مواضيع اليوم

قراءة على قراءة

فارس ماجدي

2010-01-23 01:02:05

0

ان التفكير الديني ما يزال حبيس الإكراهات التقليدية في التفسير والتحليل والفهم والغايات، كما أنه يستمر في حراسة تلك الحدود القصوى الناجزة للتفكير المهيمن ، وسيظل الدين ظاهرة طبيعية مادية قابلة للدرس والتحليل كباقي الظواهر الطبيعية والتاريخية .
إن انجاز برنامج واسع يأخذ على عاتقة عملية المراجعة الكبرى والتحليل المدمر يتطلب حرية في التفكير والكتابة والنشر لا تستطيع أن تضمنها أو تتكفل بها المجتمعات الإسلامية المعاصرة ، لذلك فإن هذا البرنامج المرعب يدخل في حسابه كل المواقف والممارسات الثقافية والآفاق الفكرية والكتابات والدراسات الشفهيه، التي ترتبط بها هذه المجتمعات . إنه يعيد توظيف واستثمار هذه الكلية التراثية في مشروع للمعرفة الاسترجاعية والنقدية والخلاقة في الآن ذاته. ذلك أن الهدف يجب أن يتحدد في الأنفتاح على المكتسبات الإيجابية للماضي نفسه، ومنتهية لفتوحات الحاضر والمستقبل ، إنها معرفة تتقاطع مع الخداع والأسطرة والأدلجة والتقديس كما أنها تناضل دائما من أجل تطابق أكثر وضوحا ما بين الواقع والممارسة.
سوف تكون هذه المعرفة بمستوى مشروع تحرير الوضع البشري، هذا المشروع الذي صممه الأنبياء وطوروه، ثم استعادته فيما بعد ، بعد أن عدلته الحركات الثورية الحديثة ، ينبغي التفكير بكل شيء ، بالأزمات والتراجعات والتقدم الى الأمام والنسيان والدمار والتشويه والاستلاب والقمع والتحرير والأمل واليأس والانتصار على الجهل والجوع والاستعباد والموت ... كل هذه الأشياء ينبغي دراستها وتحليلها من قبل العقل الذي يتحرك في الوضعية المحسوسة للتاريخ. ينبغي على المفكرين الشموليين أن يعيدوا اقامة الروابط المنقطعة والتمفصلات والاستمرار، التي تخفى على المتخصصين ، وان يعيدوا تشكيل الرؤيا الكلية التي توجه المصائر والاقدار ، إن برنامجا موجزا بهذا الشكل لا يعبر عن الحركة القصوى والاستراتيجية المتحركة في كل الاتجاهات، والتعقيد الدلالى الذي يشكله القرآن الممتد عبر قرون طويلة من التمثل المعاش من قبل المسلمين ، وسوف يتم قطع وشائج هذه الحيوية المتنوعة في آن اذا ما اكتفينا بتفحص الجوانب المعزولة وألانساق اللغوية المتبعثرة التي لا تعبر عن الجانب الفضائي المخيف، أنني أذكر ذلك وفي ذهني علوم القرآن للسيوطي وتفسير الطبري والرازي وابن كثير، هذا عن عدا عن التفسير الشيعي والباطني وغيرهما من التفاسير التي شكلت منظومة التصور وصاغت بالنهاية الحقيقة المطلقة التي لا تتم مراجعتها الاعلى سبيل التعلم والورع والتقديس والتمثل . علينا أن نستعين بالعلوم الجديدة في مناهج البحث والدراسة وكذلك العلوم القديمة علينا أن نتجاوز النزعة الاختزالية التي تلام عليها دراساتنا القديمة وخاصة فيما يخص علوم الانسان والمجتمع، نريد أن لا نكتفي بمجرد الغزل الموضوعاتي للمؤرخ، وهوس التفكير الكلاسيكي بحرفية دلالة الكلمات والبحث عن معانيها الاصلية فقط، يجب علينا أن نتخذ الموقف التعددي منهجيا . واذ لم نفعل ذلك طمسنا الخصائص المراد بحثها في القرآن، وهي قابليته لأن يعني ، أي أنه يولد المعنى الذي يعيش عليه المؤمن بشكل يومي وطقسي . ولو أننا استبدلنا بذلك معنى نهائيا ناجزا أوموضوعيا، لكنا فعلنا ككل تلك القراءات العديدة الممارسة سابقا والمبجلة دائما ، هناك مثلا التفسير الكبير للرازي الذي يلجأ الى قراءات عديدة ولكنه يصفها الواحدة تلو الأخرى دون أن يمارس مراجعة نقدية لكل منها ، نجد عنده القراءة المعجمية اللفظية والقواعدية ، ونجد القراءة الاسقاطية الوجودية الممارسة بواسطة القصص ونجد القراءة القانونية التشريعية والقراءة الفلسفية العلمية ، بمعنى انه كان يلجاء الى القراءات المتوفرة في عصره تحديدا. كما نجد القراءة الأدبية ـ الاعجاز والبلاغة ، فيما يخصنا نحن نجد ان تفسيرا كهذا يعتبر اكثر امتاعا واهمية في دراسة إمكانية القرآن على أن يعني ويولد المعنى ضمن سياق تاريخي واجتماعي وثقافي جد مختلف عن السياق السائد في الحزيرة العربية زمن النبي ، لهذا نرى ان مجمع التفاسير المتراكمة عبر التاريخ وحتى الآن دون أي تمييز بين المدارس والطوائف الاسلامية ينبغي أن تخدمنا في التقاط المعنى الوحيد الذي يعتقد المؤمن بأنه كان أقرب منالا للأجيال الماضية ، إنهم يظنون أن هذه الأجيال قد نجت من الإكراهات التاريخية الخاصة بكل عمل تفهمي أي يعتقد المؤمن التقليدي بأن هناك معنى وحيد ونهائي للقرآن، وان الأجيال الماضية كانت أكثر قدرة على التوصل اليه من الجيل الحالي . من الواضح أن الاستراتيجية المشكلة على النحو والممارسة بحذر وعدم تهور، تغير وتقلب كل الجهاز المفاهيمي للفكر الكلاسيكي ، إن الذات السيدة المعظمة الكفؤة أي الانسان، المستندة على كلام الذات الكبرى المهيمنة تعتقد أنها تتكفل بمسؤلية فهم محلية الواقع وأنها تعبر عنه بلغة صحيحة ومطابقة وثابته ومرتكزة حسب الأصول على البنية النحوية للغة المتعالية المقدسة بواسطة الوحي، هنا يرتبط عقل خالد أبدي سيد مكون لكل الأنظمة الجوهرانية والعيانية، ويرتبط بها عقل خالد أبدي سيد مكون لكل أنظمة الحقيقة أو الحقائق ، ولكن إذا ما نظرنا للأمور جيدا، رأينا أن الذات السيدة المستقلة مرتبطة بالاكراهات اللغوية والتاريخية لكل تصور أو ادراك ، ولكل قول أو تلفظ بالقول ، ورأينا أيضا أن هذه الذات تتلاعب بالأشياء ويتلاعب بها عبر الشبكات الفاعلة والمواقع النحوية التركيبية والأدوار الموضوعاتية التي ذرى التوصيل الفاعل فيها داخل نسق المعرفة ذاتها، أو التي يراد أن تكون في معزل عن تفاعل مع التخصيص المطلق للمعرفة ، هكذا تصبح قرأءة النصوص وخصوصا نصوص الأسلام مختلفة بشكل كبير، إنني ادرك تماما ما الذي يشكله هذا التحليل من الصعوبة على القارئ العادي ، ولكني لا أستهدف هذه النوعية من القراء وإنما أستهدف الطبقة الممتازة لتغيير وجهة نظرها أو لزحزحة فكرها باتجاه أكثر انفتاحا .
حدثني صديقي سلام طه وهو واحد من المثقفين المتميزين أي من الطبقة الممتازة وهويشكل نقطة ملتهبة في مجال الدراسات الإسلامية المغايرة والمختلفة تماما عما هو سائد ، وهو يعيد قراءة نولدكة عن القرآن ، وبرغم موقفه المعارض أو المؤيد للتقاط المعاني أوضلالها، أن نولدكه برغم توصيفه لكلمة القرآن أنها مثقله بالمضامين والشحنات اللاهوتية، يمكن مع ذلك استخدامها كمصطلح فعال من أجل مراجعة نقدية جذرية لكل التراث الإسلامي، فهو يتحدث عن القرآن كظاهرة، كالظاهرة التاريخية لأن كل التركيبات العقائدية الإسلامية وكل التحديدات اللاهوتية والتشريعية والأدبية والبلاغية والتفسيرية ... الخ ، على مسافة نقدية كافية منه كباحث علمي ، ومن المعلوم أنها عقائد تفرض نفسها بشكل لا يناقش ولا يمس ، لقد التقط سلام طه تلك الفكرة التي حاول أن يخفيها نولدكه على مدار بحثه عن القرآن، والتي لم يحاول التصريح بها أن القرآن يشكل منظومة مغلقة أو نص رسمي مغلق كما انه طور الفكرة في سياقها المعرفي، أي أن ما راح نولدكه يخفيه ويستبعدة لأسباب كثيرة لسنا بصدد ابرازها هنا ، وهي أن القرآن المقرؤ من قبل أجيال المؤمنين المتعاقبة بصفته نصا رسميا مغلقا لا يمارس دورة لغويا وثقافيا ودلاليا، كما كان يمارسه في مرحلة التلقي الأولي، أي المرحلة الشفاهية حتى موت النبي وهي المرحلة الأولى الطازجة التي صدر فيها لأول مرة من فم النبي ، كما أنه لا يمارس دوره أو على لأقل لا يفهم كما مارسه أو فهم في المرحلة الثانية من تدونيه بشكل مكتوب في مصحف أعلن عنه بأنه مغلق أو ناجز أو نهائي ، وهكذا يذهب طه في سرده الثوري الذي يقلب نظرية نولدكه رأسا على عقب الى أن القرآن مر بمراحل مختلفة ومتعاقبة من تشكيل الروح الإسلامية أو العقلية الإسلامية ، وإذا مأخذنا بعين الأعتبار كل هذاه القواعد المنهجية فإن الأمر يبدو مختلفا تماما عن هذه القراءات المغايرة،.
وهنا فليسمح لي صديقي سلام أن أتقدم قليلا في بعثرة الحقيقة على اتجاهاتها المتضادة ، لأقول أن الأبحاث الاستشراقية المركزة حول القرآن وحدها لتسويغ التقويم النقدي ، ونحن لا نقلل من أهمية عملية الكشف التاريخي الذي قامت به المدرسة الاستشراقية أن الرفض الاسلامي لهذا الجهد راجع الى مسألة النتائج التفكيكية أو التمهيدية للنقد التاريخي لم يعوض عنها بواسطة تأمل تيولوجي يصل الى المستوي نفسه من الناحية الثقافية ، إن الفكر المتقدم المتركز حول الجوانب البرغماتية القانونية والأخلاق والسياسية كان ولا يزال أجنبيا عن النتائج التيولوجية والاببستميولوجية المترتبة على النقد التاريخي ، نجد بشكل عام أن المجتمعات الاسلامية تلهث من أجل الوصول الى نوع من التقدم الاجتماعي الاقتصادي الذي لا تكتسب أطره الثقافية وحوافزه العقلية إلا فيما بعد ،وبشكل مبعثر، ونجد في كل مكان من البلدان الاسلامية هذه الظاهرة. يمكن أن نفهم تبعا لذلك ، لماذا أن القرآن والتاريخية يشكلان بالنسبة للفكر الاسلامي نقطة الانطلاق الاجبارية من أجل الافتتاح المنهجي للعقلية العلمية ويبدو في الواقع بانه لم يعد هناك من مجال لا ستمرارية ذلك التناوب الوهمي بين حقيقة موحى بها ، وحقيقة اقتضت بواسطة الجهد التاريخي للتعقل ، لا ريب ان الانسان المعاصر يبقى دائما حساسا للنداءات الدينية ، ولكن يمكن القول بأن الاقتناع المؤسس على البرهان التجريبي هو في طور الحلول محل التمسك العاطفي بالاعتقادات التقليدية على الاقل في مجال التطبيق العملي .
إنطلاقا من هذه المعطيات المحسوسة المهملة دائما ، يمكننا اعادة تقييم الوظائف الحقيقة للإسلام ، أننا نهدف هنا الى القلب التام لتلك المنهجية التي راح علم الاستشراق برمتة يؤكد عليها والتي تنطلق من الدين من أجل تفسير كل تجليات الوجود الاجتماعي والتاريخي ، أنني لا أقول بأنه ينبغي اخضاع العامل الديني في كل قطاعات المجتمع وفي كل الظروف للعوامل الاقتصادية والسياسية والديمغرافية من أجل شرح كل التطورات والمتغيرات والاحداث . وليسمح لي صديقي سلام و صاحبه نولدكة على السواء الى القول أن التراث الكتابي المقدس وهيبته مشروطة بمدى قيمة كل شهادة من الشهادات التي وصلتنا ، فنحن نجد أن جيل الصحابة هو وحده الذي رأى وسمع وشهد الظروف الأولى والكلمات الأولى التي نقلت فيما بعد على هيئة قرآن واحاديث وسير، إنه لمن الصعب تاريخيا إن لم يكن من المستحيل التأكيد على القول بأن كل ناقل قد سمع بالفعل ورأى الشيء الذي نقله على الرغم من هذه الحقيقة ، فالنظرية الإستشراقية فرضت بالقوة تأكيد تلك الشهادات وبنت نتائجها على مقتضاها ، ونحن نعلم أن التراث نفسه يعترف بأنه بعد الفترة التدشينية الأولى حصل تدهور وانحطاط في قيمة المعلومات ودرجة صحتها وموثوقيتها ، فقد اضطر النقلة للاعتماد أكثر فأكثر على الرواية أو القصة التي تضعها الذاكرة وهذا يعني الاعتماد على الرواية التي تسرد بشكل فني جذاب الكلام الأولي والأصلي الذي قيل في ظروف وجودية فريدة في نوعها ، إن صياغتي للمسألة بهذا الشكل تهدف الى اثارة مشاكل عديدة تاريخية وادبية ونفسية واجتماعية والسنية ودلالية وتفكيكية ... الخ لم يوفق علم الاستشراق الى هذه الآلية وبقي سجين التحديدات الإسلامية التاريخية والوصفية ( انظر بول ركور في فن السرد ، وزمن الحكاية ) .
انني اعترف هنا بأن المدرسانية الاسلامية كانت تضعط دائما بالمحرمات على الدراسات القرآنية وتمنع الاقتراب منها أكثر مما يجب ، الأمر الذي سهل على المستشرقين أن ينتهكوا هذه المحرمات اكثر مما يسهل علينا اليوم ، لماذا ؟ لأن العقل العلمي كان آنذاك في أوج انتصاره وكان مدعوما من قبل الهيمنة الاستعماراية التي رافقته ، هكذا نجد أن المعركة التي جرت من أجل تقديم طبعة نقدية محققة للقرآن لم يعد الباحثون يواصلونها اليوم بنفس الجرأة كما كان عليه الحال في زمن نولدكة الأماني أو بلاشير الفرنسي ، لم يعودا يتجرأون عليها ، ولكن المعركة من أجل تحقيق القرآن لم تفقد أهميتها العلمية على الإطلاق ، وذلك لأنها تتحكم بمدى قدرتنا على التوصل الى قراءة تاريخية أكثر مصداقية لهذا النص ، أقصد قراءة أقل اعتمادا على الظنون والفرضيات والبحث عن الأحتمالات ، يجب علينا أن نستخلص الدروس من الحالة اللامرجوع عنها والتي نتجت عن التدمير المنتظم لكل الوثائق الثمينة الخاصة بالقرآن ، اللهم إلا إذا عثرنا على مخطوطات جديدة توضح لنا تاريخ النص وكيفية تشكله بشكل أفضل ، ولكن هذه احتمالية مستبعدة جدا وإن لم تكن غير مستحيلة .
إننا نعلم أن مادة البحث القرآن تتطلب تطبيق كل المناهج عليها وليس فقط المنهجية التاريخية كما ذهب الى ذلك بلاشير ونولدكة ، إنها تتطلب التدخل على كل مستويات المعنى وآثار المعنى من أجل توضيح ملابسات هذا النص المؤسس وعندما أقول آثار المعنى فإني أقصد بها تلك الناتجة عن النص المدروس كما تلك الناتجة عن كتابة الباحث نفسه ، كما تلك المنتشرة داخل الأمة الإسلامية ، سوف أعيد طرح المشكلة من جديد . نحن هنا امام نص هو النص القرآني الذي تكمن مهمته الأولى المسجلة في طريقة صياغتة اللغوية في أن يقول المعنى الصحيح والحقيقي عن الوجود البشري ، وتكمن مهمته أيضا في النص على القوانين الموضوعية والمثالية والمقدسة والتي لا يمكن تجاوزها ، ويطلب من المؤمن التقيد الصارم بها من أجل الحفاظ على وجوده داخل المعنى الصحيح والحقيقي ، هذا فيما يخص النص التأسيسي الأول ، ولكن تفرعت عنه نصوص ثانوية تتجلى وظيفتها في صياغتها اللغوية أيضا : كأن يقول المفسرون والخطاب الشائع : يقول الله ، أو قال تعالى و جاء في الحديث .... وتكمن وظيفة هذه النصوص الثانوية في تأبيد وهم التواصلية المعاشة بين المعنى والقوانين الموحى بها وبين التفاسير والإسقاطات المتراكمة والمكثفة في التراث الحي الخاص بالأمة المؤمنة ، إن تأبيد هذا الوهم أي وهم التواصلية والأستمرارية يتم ضمن المدة الطويلة للتاريخ ، هكذا نجد أن النص القرآني هو عبارة عن بنية محركة للوجود ومترجمة الى تجسيدات وجودية عديدة ومتغيرة ، فهل يحق لنولدكة في مواجهة بنية كهذه أن يفصل بين معرفة متحققة في مجالها الزمني وبين معرفة تكمن في قراءة الأسباب الداعية الى مسار التشكل في مضمون الهوية العربية الإسلامية كما تم التوصل إليها لاحقا ، أي قراءة تعتمد على بنيتها الدلالية فقط ؟ إنني لا أثير هذا التساؤل إلا لمجرد السير قليلا الى الأمام ، أي في محاولة فهم مختلف، أو قراءة مختلفة للسياقات التي وظفها الاستشراق أو المدرسة الإستشراقية على العموم ، والتي ما لبثت أن اسست وعيا مغايرا في تفكير المثقف العربي دون أن يجري حسابات معرفية على درجة كبيرة من التخصص المعرفي معها .
طبقا لهذا التحديد المتعلق بالمنهجية التقدمية ـ التراجعية فإننا لا نستطيع قراءة القرآن والتجربة التاريخة لمحمد عن طريق استخدام كل المفردات والصياغات التعبيرية التي راح التراث الإسلامي يستخدمها بعد انتصار الدولة الإسلامية ، ففي فترة دعوة النبي محمد وتبشيره ونضاله كان ينبغي عليه تحديد وتثبيت سيادة الوحي لأنها كانت تلقى المعارضة والرفض ، وقد راح يشرحها ويمارسها من خلال مبادراته اليومية لكي يتغلب وينتصر على معارضة الجاهلية او المجتمع العربي الوثني بالإضافة الى معارضة أهل الكتاب من يهود ومسيحيين ، هذا بالإضافة الى الأدوات اللغوية المستخدمة في القرآن لدعم سيادة الرسول وهيبته من خلال التدخل المستمر لله في التاريخ .
تكمن أصالة هذه العملية وابتكاريتها في ذلك الربط الأستثنائي الفريد من نوعه بين الممارسة الاجتماعية والثقافية الناجحة لمحمد وبين خلع التسامي والتعالي عليها بواسطة خطاب ديني يرتكز على نظام متماسك وشامل من المجازات ولاستعارات مع التفنن في استخدامها ، كان اتباع النبي منخرطين في حركة خلاقة ومجيشين من قبل الترميز الفني والمحرض المرتبط بكل مبادرة بشرية ذات أهداف منمذجة ومزينة ـ الثواب في الآخرة ـ جنات تجري من تحتها الأنهار ... الخ ـ إن حجم تأثير أي حضارة يتناسب مع مقدرتها على ترميز الوجود البشري واساليب الوجود البشري ، وقد انجز القرآن شيئا كبيرا وضخما في هذا الاتجاه ، إن تأثيره الكبير والدائم على معاصريه وكل الأجيال اللاحقة يمكن ارجاعه الى طريقته الرمزية الخاصة في التعبير عما هو دنيوي أو مادي أو تاريخي ، على أية حال لا يمكن قراءة القرآن بعيدا عن تمفصلات التاريخ والواقع الاجتماعي والذهنية السائدة والتي سادت فيما بعد ، ثم نسق التطور الذي رافق ذلك كله ، أننا بالكاد نعرف الآن مدى الضغط الكبير الذي كان يمارسه مجتمع في طور انبثاقة الوجودي والتاريخي والاجتماعي ، ثم نستطيع أن نقرأ الذهنية التي شكلت نقطة الأنطلاق ، أي لحظة التدوين التي غيرت وأضافة الكثير واستبعدت الكثير كذلك ، إن محاولات الكشف تتماهى مع نمط المعرفة ومع توجهاتها الممكنة أي مع أغراضها ، وهنا يمكننا أن نتوقف طويلا عند كل قراءة مهما كانت امكانياتها المعرفية أو مستويات دلالاتها وأغراضها . وليعذرني صديقي
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !