الجمع بين الماضي البعيد والحاضر القريب في عمل روائي ليس بالامر اليسير، خاصةً إن كانت الكتابة عن عمل تاريخي يشارك فيه العديد من المتطلعين، القيادي والشخصيات العامة. أخرج لنا الكاتب الدكتور سيف الاسلام بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود ، وهو أمير سعودي وأحد أبناء الملك سعود الراحل، هذا العمل الذي تم توظيف محتوياته بعناية فائقة، شخصياته، بيئته، ماضيه وحاضره، والتقاء الجسد والروح في متاهات الزمن، حين تبحث عن متع وعن ثروة، واهية، شفوية المنال.
الكنز التركي ، رواية منفردة البصمة، حصلتُ عليها قبل عام، ولم أقرأها إلا هذه الأيام. رواية لها أحاسيسها وتعبيرها الخاص، استنزفت من الكاتب 238 صفحة مكتنزة بعلم الكلام والأحداث المتناوبة، ومشاهد متضادة، حملت في فصولها، النهايات والبدايات، الحب والحرب، القيض والمطر، والشيء واللا شيء. انتقيت عناصرها بعناية، لتضع كل فصل في سيل جارف من المعاني والمسببات والتعليلات.
يبدأ الكاتب روايته باهتزاز إحدى عربات قطار البريد والجند المنطلق من الشام، سنة 26 مارس 1917م، اهتز معها بعنف ما في داخل مختار بك، أحد أبطال الرواية، لكنه البطل الأهم، وكبير مهندسي خط حديد الحجاز العتيد. كان مختار بك مشتت الذهن، منكسر الروح، دامع العين وهو ينظر لآثار ليلة التخريب السابقة في منشآت المحطة التي غادرها القطار، قبل لحظات، مخلفاً وركابه شواهد عنف عربان لورنس، الذين يدعون وهم يتسلمون ذهب ذوي العيون المختلفة عنهم كلياً، بأنهم يناصرون الثورة العربية، التي أشعل أُوارها قبل أقل من سنة الشريف الحسين بن علي ضد الأتراك وخلافتهم المتهاوية.
كان أول الأحداث (الأكشن) هو مرور رصاص فوق رأس كبير المهندسين العثمانيين، الذي دفع الجميع في قاطرته للانحناء الشديد إلى حد ملامسة أرضية القاطرة. هكذا يوضح الراوي وضعية الموقف واجبار مختار بك للانبطاح اللاحق حين كانت عيناه تبحثان عن شيئين مهمين جداً له، رسالة زوجته فاطمة خاتون، ورسالة أخرى سرية يرتبط محتواها وأرواح العديدين من جنود السلطان المحاصرين في شريط ضيق من الأراضي الحجازية، أنها رسالة تتعلق بسبائك الذهب المرسلة، عبر إحدى القاطرات للحاميات العثمانية في الحجاز، وكيفية توزيعها على الجند وقادتهم، وعلى رؤساء القبائل العربية، الذين مازالوا على قلتهم حائرين إلى أي جانبي القتال ينحازون؟! حيث تدور الأحداث فيما بعد حول الرسالة وما تلاها من تأويلات وخريطة لموقع الكنز المخبأ والتائه، والغرام الذي اختاره مختار بك لنفسه، من قصص حب وعشق ووله وأيام خوالي.
لكن الغرام يقف عند حده، وتطغى شهوة الكنز التي راح تحسين الفواز الأردني يحاجج بها مهند السعدي السعودي البطل الرئيسي وكاتب المذكرات، في بداية أخرى ومختلفة، في القرن الحادي والعشرين، ما بين سنة 2001 حتى 2006م ويعلل (تحسين) له (مهند) عثوره على الرسالة المفقودة من العهد العثماني، وتتعدد المسالك .. حتى استمر العمل الجاد والمرهق للبحث عن الكنز المفقود في الأراضي الحجازية، والتي تؤكد أكثر من خريطة مشابهة بوجوده في المدينة المنورة. لكن المفاجأة العظمى والخيبة الكبرى هي أن المكان الذي دلت عليه خريطة تحسين الفواز كان خالياً من أي شيء ذي قيمة سوى من هياكل وأسماء جنود يبدو أنهم من المحاربين الأتراك الذين قاوموا هجمات الثوار حتى آخر طلقاتهم.
الكاتب نجح في اقناع القارئ بأسلوبه الجذاب وتطويع الكلمات المذهلة في رسم صور الأحداث وربطها بخيوط متينة، ولاعتبارات فنية وواقعية يخرج بحبكة متناسقة متباينة، رغم بعد الأزمنة وطريقة تفكير شخصياتها المختلفة، إلا أنها كانت تصب في مصب ضيق منتقى بشكل فني بديع. ذلك ما حاول الكاتب تصويره كمثال بشري، لأن السعي وراء الوهم والتركيز عليه وترك أمور الحياة الأخرى المختلفة يعد وضاعة وتقليل من الشأن، وهو ما ظهر واضحاً عند ربط آخر الخيوط وتوقف آخر الأحداث مع التاريخ المأساوي لظاهرة سوق المال السعودي في شهر فبراير المشؤوم في سنة 2006م.
الرواية طبعتها الأولى كانت في عام 2007م هذا يشير أنها لم تأخذ وقتاً طويلاً من الكاتب،إضافة لكتابته رواية طنين التي صدرت عام 2006م ويشير أيضاً أن لديه قلماً رناناً وإطلاعاً زاهراً بالمعلومات التي لا يتسع المكان للوقوف على عتباتها، حيث التغلغل في أدق التفاصيل الزمنية والمكانية وحتى الشخصيات وما تفرخه من أوهام. ولن تدعك الرواية تترك لا شاردة ولا واردة حتى تصل إلى آخر كلمة فيها.
التعليقات (0)