى موقف سوري مؤيد للحرب. ما يخلص له الباحثون من خلال مراقبتهم للسياسة السورية، أن أميركا لم تفلح من خلال الضغط أو اللين في تغيير سياسات سوريا بشأن قضايا المنطقة.
في لبنان، ترصد الدراسة الحقائق التالية:
- ضعف الجيش اللبناني رغم انسحاب سورية.
- سورية خرجت من لبنان لكنها أبقت على حليف سياسي قوي هو حزب الله.
- ازدياد الانقسام الطائفي في لبنان بعد انسحاب سورية نتيجة للتهافت على السلطة
- الحرب الإسرائيلية على لبنان لم تنه حزب الله، بل عززت من وجوده.
ثالثا: الساحة الفلسطينية الإسرائيلية:
الدراسة تجزم أن حل الدولتين أصبح أنقاضاً، ولم يعد هناك إمكانية له في ضوء الوضع القائم المتمثل بـ:
- ضعف السلطة الفلسطينية وعدم قدرتها على الايفاء بالتزامات الدولة.
- غياب ثقة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بإمكانية قيام الدولتين.
- عدم جدية أميركا وإسرائيل في السلام.
أميركا اتبعت سياسات أكثر حدة فيما يخص الفلسطينيين، فقد عزلت عرفات حتى وفاته، وقد تعاملت بسلبية مع نتائج الانتخابات التشريعية 2006، ودعمت قبضة فتح على مؤسسات السلطة، بشكل أسمته الدراسة من الناحية القانونية، انقلاب على سلطة حماس وحكومتها المشكلة قانونياً وفق الانتخابات، ولم تتذكر الولايات المتحدة عملية السلام إلا في آخر أيام إدارة بوش في ظل ظروف لا يمكن أن تدعم السلام، فعقدت أنابوليس الذي لم يثمر شيئاً.
السياسة الأمريكية حسب الباحثين في هذه الدراسة، قاصرة وعاجزة عن التفكير في المستقبل، فهي قادت الفلسطينيين إلى أن يقعوا تحت ضغط حكومة غير ديمقراطية بقيادة سلام فياض الذي لم يحصل سوى على نسبة بسيطة في آخر انتخابات، وحركة فتح المنقسمة على ذاتها التي خسرت الانتخابات لكونها منظمة فاسدة، وحركة حماس المسيطرة بشكل غير قانوني على غزة رغم فوزها في انتخابات قانونية في كافة أراضي السلطة.
الانتشار النووي :
وهنا يمكن القول أن الدراسة أظهرت الإزدواجية الأمريكية بشأن هذا الملف، فهي لا تثير أي جدل حول سلاح إسرائيل النووي في الوقت الذي تحاول فيه منع إيران من تخصيب اليورانيوم، ومع ذلك فإن إيران بعد الحرب على العراق صممت على الاستمرار في التخصيب نتاج عوامل القوة التي باتت تمتلكها. الدراسة تعود بنا أيضاً الى إنهاء المشروع النووي الليبي، بشكل يجعلنا نطرح تساؤلات حول دور الولايات المتحدة في ذلك وهل هو إنجاز لها أم لا؟ هل هو أخذ العبر من الحرب على العراق، أم هي سياسية أخرى نابعة من ارادة القذافي؟
الحرية والديمقراطية:
بدا واضحاً حسب الدراسة أن أميركا ساهمت في تردي الوضع الديمقراطي في الشرق الأوسط ليس وحدها فحسب بل الأنظمة العربية أيضاً. كما أن أميركا هدفت إلى دعم الاستقرار السياسي في كثير من الدول العربية بغية تأمين التدفق الطبيعي للنفط. وهنا باتت الديمقراطية رهن عدة تناقضات فبينما تؤكد أميركا على دعم الديمقراطية فهي تتحالف مع أنظمة لا مصلحة لها في الديمقراطية.
أما المعارضة التي يمكن أن تحقق فوز في الانتخابات الديمقراطية هي الحركات الإسلامية التي تتمتع بتنظيم قوي متماسك، ورغم أن جزء واسع منها يدعم الانتخابات والمشاركة السياسية، فإن الدراسة تشكك في إيمان هذه الأحزاب في القيم الديمقراطية من خلال تساؤلات قدمتها حول الأذرع العسكرية لهذه الحركات مثل حزب الله وحماس. وهنا تخلص الدراسة إلى أن مسيرة التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط تحتاج إلى إطار زمني أطول مما هو مطروح.
التوترات الطائفية:
من أبرز الحقائق التي رصدتها الدراسة في هذا الملف:
- التسيس الواضح للمذهب الشيعي.
- تزايد التمييز ضد الشيعة في البلدان العربية وخاصة السعودية والبحرين.
- تزايد التخوف في البلدان العربية من المد الشيعي وترجمة ذلك إلى علاقات متوترة مع إيران.
مقاربة حول الشرق الأوسط الجديد:
يخلص الباحثون من خلال مراقبتهم لوضع الشرق الأوسط إلى أن سياسة أميركا في المنطقة لا تلبي طموحاتها، والأجدر بها ترشيد وتقويم تلك السياسة بشكل يضمن لها هدفين فقط، هما:
- تأمين تدفق النفط.
- احتواء العنف القادم من الشرق الأوسط.
حسب الدراسة فإن تحقيق تلك الأهداف يتطلب الآتي:
- حل تفاوضي مع إيران بشأن الملف النووي، رغم عدم ضمان جدوى الحوار مع إيران.
- دعم السلام الفلسطيني الإسرائيلي بشكل جدي، من خلال تعزيز حل الدولتين عبر التوافق الفلسطيني الداخلي، وعدم اشتراط إقرار حماس على المفاوضات. بالإضافة إلى وقف إسرائيل أي نشاط يقوّض حل الدولتين بما فيها الاستيطان، والتفاوض وفق المنطق التبادلي بخصوص الأراضي.
- خلق توازن قوى جديد يضمن تحقيق ما ترغب به أميركا دون وجودها الفعلي.
- الخروج من العراق، بعد أن تقوم أميركا بمساعدة القوى الدولية في جمع كافة الأطراف العراقية من أجل التوافق.
- تخفيف حدة التوتر مع سوريا، ودعم المصالحة في لبنان.
فيما يخص التحول الديمقراطي، تشير الدراسة إلى أن مصالح أميركا القريبة والبعيدة المدى لا تتضمن الديمقراطية، وإن أرادت أن تساهم بحق في التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط فذلك يستوجب شرطين: الأول تحديد مفهوم التحول الديمقراطية والتفرقة بينه وبين تقويض الأنظمة المعادية للديمقراطية. الثاني: الاستعداد لقبول نتائج الديمقراطية مهما كانت وذلك يتطلب دراسة دقيقة لوضع المجتمعات العربية.
المآخذ التي يمكن تسجيلها على هذه الدراسة:
أولاً: التجاهل غير المبرر للدور التركي في التأثير على السياسات الشرق الأوسطية، وموقفها من الحرب على العراق، وعدم الحديث عن نمو دورها في المنطقة بشكل قد يؤثر على التوازانات في المنطقة، كما أن التحولات الداخلية في تركيا باتجاه صعود ذوي الجذور الإسلامية متغير مهم لم يتم نقاشه، إضافة إلى العلاقة مع إسرائيل وإيران وسوريا.
ثانياً: عدم مناقشة دور إسرائيل في محاربة نتائج الديمقراطية في السلطة الفلسطينية، كما أنها تقدم مغالطة بشأن مسؤولية السلطة عن ضعفها، وهذا أمر تتحمل مسؤوليته إسرائيل، فهي التي قوضت بنية السلطة وحاصرتها.
ثالثاً: بخصوص التعامل مع إيران ومع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تقترح الدراسة حلولاً، كانت قد نفت إمكانية تطبيقها في بداية الدراسة، وهو ما يمثل تناقضاً بين المعالجة والاستنتاجات.
رابعاً: وهو الأهم، أن الدراسة تقوم في بعض جزئياتها على افتراض أن أميركا لم تكن ترغب فعلاً بالنتائج التي حصلت بعد الحرب على العراق، وهذا الافتراض يدحضه العديد من المراقبين، من أن أميركا كانت تعلم جيداً ما سيحصل وأنها تهدف إلى ذلك، وأسمته بالفوضى الخلاقة.
خامساً: استخدمت الدراسات عبارات قيمية حادة مثل وصف العراق بالدولة الفاشلة، والأصح أنها دولة مجبرة على الفشل بحكم الاحتلال وما اقترفته أميركا بحق العراق، وإن كان تعامل العراقيين مع الاحتلال جاء فوضوياً، إلا أن المسؤولية على الاحتلال الأمريكي.
باحث ومحلل سياسي فلسطيني، ماليزيا.
"حقوق النشر محفوظة لموقع "قاوم"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"
التعليقات (0)