مواضيع اليوم

قراءات في مشروع محمد أركون الفكري

عبد المجيد الجهاد

2011-02-13 13:23:25

0


"عشنا، خلال جلسات هذه الندوة، لحظة استثنائية مكرسة للفكر، الفكر الذي ينبغي للمغرب الكبير أن يستفيد منه كثروة لبناء المستقبل. ما سمعناه في المداخلات يبعث في نفسي أملا كبيرا في أن لدينا نقطة انطلاق لتزويد المغرب الكبير بالآلات التي يستحقها وينتظرها من أبنائه كي يساهم هذا الفضاء التاريخي المغربي في الدينامية التاريخية التي يعيش في كنف معطياتها وتحولاتها، ومن أجل أن يكون في مستوى الانتماء التاريخي والجغرافي للفضاء المتوسطي... أحببت أن أبدأ حديثي بهذه المسألة حتى أشدد على حاجتنا على إعادة قراءة تاريخ هذه المنطقة في كليته بعد القطيعة التي شهدها بفعل السياسة منذ الاستقلال وبعد أن فرض علينا أدلجة خطاباتنا والابتعاد عن لغة البحث العلمي كهذه اللغة التي سمعتها في مداخلاتكم، وكان هذا ما أبكاني وأثر في لأن مداخلاتكم أشعرتني بأن ما كنت أدافع عنه وحيدا في فترات مضت يشاطرني إياه اليوم إخوان في بلد من بلدان المغرب، وهو المغرب الأقصى الذي أضع عليه أملا كبيرا... فلقد سرني ما سمعت مثلما أبكاني ذلك التقديم الجميل للندوة. استمعت لأول مرة إلى أساتذة قرؤوا جيدا وبإمعان ما كتبته ونشرته وعبروا عن ذلك بمقدار من الالتزام الفكري كبير. ولذلك أقول عن هذا اليوم إنه "يوم كبير".
بهذه الكلمات المفعمة بالحب والصدق، خاطب المفكر الكبير "محمد أركون" الجمهور الذي حضر لمتابعة الندوة الفكرية المهمة، التي أقيمت تكريما له ولأعماله، من طرف شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك في السابع والعشرين من شهر مايو 2010 بالدار البيضاء، أي قبل رحيله بأشهر معدودات.
لم يكن حدث الندوة عاديا، بالنسبة لأركون، بل كان "لقاء فكريا ناجحا بل تاريخيا حتى". كما قال: "ولعلي ما كنت أنتظر أن يبلغ هذه الدرجة من النجاح الذي أستسمحكم في أن أصفه بالنجاح التاريخي. إنه فعلا حدث تاريخي على مستوى التفكير وعلى مستوى السيطرة على اللغة العربية وتطويعها". ولهذا لم يفت الراحل أن يوصي بنشر أعمال الندوة وتعميم خلاصاتها ونتائجها على الجمهور الواسع من القراء في العالم العربي.
وهاهي أشغال الندوة تصدر مطبوعة في إخراج رائق في كتاب من الحجم المتوسط يتضمن ثمانية عروض، فضلا عن مقدمة و"تقديم جميل" للأستاذ عبد الإله بلقزيز وكلمة ختامية للمحتفى به قيد حياته المفكر محمد أركون. والحق أنه لولا المجهود الكبير الذي بذله الأستاذ بلقزيز في الإشراف على طبعه وتنقيحه لما كان له أن يخرج في هذه الحلة القشيبة شكلا ومضمونا. وكما جاء في تقديم الكتاب، فإن هذا المؤلف يستقي أهميته من اعتبارين أساسيين: يتمثل الاعتبار الأول، في كون الندوة شكلت "آخر مناسبة فكرية حضرها هذا المفكر الكبير قبل رحيله". أما الاعتبار الثاني، فهو أن هذا الصنيع فيه رد لبعض الدين لهذا العالم نظرا لما أسداه من خدمات جليلة للفكر العربي والإسلامي. ولهذا يعتبر هذا الإصدار ترجمة عملية لوصيته بضرورة "نشر موادها في كتاب"، وتكريما ثانيا لروح الراحل أركون، بعد أن كرمته "شعبة الفلسفة" بالدار البيضاء حيا.
عبد الإله بلقزيز: محمد أركون آثر كسر المحظور وفلق المستغلق وتهوية المختنق.
في تقديمه لأعمال الندوة، أشار الأستاذ "عبد الإله بلقزيز"، إلى المكانة المعرفية والعلمية المتميزة التي شغلها الراحل محمد أركون داخل خريطة الفكر العربي والإسلامي، والإنساني منه على وجه العموم، في العقود الخمسة الأخيرة. كما وقف عند جانب من الخصال والسمات العديدة، التي ميزته وتفرد بها عن غيره من الباحثين والدارسين السابقين، المجايلين منهم والأتباع، ممن عنوا بما عني به من مسائل في مجال الدراسات الإسلامية. فقد كان أركون، في نظر "بلقزيز"، بحق "قامة علمية سامقة وباحثا موسوعيا نادر النظائر". كما كان "صاحب جرأة في الرأي، شديد التمسك باستقلالية فكره ورأيه عن أية مؤسسة أو وظيفة غير تلك التي رسمها لفكره وارتضاها لنفسه كمثقف حر مؤمن بالبحث العلمي وحرية التفكير. فهو لم يحاب أحدا ولم يتملق جمهورا ولا داهن سلطة، وهي كلها صفات عز مثيلها في تاريخنا الثقافي الحديث. فقدم - من نفسه وسيرته – المعنى العميق للالتزام المعرفي.
عبد المجيد خليقي: الإسلاميات التطبيقية مشروع فكري ذو طموح منهجي متعدد.
كشف الأستاذ "عبد المجيد خليقي" في عرضه على أن ما يميز الإسلاميات التطبيقية مقارنة بالإسلاميات الكلاسيكية، هي أنها "ممارسة علمية" متعددة المشارب والاختصاصات. ومن ثم، فهي تختلف نوعيا عن "الإسلاميات الكلاسيكية" من حيث سعيها إلى الكشف عن الفرضيات الضمنية والبنية المفهومية والمصطلحية التي يستند إليها هذا التراث، من خلال إعمالها آليات التحليل الأنثربولوجي في نقد العقل الإسلامي المنتج له، في مختلف تجلياته وأبعاده العملية والتشريعية، ودراسة اللامفكر فيه داخل الفكر العربي الإسلامي، ومن هنا هذه العلاقة التلازمية التي تربط الإسلاميات التطبيقية كفعالية علمية بالحداثة. ليخلص الباحث إلى أن مشروع الإسلاميات التطبيقية ما زال يصطدم بجملة من العوائق، وفي مقدمتها: هيمنة السياج الدوغمائي على بنية التفكير الإسلامي، فضلا عن رفض النخبة الحاكمة أي محاولة لخلخلة هذا التابو الديني، كونه يشكل أحد أهم المرتكزات الإيديولوجية التي تتأسس عليها سلطتها.
محمد الغيلاني: نقد العقل الأرثوذكسي عماد المشروع النقدي والمعرفي لأركون
يعتبر الأستاذ "محمد الغيلاني"، أن جل كتابات أركون موصولة بفكرة مركزية تمثل عماد مشروعه النقدي والمعرفي، وتتمثل في طموحه المعلن إلى نقد العقل الإٍسلامي الأرثوذوكسي وتفكيكه، بغية الكشف عن أنواع الإعاقة المعرفية التي علقت بالعقل الإسلامي، وعطلت وظائفه. ولعل أهم ما يجعل قراءة أركون تتميز عن غيرها من القراءات، كونها قراءة تجعل من الفكر الديني حصيلة صيرورة تاريخية تتفاعل في إنتاجه معطيات تاريخية واجتماعية عديدة. ومن ثم، يميز أركون في حديثه عن الوحي، بين الوحي "النص الهلامي المتعالي"، وبين الوحي "الظاهرة" كما يتجسد في التاريخ. كما تطرق "الغيلاني" إلى الأسس التي ينهض عليها مشروع أركون في نقد العقل الديني، بالتأكيد على الأهمية الخاصة التي يحتلها المنهج التاريخي ضمن التصور الأركوني، الداعي إلى تفكيك العقل الإسلامي وضرورة إخضاع الدين للتاريخية، ودراسته في ضوء إكراهات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
عبد اللطيف فتح الدين: قوة المشروع الأركوني تتمثل في زعزعة البداهات والمداميك الخيالية
يشير الأستاذ "عبد اللطيف فتح الدين" في معرض مداخلته، إلى أن مفهوم النقد في مشروع محمد أركون يرتبط لديه أساسا بقضية المنهج، حيث يحدده معالم هذا المشروع في ثلاث دعامات أساسية، هي: ضرورة تطوير المعرفة بالتراث بإعمال آليات قرائية وتأويلية جديدة، باعتبارها مدخلا لازما للخروج من الأثوذكسية وتجديد تصوراتنا بصدد إشكاليات التراث والحداثة. أما الدعامة الثانية فتتمثل في رفضه عزل مباحث الفكر الإسلامي عن بعضها البعض أو النظر إليها بحسبانها قطاعات مستقلة. في حين تتجلى الدعامة الثالثة في توظيفه عدة مفاهيمية مستقاة من حقول معرفية متعددة.
وبحسب الأستاذ "فتح الدين"، فإن النقد عند أركون، هو عملية من الموازنة والمقارنة، التي تقوم على التفكيك والتقييم والتقدير بغاية الإتيان بمعرفة أفضل بالظواهر البشرية والاجتماعية والتاريخية وبتاريخ تكونها وسياقات تشكلها.
توفيق رشد: ما يميز أركون هو مجاوزته للحدود التي تفصل بين المجالات الفكرية
يؤكد الأستاذ "توفيق رشد" في مداخلته على أن ما يميز "استراتيجية التفسير" عند محمد أركون، أنها لا تتبع منهجا بعينه، كما أنها لا تصدر عن مناهج متعددة ومختلفة، وهو ما يجعل أركون "متعدد الحرف" دون أن يتنافى هذا مع التخصص. إذ إنه لا يكاد يستخدم منهجا حتى يغادره إلى منهج آخر، بعد أن يكشف حدوده ويبرز ضيق أفقه. ومن ثم، يسعى أركون إلى القيام بنقد مزدوج للأطروحات والخطابات الاستشراقية بهدف تقويضها، وأيضا وفي الوقت ذاته، نقد الخطابات الإسلاميات وتسفيهها، باعتبار هذه العملية المدخل الأسلم لتأسيس فكر علمي بالظاهرة الدينية. ولعل هذا ما يكسب قراءة أركون كامل مشروعيتها العلمية، كونها تسعى إلى المجاوزة الدائمة للحدود، حدود الفكر العربي والغربي معا، حيث لا حدود تفصل بين المجالات الفكرية.. علاوة على أنها تسعى إلى فتح آفاق جديدة وسلك طرق غير مأهولة لم يسلكها أحد من قبله.
عبد العالي معزوز: نحو قراءة أنثربولوجية للظاهرة الدينية
يعتبر الأستاذ "عبد العالي معزوز"، أن أحد الأسئلة الأساسية التي شغلت أركون، هو محاولة البحث في الأسباب التي تقف وراء مقاومة الدين الإسلامي للحداثة الدينية. والجواب، حسب أركون، هو أن الإسلام السياسي يشكل العائق الرئيس في وجه كل محاولات التحديث. ومن ثم، فلا سبيل للخروج من هذا الوضع من دون تحقيق مسافة نقدية مع الاعتقاد الديني، وما لم يتم إخضاع الظاهرة الدينية إلى النظر الأنثربولوجي، أي بمقاربة الواقعة الدينية من منظور اجتماعي- تاريخي يستكشف الواقعة في أبعادها الخيالية والرمزية وتعبيراتها الانفعالية، وليس باعتبارها فقط وحيا متعاليا.
ليخلص الباحث إلى أن المقاربة الأنثربولوجية تقتضي معالجة إشكالية بالغة الأهمية، وتتمثل في ضبط العلاقة بين العنف والحقيقة والمقدس، التي يعتبرها أركون، "أحد القضايا اللامفكر فيها الأكثر شساعة والأقل تسامحا في الفكر المعاصر". وهو ما لن يتأتى إلا بإعمال آليات التأويل والنقد للحقيقة القرآنية أو الحقيقة كما يصوغها النص القرآني.
محمد الأندلسي: من أجل قراءة جديدة للنص القرآني
يعتبر الأستاذ "محمد الأندلسي"، أن الهدف المعلن الذي يروم أركون تحقيقه من خلال قراءته النقدية للنص القرآني، ليس بلورة نظرية لاهوتية حديثة للوحي، بل إعادة أشكلة مفهوم الوحي. ذلك أنه في مقابل الطرح اللاهوتي الذي ينظر إلى النص القرآني باعتباره نصا مفارقا متعاليا منفصلا عن التراث الإسلامي، يعتبر أركون أن النص القرآني جزء لا يتجزأ من هذا التراث. ولتحقيق هذه الغاية، يوظف أركون في قراءته للقرآن عدة منهجية متعددة، عمادها الأساس: المنهج الألسني السيميائي ومنهج النقد التاريخي ومنهج المقاربة الأنثربولوجية. ليخلص الباحث إلى أن الأهمية النقدية لهذه القراءة، فضلا عن تفردها وتميزها، تكمن أساسا في قدرتها على تحرير معاني بعض السور القرآنية من أسر السجن الدغمائي والمغلق والنهائي لمعاني النص القرآني. هذا على الرغم من بعض الصعوبات التي تواجه هذه القراءة، وفي مقدمتها المكانة اللاهوتية والوظيفة المعرفية والنفسانية والإيديولوجية التي يحظى بها القرآن، إضافة إلى صعوبة التوصل إلى المعنى التاريخي الكامل للعبارات اللغوية القرآنية.
محمد الشيخ: تجديد الدعوة الإنسية باعتبارها إحدى أهم المعارك الفكرية لأركون
يقترح الأستاذ "محمد الشيخ" في مقالته، مدخلا أساسيا لمقاربة النزعة الإنسية في كتابات أركون، يركز فيه بالأساس على جملة من الأسئلة المرتبطة بمدى إسهام محمد أركون في التعريف بهذه النزعة، ومدى قدرته على التعرف على مظانها إن وجدت، وسماتها المميزة، والأسباب التي أدت إلى ضمورها، وأخيرا التساؤل عما إذا كان بالإمكان إعادة إحيائها. ولعل من بين الخلاصات الأساسية التي توصل إليها الدارس في هذا الصدد، أن أركون يقر بوجود "إنسية عربية" في التاريخ العربي الإسلامي، تجسدت على الخصوص في أحد أهم الحوامل الثقافية، وهو ما يسميه: "الأدب الفلسفي". إذ يؤكد في هذا الإطار على وجود بعض الأمارات الدالة على ميلاد "ذات" بشرية شديدة العناية بأمر استقلال الفرد في ممارسة مسؤولياته الخلقية والمدنية والفكرية، وهو ما حاول أركون أن يستجلي بعض سماتها في الثقافة العربية الكلاسيكية. ليخلص إلى أن أركون بحث في أسباب اختفاء تيمة الإنسية من مجال النظر العربي والإسلامي، ليجعل من تجديد "الدعوة الإنسية" إحدى أهم معاركه الفكرية.
عبد المجيد الجهاد: من أجل التأسيس لحداثة بمضمون إنساني
اعتبر الأستاذ "عبد المجيد الجهاد" في مقالته، أن تصور الحداثة عند أركون، يقوم على أطروحة أساس، مؤداها أن لا إمكانية لتحقيق مشروع الحداثة في العالم الإسلامي من دون قراءة نقدية مزدوجة للعقل الديني وللعقل التنويري في الآن ذاته. وبعد الوقوف عند المآخذ الأساسية التي سجلها أركون على الحداثة الغربية، انتقل إلى تحديد المعالم الأساسية لمشروع الحداثة عند أركون، والتي حددها في بعدين رئيسين: استدماج البعد الإنسي، ورد الاعتبار لمكانة العقل الديني في أي مشروع للحداثة، باعتبارهما شرطين لازمين لتأسيس حداثة بمضمون إنساني. ليخلص في الأخير إلى إيراد بعض الملاحظات الانتقادية حول مشروع أركون الفكري، وليتساءل بصددها عن مشروعية استدعاء بعض النماذج التراثية في مشروعه التأسيسي للحداثة، وحول أفق هذا المشروع وسبل تحقيقه، وحول موقع اللغة العربية في صياغة هذا المشروع.
محمد أركون: الحاجة إلى إعادة قراءة تاريخ المنطقة المغاربية
تركزت الكلمة الختامية التي أدلى بها "محمد أركون" في أعقاب الندوة، على لفت الانتباه إلى العديد من القضايا والإشكالات الفكرية والثقافية والسياسية التي ظلت تشغله، والتي حث الدارسين على ضرورة التفكير فيها، وفي مقدمتها الحاجة إلى إعادة قراءة تاريخ المنطقة المغاربية قراءة علمية، بهدف رسم معالم المستقبل التاريخي لهذه الرقعة التاريخية والجغرافية. كما أعاد التأكيد على أهمية الثقافة والتثقيف والفكر والنقد في وضع الأسس التأسيسية للفكر والمستقبل، هذا بالإضافة إلى التطرق إلى بعض القضايا الفكرية التي يرى ن الضروري البحث فيها وإعادة التفكير فيها من منظور نقدي، كالمسألة الأخلاقية والدينية واللغوية.


قراءات في مشروع محمد أركون الفكري، ندوة فكرية، تقديم: عبد الإله بلقزيز.- بيروت: منتدى المعارف، الطبعة الأولى، 2011.
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !