تحملك الحواريات تلك النوابت المقيمة في مأوى وجود النص وفي مدن الأدب الحالم متنفسا لرحيل في الزمن العابق بريح الأسطوري ، أليس الأسطوري أداة تعبيرية في الأدب تمنح الكاتب فرصة لقول وإنشاد ما لا يمكن قوله أو إنشاده في لغة المفاهيم المجردة الباردة والخطاب المنهجي المنظم والمقولب. في جو احتفالي أسطوري ينمحي الزمان في المكان فيغدو " مسافة مشرفة على كل شيء " كما تقوله إحدى الحواريات. هي مسافة للعشق وبين العشق والعشق عشق يمد جناح خياله معانقا إنسان متردد بين منزلة الرجل والمرأة وبين الرجل والمرأة "تفاحة وخطوة" إنها أسطورة البدء والابتداء منذ آدم وحواء تعبر عنها الحوارية في لغة الرمز الحية المتوهجة يبحث "هو" عن "هي " شطر ونصف يكمله ويسكن إليه ويسكن إليها لباس لها ولباس له . " النبيل " "الفارس" "الولد" كلها دلالة حلم متوهج لصيرورة مختلطة بالحلم المتوهج بالصبح بالخيال بالأحاسيس والشعور . لغة شاعرة راكضة نحو المستقبل البعيد تود الإنفلات من رقابة القوالب الجاهزة المحنطة للوعي والشعور معا . وكأننا أمام ذات تتقن فن العبث والتمرد على الجمود والتقليد لتتفرد بفضاء أسلوبها الواعد بالتحرر والخيال منشأة انشاء طقوس كتابة نثرية سحرية عجائبية عجب الأسطورة في استجابة مطمئنة لحركة الوجود الصائر للأبد في ثورته وتوهجه البركاني وانقلاباته الصارخة بالتناقضات المفرطة إنها حركة بحث مستمرة عن ملامح نص يتشكل بوحا أسطوريا مثقل بالرمز والدلالة منتصر لجدل الخلق المستمر نص يأكل كلماته وتأكله ليفنيا معا انبثاقا نص أثيل يؤصل كيانه في لغة ضاد طامحة نحو التجدد روحها وقولها وفعلها. لغة رمزية تفيض معنى تلاعب الوجود ويلاعبها ليستحيل فضاءها لعبا بالوجود.
ذلك نشيد الحوارات الجبار نشيد الخلق والعلو والتحليق .إنه نشيد سيريالي بطعم لذة النص المحبوك بفعل الكتابة المتشبعة بالصور النثرية ذات كثافة تعبيرية رمزية فتختفي الروابط اللغوية وتحل محلها كتابة مقطعية متمردة على تنميط الوجود فاسحة المجال أمام حركة الخيال الجامحة إنها طاقة فوق خيالية تعانق خيال المطلق أو هي خيال الخيال حيث تكاثر واطراد العناصر الأربعة "الهواء" "الماء " "النار" "التراب" فيتكاثف الكلم إيحاء وترميزا في حركة توليدية وإخصاب عجيب تتحول الكلمة الواحدة الرمز إلى نص يسير نحو تسكين معنى جديد لقول سابق في دلالة على أن الحوارات كون تأويلي منفتح الآفاق على كل مريد للإبداع إنه كون بإمكانه أن يحتوي الجميع بمختلف أطياف القول لتتولد هوية تركيبية تتسع لزمن بدء القول والفعل وما بينهما من انبعاث وتحول وكون وفساد . أيس وليس و ما بينهما تجاهد الذات باحثة عن ذاتها في حركة صراع الأضداد سكون وحركة صمت وكلام ألم وأمل فرح وحزن.
إنها تعويذة موسيقية لروح والجسد معا للإنسان والعالم وأشيائه إنها إيقاعية الوجود كله وهو ينشد إلى أجزائه وينشد مطلقه. هي ترجمان لأشواق الحياة الطافحة بالحب واللذة والرغبة و الفن باعتبارها أشكالا مختلفة لمغازلة الزمن الجليدي وترويضه حلما جميلا ممكنا. تصيره زمن لركض فرحا بلقاء الخلود وقد صار تشكيلة للوحة موناليزية الملامح تقفز منها ملامح "مريم" "النائمة البتول "مريم الضاحكة حزنا والغامضة وضوحا والنازلة صعودا والغائبة حضورا والمكتملة نقصانا .
أليست بهذا المعنى الحواريات تعبيرة فائقة عن الزمن الهيرقليطي فينا زمن الصيرورة الصائرة المتجددة التي تنبئ بالإنسان المقياس الذي لا يمكن أن يستحم في نفس نهر الحوارية مرتين . تلك هي صورة الجدة والتجدد انقلاب أدبي فاخر على فنون الحكي التقليدي فلا صوت يعلو فوق صوت سيلان الكلمات الديونوزية المختمرة بلذة الانبعاث من "اكتمال المشهد وتناسب الصورة " أي مشهد أبلغ من مشهد مكتمل وأي جمالية ترتقي إلى مستوى جمالية "تناسب الصور" هل هي صور الأليتيا المستحدثة في حركة النص معلنة أفول عصر الشعر المقيد بميزان الشعر وصوت القافية والتفعيلة معلنة انتصارها على عصر ظل يطمح الانفلات من قبضة الشعر الكلاسيكي الذي ينتصر دون استحياء لشكل على حساب عمق الفكرة والشعور. لقد حل عصر الحواريات عصر الكتابة المقطعية الحرة حرية الإنسان الذي يبني ويبيد ، ويبيد ويبني في فعل جدلي لا يفنى بفناء الإنسان.عندها تكشف الحواريات عن مشروعها الأدبي بما هي نص تعلن فيها زواجها العلني بالفلسفة وأخيرا الشعر و الأدب ليس خارج مدينة الفلسفة بل هو مدينة الفلسفة وعاصمتها المستقبلية لن تطرد الفلسفة بعد اليوم الشعر والشعراء لأن الفلسفة قد صارت في الحواريات شعرا منثورا كما تحول الشعر المنثور إلى فلسفة. نجحت الحواريات إذن في اقتلاع جنسها الأدبي الفريد بها بعد أن تمكنت من خلع حجاب التحجب فنزعت عن الوجود فن الاختفاء في ثياب اللوقوس؟
إن الحواريات بهذا المعنى نص مكتنز برغبة البوح بلغز الوجود كلماته دفئ حميمي وعطر يتدلى عذوبة وصدق أحاسيس . هذا الازدحام على بوابات الشعور يجعل من الحوارات نص منتفض ضد كل حسابية وهو نص يحطم بمطرقته التعبيرية قاعدة تقليد أدبي ففي سكن القارئ للحوارات قراءة وتمعينا يكتشف أنه لم يعد" أعذب الشعر أكذبه" بل أعذب الكلمات تلك التي تقول حقيقة الحلم الممكن الذي ينتظر عند الشرفات المطلة على الأفق المجاور للحلم " يروى ... أن أحدهم امتشق سلم السماء" إنه صوت الحكاية القادم من زمن أسطوري ما " و راح يبحث عما تبقى من قدرة "
و يتواصل الإنشاد الأسطوري " حيث الأساطير و الخرافات " طريق لتمجيد زمن ينشد عبق الخرافة والخيال التي تتقن صياغة فن تورط الإنسان في البحث المضني و المستمسك بأمل بزوغ قصة وجود يقارع بها مصيره فيلقى حتفه في القدر و كأننا أمام نص ملحمي يصطخب فيه الوجود الإنساني ويرمي به سيزيفا في منزلة تتردد بين الإنسانية والحيوانية و محاكاة للفعل الالهي من خلال "الفن والحب والجمال" فتتحول الحواريات بذلك لفن قص يلتحم بفن الحياة . إنها تغريدة نيتشوية تعانق فيها إرادة الحلم إرادة الحياة فتنشئ نشيد نص إنساني يعلن فيه انتصار إرادة الحياة على إرادة العدم. وكأننا أمام نموذج إنسان وهو يحتضن الكون فهل تقلب الحوارات في كل انبثاق للكلم تلك المعادلة التي ترى في الأرض أم الإنسان ليصبح الإنسان أما للأرض وأي قول يعنيه "عندما يعانق الإنسان الكون بذراعين " كما تعانق الأم وليدها وتحنو عليه بحنان . هل يكون ذلك نتيجة إحساس الحوارات نص وجود بحجم الدمار الذي ألحقه الإنسان بالأرض عبر تضخم جسده وضآلة روحه وعبر تقديمه أولوية الميكانيكا على التصوف . فهل معنى ذلك أن الحوارية عبر فعل التشخيص للواقع المريض وفضحه وتعرية أوهامه عن التقدم وتقديسه لصنمية العلم الوثوقي تبشر بقدوم الإنسان المتفوق على ذاته الذي تحتاجه حضارة العربي وهو طموح ممكن ومشروع حلم يسكن ذات تفوقت على ذاتها وأعلنت نفسها سليلة الآلهة ليفيض عنها وجودا متكثرا يؤمن بالتعدد والاختلاف والتجدد.
لذلك تفرد الحوارية مكانا للقول في الفن والحب والجمال يتحول الكون عبرها إلى قلم وفرشاة" في يد الإنسان الفنان ذلك الذي يخلق من " العدم" نص يسطر ملحمته الخالدة تصير الحلم حياة والحياة حلما "صارت الحياة كلها بلون الحلم " أفليست الحياة حلم بطعم حلم الحياة وكدح متواصل ضد ضد المشاعر والأحاسيس ومطاردة للأقانيم الجامدة و انفلات من عقلانية فجة " متناسيا لكل المعادلات الحسابية والكميائية" .
إنها لحظة تمرد ديونوزية وبحث عن خلاص أبيقوري ينشد لذة لا يتبعها ألم و عقل لا يتبعه اغتيال خاصة وأن العقل المنهجي قد غدا عقلا مشبوها متورط ومنغمس في مجون تشييئية الصيرورة وهاهي الحوارات تأتي كحركة احتجاجية ضد هذا التوحش الحضاري ضد كل تقدم يحتفل في رواق معرفته بعبادة الشيطان فيسقط القناع عن القناع وتزيح شبح العدمية الذي أنجبه الإنسان القادم من زمن العدد والكم والكيف " يراقص العدم والعبث مفقرا الوجود من هيبة المعنى فحل الكابوس" لتتكثف النهايات ,
إن الحوارات إيتيقا جديدة للحياة تدعو الإنسان للانتصار للحياة و إزاحة العدم وترحيله من أفق الإنسان فهي صرخة الضمير المحتج على عصر بداية النهايات "موت الإله موت الإنسان ونهاية التاريخ " " وانطلقت الرصاصة لتسكن الحلم لتكتم أنفاس الكلام والحوار " وتظل الحوارات تصارع ظلمة ووحشة ديجور الوجود غير عابئة بانهيار عمارة القيم مبشرة بانقشاع غيوم عصر الشيئية "ليستيقظ الصباح ذات صباح على حلم جديد " حلم بحجم أنثى بطعم الأمل والحب و الانبعاث " معلنا اتجاه حركة الوجود الجديد " في الطيران صوب قلبه" ولئن اختار هذا الحلم التحليق بعيدا في سماء اللاتناهي إلا أن هذا التحليق لزال ينطلق من تدشين عصر الخراب المخيف " ... والخراب ومستحضرات التهجين والأمصال المخيفة" إنه انتباه للحضارة القلقة وكأن الحوارات على وعي تام بحجم الكارثة والهبوط الذي بلغه عصرنا وحجم المؤامرة المحاكة ضده لقد وعى الكاتب أن عصره يعيش حالة شقاء الوعي والوعي الشقي من فرط جهله بنفسه فراح الكاتب ينهل من معبد دولف أسرار معرفة النفس منصتا لصوت الحكمة السقراطية "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك" لتنصهر الحكمة اليونانية مع حكمة التوحيد وما بين حكمة أثينا وحكمة الشرق كونية المغفرة ينشدها الكاتب ويرتلها خلف كل صلاة تهمس بها حنجرة المهمشين " غفرانك يا الله". نداء استغاثة وطلب خلاص لإنسان مرغ الكرامة الإنسانية في وحل خيانة الأمانة التي قبلها ورفضتها الجبال إنه كان كفورا جهولا " من هنا كانت الخيانة وستمارس بعامل الحقد ألف خيانة" . وهكذا تظل الحوارات تبحث عن أرض الميعاد الممكنة للخير والسلام والحب والحلم قد تكون "السحابة السابعة" الحوارية التي تناطح كلماتها أفق ما يجب أن يكون وما يجب أن يكون يسكن فضاء الله اللامتناهي وهنا يتكثف معجم ميثولوجي مطرز بعبق المساجد و"الأولياء الصالحين والله والضريح والآيات وتلاوة القرآن ورائحة المباخر" وكأننا أمام طقوس عيد ديني يعد بعد اكتمالية احتفاليته بهطول القيم إنها نوع من صلاة استسقاء القيم لتروي الأرض العطشى إليها لتنبت شجر طيب طالما طاردها الكاتب في أحلام حواراته "لتكبر الحكاية" في بلد القص والحكاية هل هو النذر الذي انتظرته الآلهة طويلا ليكفر به الإنسان عن إثمه وينشد من خلاله خلاصه ؟
إن الحوارات هي القربان الذي على الإنسان السير على خطاه لتقرب به من الآلهة وليدفع به بلاء تصحر وجوده من المعنى وانفلات الحقيقة منه تلك الحقيقة الضائعة التي دفع بروميثيوس ثمنها باهضا . أتكون الحوارات هي النار التي يحتاجها عصرنا الراهن لينتصر بها على العدم وليتمكن الإنسان من انجاز مشروع ذاته مادام الإنسان هو مشروع لم يكتمل بعد؟
التعليقات (0)