مقدمة تفرض نفسها
لا وقت عند الطغاة لقراءة التاريخ والتمعن بعبره. قد يعتبرون ذلك وقتا ضائعا. وإنهم هم صُنّاع التاريخ وعلى الآخرين قراءته وقراءتهم. هذا التاريخ لم يشر إلى طاغية واحد على انه كان سويّا وبأنه ترك أثرا مرضيّا. ورغم أن الطغيان هو الطغيان, فان لكل طاغية صفاته ومكوناته وبصماته, وحتى هسترياته. ومع ذلك كل منهم ينتج ما قد أنتج من سبقه أو عاصره. ينتجون الطغيان.
لا لزوم للذهاب في التاريخ بعيدا, إلى بداياته, تكفي الإشارة إلى أحدث طغاته في أيامنا هذه في منطقتنا العربية, من سقط منهم ومن ينتظر. من منا من لم ير حسني مبارك وهو يميز نفسه عن بن علي التونسي مصرحا بان مصر (في الطغيان) ليست تونس, وليس هو بن علي, صدق نفسه وأراد أن يصدقه الجميع, ولكنه لم يصدق بأنه أنتج ما أنتجه بن علي من الفساد والطغيان. كرر هذا القذافي بان ليبيا ليست مصر, وبأنه لا يشبه مبارك في شيء, وهو صادق في ذلك إن تعلق الأمر بالصفات الجسدية والتكوين النفسي والهلوسة والبهلوانية, ومع ذلك مثله, بل تفوق عليه في إنتاج الفساد والطغيان. و ما زال الأسد مصرا على انه ليس زين العابدين, وليس حسني مبارك, و لا القذافي ولا حتى اليمني صالح. صدق الأسد في ذلك فهو لا يشبهم جسديا ولا يتطابق معهم في تكوينه النفسي. هو غير كل هؤلاء في واقع بلده, فقد رتب له والده سوريا, وزاد هو على ترتيبها ترتيبا. بحيث أصبحت لا تشبه أية دولة في العالم, وبالتالي زعماؤها لا يشبهون أي زعيم في العالم. مقتنعا بان سوريا تعودت عليه ورفعته إلى القدسية, تعودت على الدكتاتورية فأعجبتها, وعلى العبودية فتقمصتها. ومع ذلك لم يقرأ الأسد التاريخ القريب فقد قالوا له بأنه صانع ماهر للتاريخ, وليس لديه وقت للقراءة وأخذ العبر, ترك الأمور و تكريسها لأجهزته الامنية الموروث منها والمستحدث, والموالين له من جيشه, حسبما يقرؤون ويفهمون. لقد أنتج ما أنتجه سابقوه. أنتج الفساد والطغيان مضاف إليه إيغاله في سفك الدماء السورية, وإصراره على تدمير البلد مقابل أن يبقى طاغية. الأسد أو لا أحد.
الثورات كذّبت الادعاءات وأطاحت بعقود من الخزعبلات, وبينت كم هم أقزام ومجرمون هؤلاء الطغاة.
في سوريا أشعل الثورة أطفالها, فقد كانت قبل, أن تصبح ثورة متفجرة, إرهاصات ونذر ثورة في أعماق النفوس وفي الضمائر, واحتجاجات مقموعة بوسائل الإرهاب تنتظر اللحظة, ولكل ثورة لحظة.
اندلعت الثورة السورية, ثورة لا مثيل لها بين الثورات على نظام لا مثيل له بالقمع والإرهاب والتسلط والبطش والفساد. نظام قام على جهل وتجهيل في السياسة. اعتمد الأمن والمخابرات وسيلة للحكم وليس السياسة. ويفتخر علنا بأنه أشاد و يشيد دولة أمنية. أي أن لا دور للسياسة فيها. مغلقة في وجه كل مشاركة شعبية, لا تعنيها المؤسسات إلا إذا كانت أدوات أمنية, وأهدافها بالدرجة الأولى أمنية. وحتى الجيش بناه ليس لأهداف قامت عليها كل جيوش العالم حماية الوطن والشعب, وإنما لحماية النظام وسيد الوطنو سموه جيشا عقائديا, أي يقوم على عقيدة النظام ويخضع لتطبيقها والولاء لها. وهنا اختلف عن الجيش التونسي الوطني الذي أبى أن يطلق الرصاص على شعبه, وعن الجيش المصري بوطنيته وعراقة ماضيه وتقاليده, الذي حمى الثوار.
نظام يصر على الادعاء بان الشعب يقدس طاغيته ,ويثق به ثقة عمياء, وينتخبه في استفتاءات, وبنسب لا تقل عن98 بالمائة, ومع ذلك ومقابل هذه الثقة المزعومة يكافئوه , بإقامة 17 جهازا امنيا, وأعداد لا تحصى من المخابرات السرية والعلنية, ليس لمراقبة الاثنين بالمئة ممن لم يصوتوا له وانما لمراقبة الشعب كله في حركاته وسكناته (لأمن الوطن من تآمر المواطنين, وعل سبيل المثال أناط بالأمن الجوي مهام قتل المواطنين وقمعهم بوحشية, وكانّ هؤلاء يعتدون على الأجواء السورية).
الثورة السورية المستمرة منذ 13 شهرا ما زالت عند النظام مجرد عصابات مسلحة سلفية أو قاعدية, أو جماعات مندسة, تعمل ضمن مؤامرة كونية, تآمر فيها الكون باجمعه على النظام حتى لا تغير سوريا الأسد سير ومصير العالم وتنقله نقلات نوعية وحضارية تتفق مع الرسالة الخالدة, من هنا كان التأمر والمؤامرة المستمرة منذ 40 عاما دون انقطاع.
يسخر النظام دون وازع من أخلاق أو مسؤولية من شهداء سورية وتضحيات الشعب من اجل الحرية والكرامة الإنسانية, وبناء دولة ديمقراطية نقيض هذا النظام الفاشي الاستبدادي.
حين وضع أحرار سوريا (جبل العرب) بيانهم التأسيسي كانوا يعايشون هذه الحقائق القائمة ويدركون أبعادها و يكتون بنتائجها. لم يكن استنكارهم لها من لحظة صياغة البيان المذكور, بل منذ عقود. قدموا الكثير, مثلهم مثل أحرار وطنهم في كل بقعة فيه, أثمانا جسيمة من حرياتهم ومن لقمة عيشهم, وللسويداء في النضال ارث وتقاليد وتاريخ.
وحتى لا نذهب بعيدا تكفي الإشارة إلى بيان مثقفي الجبل قبل الثورة بسنوات حيث اعتقل من موقعيه من اعتقل, وطرد من وظائفهم من طرد وحوصروا في مجتمعهم بالتهديدات والاستدعاء الأمنية اليومية, واستعداء الآخرين من شبيحة (لم يكن بعد قد أخذوا اسم الشبيحة علنا, وإنما اسم مناضلين من الشباب الطيبين), والى بيان محامي السويداء قبل الثورة. وقد سبق أن اشرنا إليه في أكثر من مقال وحيينا شجاعتهم ونصرتهم للعدالة والحق, وهم معاونو القضاء والعدالة. وكذلك في اعتصاما تهم المتكررة لنصرة لأحرار في سهل حوران, وباقي المدن السورية, وقد حُوصروا من قبل الشبيحة ودخلوا عليهم في مقر نقابتهم واعتدوا على الكثير منهم. واعتصامات الأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين. واعتصامات الحرائر ... ونحن لا نحصي هنا المواقف وإنما أردنا القول بان الثورة في نفوس الأحرار عمرها في عمر النظام الفاشي.
عندما يؤكد البيان على أن أحرار الجبل في قلب الثور, وجزء لا يتجزأ منها ولا ينفصل عنها, فانه يؤكد على عمق الانتماء لهذا الوطن بكل مكوناته ويفوت اللعب بالأوراق الطائفية والمناطقية. وعندما يعلن بان من أهدافه ليس فقط الإسقاط الكامل والنهائي لهذا النظام الفاشي القاتل, وعلى إعادة السيادة للشعب صاحبها ومصدر السلطات, وبناء الدولة السورية الحديثة القائمة على سيادة القانون والمؤسسات, وعلى حماية الحريات الأساسية وحقوق الإنسان, وعلى فصل السلطات واستقلالها وتكريسها في دستور حقيقي يضع الآليات الكفيلة بحماية ورعاية وتنفيذ أحكامه, فأنه بذلك يعلن عن نهاية عصر الاستبداد, وبداية للتاريخ السوري يصنعها الشعب بكل أحراره وكل مكوناته. وعندما يتحدث عن الديمقراطية والمواطنة والمساواة وحقوق المرأة الفاعلة في الثورة والتي تنتظر دورها الكبير في البناء بعد الثورة, يكون قد وضع المبادئ الأساسية لدولة سورية الجديدة.
لم ينس البيان الواجب المقدس لتحرير الجولان وإعادة بناء الجيش القادر فعلا على حماية الوطن والشعب والتحرير.
الثورة التي يفجرها الشعب, وتقوم على تضحياته الجسام, لا تشبه في شيء الانقلابات العسكرية التي توارث بعضها بعضا وصولا بسوريا إلى ما هي عليه اليوم. الثورة التي يفجرها الشعب تضع السيادة في يده وتعيده للسياسة المبعد عنها عقودا ( لم يمارس النظام السوري السياسة بمفهومها السياسي منذ استيلائه على السلطة . جعل الأمن فوق كل سياسة. وفي أس كل سياسة, محولا الدولة إلى دولة أمنية في كل مؤسساتها وتصرفاتها وجعل نظامه ومصالحة المركز وعليه وحوله تقوم وتدور الدولة, حتى أنها لم تعد سوريا السورية وإنما سورية الأسد. يا له من هوان واستخفاف بدولة لها حضارتها وتاريخها العريق وأمجادها وقيمها...). في غياب مشاركة الشعب في السياسة لا يمكن الحديث عن ديمقراطية, وعن دولة تصنع مكتسباتها وتحميها. وتحمي استقلالها وتضع إستراتجية للدولة.
من هذا المنطلق, وضمن هذا المفهوم, صاغ أحرار سوريا (في جبل العرب) البيان التأسيسي لتجمعهم. وتعاهدوا على أن يبذلوا, يدا بيد مع كل أحرار سوريا, كل ما في وسعهم لتحقيق ما تعاهدوا عليه. وعهد الحر دين عليه.
د.هايل نصر.
التعليقات (0)