مواضيع اليوم

قراءة أولية في الشعر العربي الثوري المعاصر الشاعرة التونسية سلمى بالحاج مبروك نموذجا

Selma Bel Haj Mabrouk

2011-08-03 07:03:34

0

قراءة أولية في الشعر العربي الثوري المعاصر :
الشاعرة التونسية سلمى بالحاج مبروك نموذجا
الناقد و الشاعر المغربي خالد الصلعي

 

إطلالة نظرية.

مبدئيا كل ظاهرة إنسانية تنتج تعبيراتها بصيغ متعددة ومختلفة.وبما ان الثورة العربية ظاهرة فرضت حقيقتها وجوهرها على العالم أجمع،فقد كان الشعر من أكثر هذه الصيغ تعبيرا عن هذه الثورة.بل هو من الصيغ القليلة التي بشرت بها مقتحما غلالة المستقبل على شقيها لتبث فيه روح التغيير والتجديد.وبعد حدوث الثورة ،كان لابد أن يتفاعل الشاعر العربي مع الحدث بكل ما أوتي من وجدان وعقل وروح وطاقة تعبيرية ، فحدث بمثل هذا العنفوان وبهذه الانسيابية الشديدة الخصوصية،لا يمكنه إلا أن يولد فعلا شعريا واعيا ولا واعيا،له مميزاته وسماته التي تربطه بمراحل تطور الشعر العربي.فموضوعة" الثورة" فرضت نفسها على أكثر من شاعر، وفرضت نفسها على أنماط التعبير التي يتوسل بها للعبور نحو قيم شعرية معاصرة.
وهنا لابد من الإشارة أننا لسنا بصدد معالجة سوسيولوجية للموضوع،بقدر ما نروم ربط مقاربة بمقول شعري توخى التعبير عن فعل اجتماعي ذي شأن عظيم في سيرورة الأمة العربية.والفرق شاسع بين الدراسة السوسيولوجية للشعر التي تمتح عناصرها الأساسية من نظريات علم الاجتماع ،وبين دراسة نمط شعري يعتمد تقنياته الداخلية للتعبير عن ظاهرة اجتماعية.مما يترتب عنه تحقق شعري بديع في توسله بطرائق تعبيرية لا تكتفي بالوقوف عند ضفاف التعبير بل تغوص عميقا إن استطاعت نحو البعد السحيق للذائقة الشعرية.
أكيد أن المجتمع العربي عبر عن نفسه بطريقة انفجارية غير مسبوقة،مفرزا ميكانيزمات جديدة وحركية لا مثيل لها في تاريخ الأمة العربية،وعلى مستويات عدة،كالسياسة والثقافة والإنسان الفرد ونفسيته...الخ.مما فرض على الشاعر العربي محاولة تمثل واقعه وطرح أسئلته،على جوهرانية المجتمع العربي كمجتمع إنساني له طموحاته،وشخصيته،له رهاناته وشروطه.
وأيا ما كان الشأن،سيحاول الشاعر حتما توظيف كل الطاقات الإبداعية من أجل الإيفاء بنقل رؤية،أو إن شئت رؤياه الجمالية بكل قلقها ووهجها وتساؤلاتها.إذ لا مجال لارتياح بوثوقية موهومة في الشعر الثوري.فنحن إزاء زخم، وخصوصية عربية قحة،لا تحتاج إلى الاحتماء بثورة مقابلة كما حدث إبان بدايات استقلال الدول العربية،أو كما حصل إبان الخمسينيات من القرن الماضي،حين ارتمى جل الشعراء الحداثيين في حضن التقليعة الوجودية والاشتراكية والسوريالية كفلسفات و وظواهر غربية المنشأ والمنبت،وان كان الإحساس بالضياع،والقلق،إحساسا إنسانيا بامتياز.
من هنا كان لابد لشاعر الثورة ومن حاول مرافقتها، أو للعابر فوق جسرها،أن يسكن لغة أخرى ويتوسل بطرائق تعبيرية لها قاموسها الخاص بها ولها خصوصيتها الدالة على مداليلها. فلغة الشعر الثوري كما سنرى،ليست مغايرة بالضرورة وبالحتم للغة الشعر الرومانسي،أو الذاتي،أو التقليدي.لكنها في نفس الآن لا تسكن خيامها التعبيرية الجاهزة لفظا واستعارة وصورة وتركيبا.بل إنها تفرض أساليب تعبيرية متاخمة للغة التغيير الاجتماعي.معتمدة في ذلك تشابكات وتركيبات صياغية مختلفة،لأنه ببساطة،هي تشتغل على موضوع آخر جديد وطارئ،هو "الثورة".إنها لغة بناء وطن،وطن جديد.فنحن إذن والحالة هذه لن نتوسل بلغة قديمة،أو نستعير تجربة مفارقة،أو نستعمل محايثات لفظية متداولة.وإلا فالهجانة موئل التجربة.
إذ المسألة لا تتعلق بالهدم الحيوي المقدس كما أسماه كما أسماه أنسي الحاج في ديوانه " "لن". كما أننا لسنا بصدد قطيعة شعرية بكل مضامين وعناصر وخصائص الشعر العربي الذي انتهى إلينا.
فلابد إذن،من وجود حبل سري يربط الشاعر الثوري وشعره،بالموروث من الشعر العربي في مدياته السحيقة في الماضي البعيد والماضي الحديث والماضي القريب.ولعل هذا الحبل السري لن يكون غير تبدل العلاقة بين الدال والمدلول،بين الحامل والمحمول،في طرق الصياغة والتركيب،في انبناء الصورة الشعرية الجديدة.لأن الأمر يتعلق بكل بداهة، بالتعبير عن حدث لم يسعف الشعراء الذين سبقوا معايشته.بل إن الغالبية العظمى من الشعراء المعاصرين لم تسعفهم قريحتهم في التعبير عن الحدث رغم جلاله وعظمته.وهذا ما يطرح علينا علامات استفهام كبرى.من هنا كانت خصوصية الشعر الثوري في طموحه القبض على لحظة قد لا تتكرر ثانية،وهي لحظة لها خصوصية مميزة."فإذا كان الطموح الواسع إلى التغيير طموح في تغيير حركة الفن كلها ومنها الشعر السائد"كما ذهب إلى ذلك الناقد الفذ محسن أطيمش، وهو ينظر لشعر الحداثة إبان اللحظات التأسيسية الأولى له.فان طموح الشعر الراهن هو طموح تعبيري بالأساس،لا ينحو إلى تغيير شامل لحركة الفن كلها،ولم يصرح أحد بذلك.والسبب واضح،يحتاج وحده إلى دراسة خاصة.وان كان الحدث المعاصر أجل وأضخم من حدث الخمسينيات في الزخم والفوران.وليس من حيث فاجعة سرقة الأوطان، وعلى رأسها الوطن الفلسطيني، الذي يظل وجعه قائما إلى الآن.
إن هذا الهيجان الثوري الشرعي على أنظمة أبانت بالملموس على هشاشتها"تونس+مصر"وعلى وحشيتها وهمجيتها"ليبيا-البحرين-اليمن-سوريا"وعلى عقلانيتها الباردة"الأردن-المغرب -الجزائر"وعلى سخائها الغبي"العربية السعودية-الكويت"هو هيجان الروح العربية على واقع ذليل،بالإمكان تغييره إلى واقع كريم وإنساني وديمقراطي.والشاعر هو التعبير التوثيقي والجمالي لهذا الواقع المنشود .

 



وما دام الأمر كذلك، فإننا عندما نجترح وصف شعر الثورة؛فإننا لا نروم كل الشعر الذي قيل الثورة ،أو بعدها، الذي لم يأت بعد . وانما ذاك الذي خرج من صيحتها ،أو كان بعض صيحتها ،أو تنبأ بها .؛وتشكل في خضمها،وانداح منه إلى الآفاق .فالزخم الواقعي يفرض على الشاعر الاشتغال على الواقع ،ليس بنسخه،أو تذكره وتمثله .بل عبر تخييله انطلاقا من رؤيا تستطيع منحه جمالية وشعرية يرحب بها المتلقي . إن الشاعر العربي المعاصر عموما،والثوري خاصة؛ليس عبثيا ،وليس عدميا،وشعره ليس مجرد عملية إشباع ثقافي ومعرفي ،أو ترف سياسي كما يذهب إلى ذلك محمد مفتاح .انه شاعر قضية آمن بها ؛وهي قضية ليست فردية ،أو قطرية ،بل تخص أمة بكاملها .إن الشعر المعاصر قلما تجده مسلوبا إلى فردانية فجة ،بل إن زخم الواقع يجره بقوة إلى التفاعل والمشاركة مع غيره ،دون أن يذيب ذاته في الآخرين .بل هو ينفتح فردا بضمير الجمع .
انه جزء لا يتجزأ من هذه الثورة المعلوماتية والتقنية،فهو إذ يتعاطف مع مأساة"التسونامي" ،لا ينسى دعمه ومساندته للشعب العربي في اليمن وليبيا وسوريا ،وباقي الأقطار العربية ؛وذلك بتبني قضاياها باعتبارها قضية واحدة،وليست قضايا متفرقة ،كما يهدف إلى ترسيخ ذلك السياسيون. مختزلا في نفس الآن مأساته الراسخة في وجدانه؛فلسطين؛ ثائرا على وضع عربي ،في مجمله مترهل ،أفسده القائمون عليه ،وضع ذيلي ، ذليل ،حسير . إن حمولة الشاعر المنصهر في الثورة العربية؛حمولة ثقيلة ،والمسؤولية الملقاة على عاتقه ضخمة.فهو يجر وراءه تاريخ طويل ،وتتملكه نوستالجيا كئيبة إلى ماض تليد ،وعليه أن يحلم حلم أمة بكاملها ،ويتحدى عجرفة متوحشة لمختلف الإيديولوجيات المهيمنة ،والحضارات الأخرى التي تحاصره من كل جانب . لكن ورغم كل هذه الحمولة الثقيلة وهذا التحدي الكبير ، استطاع أن يقبل بكل أريحية حمل هذا الثقل والوقوف في وجه هذا التحدي.فكما يقول نيتشه:"الإنسان العظيم هو المفجوع بكثافة وقوة".
فنحن إزاء مفترق طرق خطير ،في لحظة انقشاع الغيوم،وانتساب المنتسب ،كل إلى حقيقته ، اختياراته ،إلى ما يطمئن إليه .وان كان الشاعر الحقيقي لا يطمئن إلا إلى الشعر،إلى السؤال/القلق .وعندما يقتر هذا الوهج ،أظن من منظوري الشخصي المتواضع ،على الشاعر أن يستقيل من عالم الشعر ،ويتخذ له مسارا كتابيا آخر.
أظنني الآن لست بحاجة إلى طرح سؤال عن مميزات الشعر الثوري ،فالتسمية كفيلة بالرد على السؤال .غير إن هذا لا يعفينا من النبش والحفر في خصائصه الداخلية الشكلية وغيرها .وبما أننا بصدد دراسة أولية لهذا النوع من الشعر؛فسوف نؤجل قراءة خصائصه الجوانية في دراسة مستقبلية .وحسبنا الآن أن نتساءل ؛كيف قيل هذا الشعر ؟؟وكيف عبر عن نفسه ؛وهو سؤال مشروع يقع في صميم محاولة التقرب من فهم رسالته . وهنا لابد إن نقر مع أحمد المعداوي بأن "عظمة الشعر في كل زمان ومكان لا تتحقق بمجرد ثورة الشعراء على القوانين العروضية ،قديمة كانت أو حديثة ، وإنما تتحقق تلك العظمة بما تزخر به إبداعاتهم من شعرية" . فهل استطاع شعر الثورة أن يصل إلى مستوى الشعرية في تعبيره عن الثورة العربية البهية؟.
سؤال ستجيب عنه هذه القراءة التي تروم اكتناه العلاقة بين رؤية النقد،لرؤيا الشعر ،في أرقى تجليات الشعر،وليس لرؤية الشعر في اعتدال مناخات النظم ،أو لتنظيم لفظي في أدنى مستويات الشعر .فالذات الشاعرة في تركيبها النفسي ،تشبه ذات الإنسان العادي ،الذي نراه متمردا ،ساخطا على أوضاعه ، أو باردا مستسلما لضغط الواقع وتكبيلاته . وهنا لابد من الإشارة إلى أن الثورة ،كما هي مبثوثة في لاوعي الإنسان المشروط بشروط المواضعات الاجتماعية ،فإنها أيضا مبثوثة في لاوعي ووعي الشاعر ،الذي يخرق هذه الشروط؛برؤيته النبوئية ،أو الشعورية ،فتنسلخ صفة الإنسان الشاعر عن الإنسان العادي .فالقدرة على التعبير عن حالة معينة ،أو عن وضع معين ،بلغة ذات كثافة جمالية ؛هي الميزة التي تميز الشاعر عن الإنسان العادي ؛بل قل عن الكاتب السياسي وعن المفكر المثقف.

فهل توفق شاعر الثورة في تكثيف خطابه الشعري ،ومده بشحنات جمالية تستحق الالتفات إلى نتاجه الشعري ،أظن أن أمة كان الشعر يعتبر ديوانها الأوحد ،لن تعدم شعراء ؛وان على قلتهم ،حاولوا التعبير عن الثورة العربية بلغة شعرية راقية .

 

دراسة نقدية

على سبيل القراءة -الشاعرة سلمى بالحاج مبروك.............................................................

لا شيء يمنح للشعر روعته ويعد إليه هيبته ،أكثر من انفتاحه على مساحات بلا تخوم كما يرى يوسف اليوسف،وعوالم بلا حدود ،مما يجعل الكاتب والناقد أمام إمكانيات تعبيرية مشبعة بالخصب ،حيث للدلالة أقنعة لا محدودة وتأويلات لا منتهية . فنكون... إزاء شهوة اختراق المستور ،شهوة الهتك لعلاقات الأسرار" كما يرى نفس الناقد وهو يمتح مما ذهب إليه الجاحظ والجرجانيين. ولعل الشاعرة التونسية سلمى واحدة من الذين توسلوا إلى قول الشعر من هذه الوجهة ،وهي تجوس الواقع العربي من خلال الواقع التونسي.فالواقع العربي إذ يخرق دلالات حقيقة ما يزخر به من ثروات إنسانية وطبيعية ومعرفية ،لا ينتج إلا حيوات مجازية ، ينقلها من عالم الخراب والبؤس والشقاء ،لتصير حقيقة معاشة يكتوي بها الإنسان العربي قسرا وظلما .فان الشاعرة تتماهى مع هذا البعد السريالي الخصب في واقعيته ،لتمتح شعريتها بتقنية غاية في التميز.إذ الصورة الشعرية عند الشاعرة سلمى ،ليست صورة فوتوغرافية جافة كما نرى عند معظم الشعراء المعاصرين ،أي نسخة ثابتة لصورة أخرى قائومة في واقع ما.وان كان للصورة الفوتوغرافية شعريتها وإبداعيتها ، إذا ما وجدت من يلتقط منظرا تتجمع فيه عناصر معينة تعطينا شكلا يستحث اندهاشنا ويستثير إحساسنا. إن الصورة في القصيدة التي نروم قراءتها ، هي من صنف الصور التي تختمر في الروح الشاعرة ،لتستفز استقرارها وما تعارفت عليه من مسلمات العلاقات الإنسانية.إنها هنا بمثابة بذور التحول ،أو قل إن شئت ، هي منافي التحول.فنحن أمام روح شعرية إذ تعطيك كل خيوط التأويل والتفسير والتحليل ، تحرمك من تعيين الاحتمال، أو الاطمئنان لدلالة بعينها.هل هذا من نتاج غليان بركان الحراك الشعبي العربي؟هل هو ولادة الذبذبات العميقة لحركة البحر وهي تعتمل في أعمق طبقاته؟ إن الشعر حين يسكن بيته الطبيعي ،يفيض عبر انتفاضة قد تكون أقرب إلى اللدنية. إذ الشعر حينئذ هو الذي يقول نفسه ، والشاعر لا يعدو أن يكون الفضاء الرحب الذي يوثق انبثاقا طبيعيا لفعل فرض نفسه على ذات آمنت بالرؤيا الشعرية وبفداحة التعبير اللغوي الجميل.
- تحفرون قبورنا في وجوهنا -....................................................

هذا هو عنوان القصيدة التي فرضت علينا كل هذه التوطئة الطويلة .هذه العتبة الجليلة ، تخرق من البداية كل أنماط الصورة الشعرية كما استقرت في وعي القصيدة العربية . انه نتاج التفاعل الباطني مع واقع اجتماعي وسياسي أخذ بعد النمطية المفجعة. ونمطية الواقع بهذا الشكل تفرض على الشاعرة كسرها في نصها اللغوي .أو إنتاج فعل شعري يوازي أو يتفوق على سوريالية الواقع العربي .فإذا كان الواقع ساكنا كما يحي ظاهر الأمر ،أو كما يحاول القائمون عليه ترسيخه في ذهن الإنسان العربي. فان طبيعة الشاعر لا تجعله يصدق كلي الأمرين .وحتى إذا سلمنا جدلا إن الواقع ساكن وثابت وسلبي ، فان الشاعرة تعمل على شحن الموجب بالسلبي ،أو لطم السلبي بالسلبي ن لتصل إلى الأكثر سلبية .إلى تفريغ الاستعارة من معناها التداولي وملئها بمعنى لا على مثال ، لتأخذ الصورة في قصيدتها هاته ، بعدا زخميا ثريا .إنها تجعلها صورة متحركة ،حينما تفتحها على دلالات متعددة . دعنا نستمتع بهذه بهذه الأشطر ،قبل العودة لتأمل العنوان:
دقوا مسامير دموعنا نعشا جماعيا .................................................
وادفنوا في حفرة قبر الليل صراخنا المتعفن .......................................
وانشروا في أرجاء العبث صمتنا على حبل المدى...---........................
أول ملاحظة تستوقف القارئ لهذه الأشطر هو عنصر "الدمع" فالدمع هو مادة انسيابية من فصيلة الماء ، لكنه عند الشاعرة تحول إلى مادة حادة ، من أبرز وظائفها الغلق . وهكذا تجعل الشاعرة في التفاتة ذكية متمكنة ، من ألطف الأشياء في الإنسان ،أشدها فتكا بحريته وانطلاقته . فعوض أن تحتفظ الدموع بوظيفتها التفريغية للآلام والصدمات أو لوظيفتها التعبيرية كالفرح والوجع ، تحولت إلى أداة لتكريس فجيعته وبؤسه . وهي نفس الاوالية التي تعتمدها في الشطر الثاني : وادفنوا في حفرة قبر الليل صراخنا المتعفن الليل ،هذا المدى الزمني ،ليس الكناية عن التعتيم والأسوار المشيدة حول العالم العربي ،من قبل السلطات الإعلامية والثقافية الرسمية والعميلة . حيث لا مجال ليعبر صراخ المواطن العربي إلى الخارج انه داخل نعش في حفرة القبر الليلي ،حتى صار للصراخ الذي هو مجرد صوت لا رائحة ولا طعم ولا لون له ، إلا في عالم المجازات والاستعارات ، يأخذ بعدا ماديا . فثمرة الوجع هذه تعفنت جراء استنفاذها للحياة الطبيعية لكل ثمرة .ولم يبق إلا التعفن مآل مل مهمش ومنسي. إن تهشيم هناءة الدلالة وتفتيت دعتها واستدعاء دلالات جديدة ، باستغلال شاعري نادر للفظة ومدها بشحنات معنوية جديدة ،واستخدامها في سياقات مبتكرة ،هو استخدام يدل على دربة ووعي كبيرين بفن قرن الألفاظ في تشابكات سياقية لها من الجدة ما يمنكنها من أسرنا والإقرار بإعجابنا.فالمألوف ولو شعريا يهتزّ في كون سلمى الشعري .فلا ألفة في اللغة مع الواقع ، أو مع الموروث الشعري ولو في حداثته ،اللهم مع شعراء كبار ممن يستحقون عن جدارة صفة الكبار .وهم قلة للأسف. فالصورة الإجمالية للقصيدة ،صورة مبتكرة ،وهي إذ تلتقط إشارات الواقع السلبي تنعكس في تشابكات دلالية أكثر سلبية ،ومغرقة في التشاؤم .إنها صورة سوداوية بامتياز ، يفرضها واقع يمور ببذور ثورة قريبة ، إذ لا يفصل بين تاريخ كتابة القصيدة وبين اندلاع شرارة الثورة التونسية إلا أياما معدودات .وهي ولادة شرعية من جسد آثر صاحبه أن يهبه في ذروة انفعال جارف قربانا .لغد أفضل وفي الشطر الذي يليه بعد ثلاثة أشطر :
إلى متى ،حتى متى تحرثون التاريخ بدموعنا ؟
هذا السؤال الاستنكاري ، الذي صيغ في صورة فجائعية محرقة ، كان بمثابة إنذار أو هاتف تلقفه الشعب التونسي ن ليستجيب القدر لا رادته ،حسب الأب الروحي للشعراء التونسي "أبو القاسم الشابي". لكن ما يلفت النظر ويشد الانتباه وهو يقرأ قصيدة الشاعرة التونسية ؛ هو هذا التجديد في نحت الصورة الشعرية . فقصيدتها "تحفرون قبورنا في وجوهنا" منذ البداية ، بل قبل البداية ؛ أي منذ عنوانها ، تستفزك غرابة العنوان في مجازيته الطاعنة في الابتكار . وكأنها تستلهم كبار النقاد العرب القدامى والمعاصرين ،وان على قلتهم . وتسترشد بقراءة النقاد الغربين التأصيليين . ولعل من كبار النقاد العرب القدامى في هذا المنحى عبد القاهر الجرجاني الذي نستعير منه هذه المقولة ، حيث يرى "أن الكلام الناجح ينطوي على شدة ائتلاف في شدة اختلاف "كما نقل عنه يوسف اليوسف "بحيث يريك ائتلاف عين الأضداد "ويضيف في موضع آخر بأن" الكلام الساحر يجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة ،وتعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة". لقد استطردت في هذه الشواهد لأدلل على إن عنوان الشاعرة يجد له متكأ رحبا في تاريخ النقد العر بي الأصيل ،قبل أن يتطور على يد النقاد الغربيين حديثا . لكي نثبت ان جمالية الصورة عند الشاعرة تتاسس على طزاجة المعنى الإستعاري وهي تربط بين المتنافرات والنائيات ، بل قل على ابتكاريه جديدة وفرادة لها من العذرية ما يؤهلها لتكون عروس القصيدة العربية بلا منازع . فأنت لن تجد صورة مثيلة لها في الشعر العربي المعاصر، مؤصلة على امتدادات استعارية لا محدودة .فان تحفر القبور في الوجوه ، هو سابقة تعبيرية لأم أمر عليها في أي من دراساتي وقراءاتي .فهي على بساطة مفرداتها وتركيبها النحوي ،أي فعل وفاعل، وجار ومجرور . وهي جملة خبرية تتسم بالحركية في انبنائها في صيغة المضارع وارتباطه بضمير المخاطب ،وبضمير المذكر السالم الدال على الفاعل المقرون بالمفعول به ،المقترن بإضافة "نا" الدالة على "النحن" المنتهية بتعيين مكان الحدث "الوجه". فهذه الصياغة التركيبية البليغة ، تمدنا بصورة ذات ايقاع متكامل ، وهو ما اسميه ب"الصورة الإيقاعية" . فلك أن تتخيل مكان الحفر ،وأدوات الحفر ، وكم عدد الحفارين والمحفورة وجوههم . وتلك الأتربة التي تطير في عملية الحفر. فالصورة شديدة الكثافة والحمولة . وإذا كان العنوان بهذا الثقل المدلولي ،فكيف ستكون القصيدة كوحدة دلالية .أو كجسد واحد كما يقول النقاد العرب القدامى ، أو ككلمة واحدة كما يقول ابن طباطبا .

والجميل في هذه الدراسة هو قراءة قصيدة للشاعر الايطالي "ماريو ريجلي" ،المترجمة من قبل المترجم الجميل "منير زيد"،ورغم وعينا بإشكالية قراءة نقدية للشعر المترجم باعتبار إن كل ترجمة خيانة للنص الأصلي. إلا إن ندرة النصوص التي توصلت بها ،وأصالة الترجمة التي عملت جاهدة على إيصال رسالة النص الأصلي ، وتركيزها على الثورة العربية ، بالإضافة إلى النفس العام الذي يؤطر بؤرتها المركزية كنواة عميقة ،استطاع الشاعر الايطالي من خلالها ملامسة الهم العربي بإحساس عربي أصيل. وهنا تكمن روعة الشاعر وعلو كعب شاعريته المؤصلة في أعماقه . حيث ينقل روحه في ربوع الإنسانية دونما مسافات ثقافية وحواجز عرقية أو جدران دينية . وهو ما يعبر عنه مباشرة بقوله :
.
فقط كلمات إليكم
إخواني في الإنسانية
.
انه خطاب من الضفة الأخرى ،يجعلنا نحس إن قضيتنا قضية إنسانية ،وليست فقط قومية كما نتوهم ،أو قطرية كما رآها الكثيرون منا ،أو ظرفية ،كما راهن الأغلبية من شعرائنا ، المتحصنون داخل الكهف الأفلاطوني . هنالك من يشعر بنا ويحس بآلامنا ،ويعبر عن عواطفنا وينقل رسالتنا . وهنا لابد إن نقول مع ميشيل كامي :إن الشعر هو العقيدة الأخيرة للإنسان ، كما تصور نيتشه الفلسفة هي الفضيلة الوحيدة للإنسان . فالمشتغل بهم التفكير والكتابة ، سواء كان شاعرا أو فيلسوفا أو مفكرا.....لا يجد أصالته إلا في تحديد مسكنه الانساني .
والشاعر الايطالي اختار الشعر مسكنه الذي يستضيف فيه إنسانية الإنسان ، ويفترش له خيالاته وما يتولد عنها من صور شعرية جميلة. فلا غرابة ان نجد ه شاعرا يتميز برؤية صورية تتفجر عبر آلية عنقودية غاية في الدقة ، ومسكونة بالتوتر والقلق اللذين يعبران عن خواء الوجود ، وعن تناقضاته التي تستحث الروح قبل العقل للحفر عن منابع هذه التناقضات والبحث عن آلياتها . ففي زمن هيمنة خطاب الديمقراطية كونيا ، يطفح بقوة فعل الهمجية والقتل والدمار ، من حراس الأمة العربية المفترض فيهم حمايتها . انها قمة السوريالية ، وأوج اللا عقلانية . فكيف يطمئن الشاعر الى هذه الثنائيات التي لا تتقابل نظريا . بينما في عالمنا العربي ، تعبر عن نفسها بكل ميوعة وصفاقة . أليس واقعنا العربي يفوق النص الأدبي في إنتاج الغرابة ؟؟.
فلننصت للشاعر وهو يتوسل إلى إبلاغ خطابه الشعري متكئا على صور شعرية تلتمس الكناية والاستعارة مرتكزا، لتأسيس قصيدته:
ذبلت بأغصان الرؤى
الأحلام
والشعر غيض
وجفت الأقلام
الأرض مادت
في ذهول خاطف
وقضيتي
تغتالها الأصنام
هل بعد تذبيح الكلام
كلام؟
إن الأصنام الثابتة العديمة الحركة، هي التي تغتال قضيته، وما هي قضيته ؟إنها الأمة العربية .فما العلاقة التي تربط الأصنام بالأمة العربية ؟هل هم الحكام العرب ؟ هل هم جنودهم ؟ هل هم مثقفوهم ؟هل هم رموز القوى الامبريالية ؟. لعلهم جميعهم مشتركون في اغتيال القضية العربية، خاصة إذا ما استحضرنا أم القضايا العربية "فلسطين ". التي تتجسد فيها مجمل القضية العربية ؟ من استلاب الأرض إلى قضية الحرية،والديمقراطية ،والمساواة ، والحق في العمل والتعليم ....الخ.
لكن الشاعر يفتح موضوعة القضية على جميع الاحتمالات ، حين يصدر هذا العنقود ،أو هذا الجزء من شعره بذبول الأحلام ؛إذ هو ليس حلما واحدا بل متعددا ،وهذا التعدد ليس معين في أحلام بعينها ،فلك إن تختار ما شئت من الأحلام لتقرنها بصفة الذبول .بل إن مشتل حلم الشاعر نفسه جف ،"والشعر غيض" كما الأقلام ، أداة تجسيدها على الورق فحسب ، وليس على الواقع الذي يظل أبيا حتى إشعار آخر . ومع حركة الميد أو الميلان ، نحو الأسفل حسب سياق المعنى الإجمالي للمقطع تقتل القضية على يد الأصنام الثابتة . لكن من صنع الأصنام ؟ فالأصنام حسب الميثولوجيا الإنسانية ،أما تكون مستوردة أو يصنعها أعيان الجماعة البشرية للاسترزاق منها على حساب العوام . فتعبدها العامة بعد إن تشتريها ،بفعل غيبوبة قسرية .
إن الخيال الشعري لا حدود له ، وكثافة اللغة الشعرية أثقل من دوالها ،والإبداع سياحة برقية إلى أمداء لا حدودية . فلا تخوم لخيال الشاعر ،وان قصرت اللغة عن الإيفاء بإيصال المناخات التخييلية للشاعر .لكنه لا يعدم تقنيات الإيصال والتعبير عبر الإيحاء . من هنا كانت إشكالية التواصل في الشعر الحداثي والمعاصر ، بين المرسل والمرسل إليه . فالشعر الحداثي والمعاصر يعتمد شفرات،أكثر ما يعتمد لغة مباشرة ، تقتصر على الوصف السطحي للعالم وللأحداث . ومن ثمة كان على المتلقي إن يتوسل بزاد معرفي وثقافي ثري ، وبذوق فني متميز .






التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !