... إن تفكيك اللغة وإعادة تشكيلها وفق رؤية جمالية يعد سمة بارزة من سمات الحداثة الشعرية، غير أن تقريرية المشهد الشعري وواقعيته تجنح بهذا التحديث إلى عالم مضموني (أديلوجي)؛ حيث تتربع الرؤية الواقعية/ الثورية، التي تجعل من جسد القصيدة جسرا حديديا لحمل الدلالات الفكرية المنبثقة عن ذلك التصور اليساري الواقعي.
أما تشكيل هذه اللغة فإنه يقوم على ﺍكتناه العلاقات بين عناصرها ودلالاتها المرتبطة بالسياق، والشاعر يقوم بعملية التشكيل مكانيا، عبر بناء الوحدات اللغوية وتركيباتها الدالة التي تشغل حيزا في المكان، كما يشكل النص زمانيا عبر تعاقب المقاطع الصوتية التي تشغل حيزا زمانيا.
وقد تجلت هذه المزاوجة في قصيدة الشاعر الراحل معين بسيسو "مسافر" بين واقعية اللغة الشعرية، وثورية الإيقاع الحداثي، الحامل لشيفرات الثورة، وجلجلة التصعيد، دون أن تخلو من تعمية تنبئ عن مرارة شعورية لواقع لم تشكله طموحات المد الثوري، بل استجابت له ضمن قاعدتها الجدلية، فكان التناول الواقعي لها فيه الكثير من الندب والنقد والتهكم - حيث برزت المفارقة كواحدة من التقنيات الأسلوبية الحاملة لشيفرة النقد الاجتماعي على متن قصيدة السفر: سَفَرٌ
سَفَرْ
موجٌ يُتَرْجِمُني إلى كلِّ اللّغاتِ ويَنكسِر
موجاً على كلِّ اللّغاتِ وانْكسِر
وَتَراً وَتَرْ
سَفَرٌ سَفَر
سُفنٌ كلابُ البحرِ أشرعةُ السُّفُنِ
وطنٌ يُفتِّشُ عَنْ وطنْ
زَمَنٌ زَمَنْ؟
هذا التمدد الزمني من خلال تكرار الأزمة الافتتاحية "سفر" يحيل إلى حالة شعورية تحاول رسم صورة واقعية (تشاؤمية) لواقع متشكل من أمواج مترجمة ومنكسرة، تحيل إلى ضياع وتعمية لأبجديات الحق الضائع "وطن يفتش عن وطن"، لكن هذه الجلبة الضبابية لا تبدو هادئة كما يصورها التسطيح الأفقي لهذا التمطي الزمني، بل إن الموج المتلاطم ينسجم مع تلك اللغة الثورية ليصنع هيكل التشكيل البياني لهذا التنميط الشعري "الثوري" أعني جلجلة الإيقاع وصخب الصوت الشعري. ولا أقصد هنا البنية الإيقاعية التي ستتخذ نسقا عروضيا حداثيا، غير أنني أحاول أن أفسر بعض الدالات الصوتية على خطاب ثوري يحمل قيما تعد بذورا للتجربة الشعرية الموجهة للنص، أي البعد الفكري لهذا النص.
الهُدْهُدُ المخْصِيُّ كاتِبُهُ وحاجِبُهُ ذُبابهْ
زمنٌ تكون به وحيداً كالفراشة في سحابهْ
ياَ من يعلّمني القراءة والكتابهْ
ياَ من يُسمِّنُني بأشرعتي وأجنحتي لسكينِ الرّقابهْ
تحيا الكتابهْ تحيا الرّقابهْ
يحيا على فميَ الحجرْ
سَفَرٌ سَفَرْ
الانتقال إلى عالم الألق الجمالي من خلال تلك الرموز (الهدهد - الفراشة) لا يقلل من واقعية اللغة ولا من ثورية الإيقاع؛ لأن اللغة الخطابية التقريرية المفعمة بعاطفة التصفيق تعود لتخفيف ذلك المحلول الجمالي المركز "تحيا الكتابة – تحيا الرقابة – يحيا على فمي الحجر".
أما الفاصل بين الشعري والواقعي في تشكلات اللغة فذلك مداره التفعيل الحيوي لدراميات متعددة، تحمل المفارقة التصويرية عبأه الأكبر في مثل قوله:
موجٌ يُعبّئُ بالنّوارسِ لي المُسدّسِ طلْقةٌ في القلْبِ نوْرسْ
يَا يَا زمانَ الماءِ سكّينٌ هو القنديلَ
سكّينٌ إذا اشْتعلَ الفتيلُ
وحينما تضيق اللغة الشاعرة عن تشكيل برج الرؤية الثورية لواقعية اشتراكية متوخاة يعود الشاعر لحقل القمح؛ ليشكل رموز واقعيته الثورية كما تعلمها سابقا في صفوف الحزب الشيوعي، مرسلا سلاماته الحميمة إلى عالمه الذي يؤمن به:
سلاماً أيّها المتراسُ إن ضاقتْ بكَ المُدُنُ
فما ضاقت بكَ السُّفُنُ
ويا قدماً زرعتُ القمحَ فيها وهي ترتحِلْ
شراييني التي قُطعتْ شراييني التي تصلُ
لماذا لم أزلْ حيّاً؟
أنا المطعون بالزيتونِ والعَنْبِ
أساعةُ حائطٍ للنَّارِ في السُّحُبِ؟
أتمثالٌ من اللَّهبِ؟
على قدميهِ قربانٌ من الحطب؟
أم الكبشُ الذي تركوهُ للمَعْزَى من العربِ؟
هذه العزلة الشعورية هي التي رسمت معالم التشكيل السياسي في دنيا الجريمة، حينما تركنا القريب قبل البعيد ضحية للمجازر التي كشفت زيف الخطاب العربي، وهنا تعود الثورة في إيقاعها المجلجل الرافض في درامية أخرى تقاد بلغة التهكم الكوميدي:
وأين غزالةُ العربِ؟
وأيْنَ يمامةُ العربِ؟
ورُمحُ الدّولةِ العربِي؟
وترسُ الدّولةِ العربِي؟
وبدر الدولة العربي؟
وشمسُ الدّولةِ العربِي؟
الكتابُ الأخضَرُ العربِي؟
وسَيْفُ الدّولةِ العربِي؟
الدلالة على ثورية الإيقاع تتشكل من خلال قيمتين متلازمتين:
قيمة غنائية تفرضها الموسيقى الشعرية العالية، والقيمة الدلالية لإشعاعات اللغة الخطابية المشكلة لذلك القاموس الثوري الشعري المقصود:
سَفَرٌ هِيَ النِّيراَنُ فَوْقَ الوَجْهِ طِينْ
والشَّمْسُ حَبَّةُ اسْبِرِينْ
جُنَّ النَّبِيُّ فَدَاوِهُ بالياَسَمِين
جُنَّ النَّخيلُ مِنَ الرَّحِيلْ
وَالبُرْتُقَالُ الإِنْتِهَازِيُّ الجميل
يميل حيث تميل كَفُّ الماَءِ
كيْفَ الرِّيحُ قَدْ مَالَتْ يَمِيلْ
خاَنَتْكَ عاَئِشَةٌ وَخاَنَ المُسْتَحِيلْ
ياَ أَيُّهاَ الدَّمُ لَوْ تَقُولْ
ياَ أَيُّهاَ الفَمُ لَوْ تَقُولْ
قُلْهاَ وَعِشْ
حَتَّى تَرَى
حَتَّى أَرَى
وَطَناً عَلَى رَايَاتِهِ اِجْتَمَعَ الفَرَاشُ مَعَ الذُّبَابْ
وَطَناً عَلَى أَجْرَاسِهِ اِخْتَلَطَ اليَمَامُ مَعَ السَّرَابِ
وَجَرَى الرَّنِينْ
وَشَبَّتْ النِّيرَانُ فِيهِ
جَرَى الرَّنِينُ سَلاَسِلاَ
اخْضَرَّ الرَّنِينْ جَدَاوِلاَ
اصْفَرَّ الرَّنِينُ سَنَابِلاَ
كَمْ قَالَتْ الأَمْوَاجُ
لاَ تَذْهَبْ بَعِيداً فِي المِياَهْ
كَمْ قَالَتِ الأمْواَجُ
لَوْ تَرْسُو قَلِيلاً فِي المِياَهْ
تَبْقَى قَلِيلاً فِي الموانئ
كَيْ نَرَاكَ وَلاَ نَرَاكْ
هذا السفر الشعري الثائر ينداح في تموجات عاطفية قلقة أحيانا، وواثقة في أحايين أخرى باحثة عن مرفأ الأمان لترسو عليه سفينة الخلاص، لكن هذا السفر يطول ويطول، سفر فراشي في دائرة القمر، سفر متعثر لسفينة عملاقة في عباب الصخر، سفر المراكب في لهب النيران:
سَفَرٌ يَطولْ
سَفَرٌ سَفَرٌ
سَفَرٌ الفراشةِ للقَمَرْ
سَفرُ السَّفينةِ في الحجرْ
سَفَرُ الثَّعالِبِ في عناقيدِ الدَّمِ
سفر المراكِبِ شبّتِ النِّيرانُ فيهاَ من يديَّ إلى فَمِي
يأْتي الرَّصاصُ إِليْكَ من كلِّ الرِّياَحِ الأَرْبَعُ
ثم هو سفر يواجه بحتف قاتل، وشرذمة مقلقة، تكسر أشرعته الرياح العاتية؛ ليصبح خيط معاوية حبلا لمشنقة المصير:
يأْتِي الرَّصاَصُ إِليْكَ
منْ كُلِّ الشَّباَبيكِ التّي فُتِحَتْ على كلِّ الرِّياَحِ
الأَرْبَعِ
كُلُّ الجِهاَتِ الأَرْبَعِ الآنَ تَعْرِفُهُمْ
وَتَعْرِفُ أنَّ خيطَ مُعاَوِيَهْ
هوَّ حبْلُ مشْنَقةٍ بكَفِّ مُعاَوِيَهْ
هكذا تلعب اللغة الشعرية في تشكلاتها المتموجة دورا بارزا في التمرئي(1) لخلق حالة من الانعكاس الواقعي في خضم الاضطراب المعرفي حتى تصبح الحقيقة الغائبة بوابة العبور للمستقبل القاتم، وهنا يدرك الاطفال قصة الضياع والسفر:
الآنَ تَعْرِفُهُمْ
وتعرِفُ أَنَّ أَطْفاَلَ المَداَرِسِ وَحْدَهُمْ في بِئْرِ زَيْتٍ
وَحْدَهُمْ في قَرْيَةٍ مَنْسِيَّةٍ
كُلُّ العَربْ الآنَ تعْرِفُ أَنَّ شَوْكَ الكَفِّ شَيْءٌ غَيْرَ
عُشْبِ الأَرْضِ
تعْرِفُ أَنَّ غَزَّةَ غَيْرَ أَشْباَحِ المُدُنْ
الآنَ تعْرِفُ أنَّ شُبّاَكاً
صغيراً منْ تُرابِ الأَرْضِ مفْتوحاً لوجْهِكَ
وحْدَهُ سَتُطِلُّ منه على الوَطَنْ
الآنَ تَعْرِفُ أنَّ للسِكِّينِ فُرْصَتَهَا وَصورتَهَا
وللقُرْباَنِ فُرْصَتُهُ وصُورَتُهُ
الآنَ تَعْرِفُ أنَّ منْشوراً بِحجمِ الكفِّ
مكْتوباً بِرمشِ العينِ في ناَبُلْسَ
أَبْقَى منْ جَراَئِدِهِمْ مُطَرَّزَةٍ بِأَسْلاَكِ الذَّهَبْ
الآنَ تعرِفُ أنَّ هذا الصَّمْتَ ذاَ الأَشْواَكِ مِنْ شِيَمِ
العَرَبْ
الآنَ تعرِفُ أنَّ صَمْتَكَ لمْ يَكنْ ذَهَباَ وَلاَ خَشَباَ
بهذه الجدلية تعيد اللغة صياغة الرؤية وتشكيل المضمون، وتعمل على نقل المجرد إلى عالم محسوس قادر على الإثارة حتى أن الصمت يتحول إلى دال رمزي يتمثل في عتبة عبور تعيد إلى الذهن ثورية الخطاب الصاخب الذي يحول النص من نص سكوني منكسر - مع ثورة الرياح العاتية- إلى نص ثوري لاهب مع قبس النور ولهيب النيران:
وَأَنَّكَ حينَ تَصْمُتُ يَصْعدوُنَ إِلى فَمِكْ
أَبَدأْتَ تُحصي أضْلُعَكَ؟
|
التعليقات (0)