مواضيع اليوم

قراءات في المعترك الراهن ذكريات مريرة

أحمد الشرعبي

2010-01-02 10:27:03

0

قراءات في المعترك الراهن ذكريات مريرة
لا أروم التنصل من مواقف معلنة إزاء حرب الخليج واجتياح الجيش العراقي لدولة وشعب وحكومة الكويت في أوائل أغسطس 90م..
وليس لدي الآن أي رغبة للتزحزح عن قناعات يترسخ إيماني بها كلما توالت على الوطن العربي سهام الغزاة ونالت منه الضغائن المتبادلة بين الأخوة الأعداء. وكلما ألفيت الوطن الكبير يغلي بمراجل الحق ومكابارت الثأر، ويعتمر الهزائم الجديدة ويساق رغم أنفه إلى انتكاسات ما كان لها أن تنخر جسد الأمة لولا استعلاء الأخ على أخيه وميل بعض الأنظمة إلى المغامرات وتوقها لتكريس مبدأ القوة والعدول عن حسابات العقل ولغات الحوار ووشائج القربى وصلات التلاحم وموجبات الحب ودواعي الثقة والحرص وانصراف هذه الأنظمة أو تلك لمعايير غاية في العجرفة المغموسة بزهو العظمة وانشدادها لمراحل الانحطاط التي مرت بالأمة أيام كان لكل فارس رمحاً يهوى به على مضارب القبيلة القريبة منه.. ولكل حسب يعتد به إما لدم أراقه أو نفس أزهقها أو تجارة نهبها وحسناء انتزعها من عشيرتها وأضافها لحشمه وأسلابه في ظل قانون القوى الذي لا يعرف حرمة ولا يحتكم لقانون ولا يأنس لرادع من خلق أو زاجر من مروءة.
ومن المصادفات الحسنة أن رأيي تجاه الاجتياح لم يكن يختلف عن رأي رفاقي "حينئذ" في سكرتارية اللجنة التحضيرية للتجمع الوحدوي اليمني لا من حيث المبدأ ولا في التفاصيل التي قادتنا جميعاً لاتخاذ موقف عاجل تمثل بصدور أول بيان حزبي يدين الاجتياح ويدعو القيادة السياسية في بلادنا لاتخاذ عدد من القرارات المساندة للكويت وحقها الكامل في السيادة والاستقلال..
ثوابت ومنطلقات
ولم يكن الموقف من هذه القضية انعكاساً لعواطف مجردة أو لميول سياسية آنية أو لعلاقات تحددها لمصالح الذاتية ولكنه التجسيد الخلاق لثوابت تحتل الصدارة في الضمير الإنساني وهو التسليم المطلق بمنطلقات يستحيل تجاوزها وإلى تلك الثوابت والمنطلقات فإن للكويت أياد بيضاً أسدتها لصالح وطننا اليمني وما تزال بصماتها قائمة وستظل حاضرة الوجدان كلما احتاج الوطن العربي لنموذج يحتذى للتدليل على أشرف ......... العلاقة بين شعبين شقيقين ونظامي حكم عربيين.
لقد كانت الكويت خيمتنا التي نضمد بها جراح الصراع المسلح بين شطري اليمن قبل الوحدة..
وكانت الكويت الدولة التي تدفع ثمن مواقفها المبدئية الرامية لاستعادة الشعب اليمني وحدته.. وكانت الكويت ذلك النبع الذي يفيض بخيراته لدعم خطط التنمية الاقتصادية ولم تسجل ذاكرة الشعب مأخذاً واحداً على الحكومة الكويتية التي حرصت دائماً على أن تكون علاقتها باليمن بعيدة عن الشبهات أو المطامع.. ولم تسمح الكويت لنفسها في يوم من الأيام بالتدخل في خصوصية القرار السيادي ولم تبحث يوماً عن مراكز ثقل ولم تجد نفسها مدعوة للأسف على سوء تصرف في حق الشعب اليمني.. وهو نفس السياق التاريخي الذي طبعت به علاقة اليمن بدول الخليج العربي..
بيد أن طابع التميز في مجرى العلاقات اليمنية الكويتية والخليجية على وجه أخص لم يكن السبب الوحيد الذي حدى بنا لمناصرة الكويت وإدانة الاجتياح العراقي ولكن لأننا في الأساس نؤمن بمسلمات أخرى لا يطالها الشك ومنها على سبيل المثال أن العرب ما برحوا الفاجعة المنكرة التي لحقت بهم منذ 48 وصدور وعد بلفور المشئوم قبل ذلك بكثير باعتبار فلسطين وطناً لشذاذ الآفاق من اليهود ودعم بريطانيا والدول الغربية للصهيونية العالمية وحضها على اعتماد مبدأ القوى وإقامة ترسانة عسكرية في الأراضي العربية المحتلة وتشريد شعب من وطنه وقمع إرادته الذاتية المستقلة وعلى مدى الحقبة الزمنية التي أمضاها اليهود على الأراضي الفلسطينية تكونت لدى الشعب العربية ثقافة ترفض الاحتلال وتستهجن اللجوء للقوة في اغتصاب أراضي الغير..
ولا ريب أن المبادئ الاستراتيجية العليا كل لا يتجزأ فما نحرمه على أعداء الأمة لا ينبغي في حال أن تبيحه الأنظمة العربية لنفسها وإلا لغدا الثمن فادحاً لاسيما "وظلم ذوي القربى.. الخ"
ومن جانب آخر فإننا في اليمن تتملكنا حساسية مفرطة حيال قضايا الحدود وأساليب الاقتطاع بل لقد صار مثل هذه القضايا أدنى إلى الجراح التي ما تكاد تلتئم مرة إلا وتذاكي الشعور الهائج بها مئة مرة ولأتفه الأسباب..
وكما أننا نغار على وطننا ونرى أن تجاوز الحقوق التاريخية في الخارطة الجغرافية لكل دولة إنما يعبر عن امتهان لكرامة الشعب وسيادة الوطن كذلك تكون نظرتنا حيال الكويت دولة سيادية ووطناً مستقلاً وشعباً متحرراً من الوصاية والتبعية تتقدمه إرادة واعية ومؤسسات دستورية مقتدرة..
والعراق أيضاً..
على أن مشاعر الحب والامتنان تجاه أشقائنا في دولة الكويت لم تكن لتنفي حبنا العميق للأشقاء من أبناء الشعب العراقي.
فالعراق دولة تمتلك مقومات حقيقية لقيام كيان عربي قادر على مساعدة الأمة في النهوض بدورها الحضاري وفي العراق نواة غير عادية من شأن رعايتها ونموها إحداث تغيير جديد في موازين القوى يفرض واقعاً إيجابياً لصالح القضايا المصيرية.
ولدى العراق أسساً نظرية تمثل توجهه نحو مشروع قومي من شأن نجاحه إن يحيي في الأمة مواتها ويذكي تطلعاتها ويحشد إمكاناتها الكبيرة بطرق سلمية وأساليب منطقية ومنطلقات فكرية يتجسد من خلالها الشعار الذي تزدان به واجهات حزب البعث العربي الاشتراكي وفروعه في الأقطار العربية والقائل "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة".
لكننا كنا ندرك أن الاجتياح العسكري لدولة الكويت يمثل انتكاسه محزنة للمشروع القومي وسيفضي في مطافه الأخير لتوجيه ضربة قاسية تضعف قدرات العراق العسكرية وتقوض بنيته الاقتصادية وتلحق الضرر الفادح بشعب العراق وسمعة نظامه السياسي.
إن الموقف تجاه قضية ما لا بد أن يكون نتاجاً لدوافع ومصوغات.
ولا ريب أن الذين جمعوا بين إدانة الغزو العراقي من جهة والتدخل الأجنبي من جهة إنما انطلقوا في ذلك من حرص على سيادة واستقلال الكويت يقابله من الناحية الأخرى حرص مماثل على الوطن العربي من تدخل دولي ينتهي باحتلال غير معلن لمقدرات الأمة وكرامتها..
وذلك ما نبه له قطاع واسع من المثقفين والسياسيين العرب عند نشوب الحرب وما تزال آراء المفكرين على اختلافهم تذكر به وتعد حرب الخليج كارثة قومية لا مثيل لها.
ولعل الكاتب العربية الكبير الأستاذ محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية ذائعة الصيت قد عرض في آخر ما وقفت عليه من آرائه قد عرض لوجهة نظر حصيفة على نحو ما أشرت له عند حديثه المستفيض عن حرب الخليج وآثارها السلبية على الأمة العربية وسبل معالجة التشوهات التي نجمت عنها.
التغرير على البسطاء
ومهما يكن الأمر فلست لأنكر ذلك الدور النشط الذي لعبته بعض الأحزاب لتحريف القناعات الشعبية والإندساس في أوساط المغتربين الذين ساءت معاملتهم من قبل عدد محدود من الأجهزة السعودية حيث اضطروا لمغادرة أعمالهم في المملكة والتضحية بكل مدخراتهم والعودة المباغتة إلى اليمن..
ولا شك أن الأحزاب السياسية التي اضطلعت بأدوار مؤيده للعراق وأسندت لقواعدها مهمة التغرير بالبسطاء من الناس ودفعهم للتظاهر والهتاف هذه الأحزاب إنما استطاعت القيام بمثل ذلك الدور بفضل بنيتها التنظيمية وتربيتها الحزبية وخبرتها في تهيئة الرأي العام وبث الإشاعات واختلاق مسوغات التداليس الموجه.
ومثل هذه التربية وإن كان من المسلم به أنها شبه مفقودة في إطار المؤتمر الشعبي غلا أن من الثابت توافرها لدى الحزب الاشتراكي الذي لم يكتف بالتغرير على عواطف البسطاء من أبناء الشعب بل تجاوز ذلك وذهب مؤخراً للتدليس على الأشقاء في دول الخليج والمملكة العربية السعودية للتنصل من مواقفه السابقة حيال الاحتلال العراقي وإلقاء اللائمة على قيادة المؤتمر واستعداء الدول المشاركة في "إعلان دمشق" ضد الدولة اليمنية بكل ما ترمز له من وحدة وديمقراطية وشعب وسيادة واستقرار.
خلفية تاريخية
ومن أشد المواقف استعصاء على الفهم أن نجد الحزب الاشتراكي يدير توجهاته السياسية خارج نطاقه وفي ساحة لم يكن له فيها منذ نشأته الأولى أي صلة معلنة أو تواصل رسمي مباشر..
ومن أغرب القضايا الراهنة أن يتحدث الحزب الاشتراكي ببجاحة عن علاقات قوية تربطه بدول الخليج والسعودية وعمان..
لقد كان الاشتراكي عبر تجارب سياسية طويلة يقف على النقيض تماماً من التحديات الذي تواجهها الأمة العربية ويساند أي قوة أجنبية تطمع باحتلال أجزاء مختلفة من الوطن العربي في طليعتها دول الخليج.
وما من مرة أتيحت للحزب الاشتراكي فرص النيل من استقرار الدول العربية المجاورة لبلادنا إلا واستغلها في سبيل الإساءة إليها والتدخل في شئونها الداخلية مثال ذلك تآمر الحزب ضد سلطنة عمان ومساندة المناوئين للنظام السياسي في السلطنة ومدهم بالأسلحة وتحريضهم على استخدام العنف وتحويلهم المهرة وعدن إلى قاعدة لنشاط هؤلاء الذين لم تنته علاقة الحزب التخريبية بهم إلا عندما استخدم جلالة السلطان قابوس حكمته لاحتواء مواقفه ورحابة صدره لاحتواء الموقف وتجريد الحزب الاشتراكي من استخدم ما أسمي حينئذ بثوار ظفار كورقة للابتزاز والمساومة ولإثبات قدرته على إيذاء الشعوب.
وبنفس السياق حاول الحزب وما يزال يبذل جهوداً استثنائية سرية لبناء تشكيلات ماركسية متطرفة ذات نشاط سياسي متغلغل في المملكة العربية السعودية ولا أود الدخول في التفاصيل ولا الإسراف في الاستشهادات عن علاقة الاشتراكي بأطراف مذهبية متشددة في بعض المناطق السعودية وكيف أن الحزب كان عبر سنوات طويلة الذراع القوية التي يمدها جهاز "الكي جي بي" السوفياتي والاستخبارات الألمانية في عهد "هونيكر" لإقلاق أمن الأنظمة العربية التي وصفها الحزب باعمالة والرجعية و الامبريالية ونعت قادتها بالجهل والانحلال كما لا حاجة بي للتذكير بموقف الحزب من أمن واستقرار وسيادة دولة عربية شقيقة كالبحرين ولا للتذكير بدور الاشتراكي وعنايته برعاية وتمويل الجبهة الشعبية لتحرير البحرين ولا لتذكير الأشقاء بحادثة تفجير شارع الصحافة في الكويت الشقيق وهي الحادثة المشهورة التي كان للحزب فيها اليد والعقل والتخطيط.
بيد أن الذي استوقفني بقوة وأثار جانبا من ملاحظاتي التي امتنعت عن تدوينها فيما مضى لاعتقادي أنها لا تعدو أن تكون في عداد التهيؤات الخيالية هو مواقف الحزب الأخيرة من دول الخليج وتنصله الكامل من تاريخه وتنكره لآرائه الموثقة بصدد غزو الكويت وما ترتب علي الجمهورية اليمنية من عبء ومشقة جراء سوء الفهم حيناً وارتفاع وتيرة الإحساس الخليجي بتقصير الحكومة اليمنية تجاه ما حدث..
المشروع المبكر
يوم نعود لتذكر مستوى العلاقات الأخوية التي عهدناها مع الخليج منذ 15عاماً من تولي الرئيس علي عبد الله صالح لمقاليد الحكم وما كانت عليه من تطور مضطرد وتنام حميم وثقة وطيدة الجذور..
وحين نستعرض المنجزات التي قدمتها الكويت والإمارات والبحرين وقطر والسعودية للمحافظات الشمالية قبل أن تمتد مأساة لاشتراكيين لتشمل الشعب اليمني بأسره.. مثل هذا التذكر يجعلنا نؤمن بأن تردي تلك العلاقات إلى الحضيض يعتبر جزء من خطة دقيقة رسمها الحزب الاشتراكي منذ المباحثات الوحدوية التي جرت بين الرئيس ونائبه في نوفمبر 89 حتى 22مايو 90م.
لقد بت على قناعة مطلقة بأن الحزب الاشتراكي دخل الوحدة وفقاً لخطة انفصالية محكمة.
وللتدليل على ذلك يمكن حشد مئات الأمثلة من تصرفات الحزب وسلوكياته خلال الأعوام التي انصرمت من عمر الجمهورية اليمنية على المستويين الداخلي والخارجي..
لقد أراد الحزب من خطته المتقنة أن يغير جلده الموشى بالدماء وأن يخفي المنجل الاشتراكي المعقوف ويتمرد على تمثال لينين الذي ينتصف في تلك الساحة الداخلية لمقر اللجنة المركزية بخور مكسر ويخلع على قياداته عباءة الأمراء ولقد فعل الحزب ذلك ونجح إلى أبعد الحدود وجاء دوره للانتقال إلى الشق الآخر من اللعبة حيث تسلل إلى أعماق العلاقات اليمنية الخليجية الوطيدة وحطم لوحتها المشرقة على رأس علي عبد الله صالح ويحولها إلى خنجر مزروع في كيان الوحدة وضمير الشعب..
ولم تكن لدى الاشتراكي فرصة أغلى وأمثل من أن يفرش للجيش العراقي أهداب الثقة والاقتدار على امتداد الطريق التي قطعها هذا الجيش صوب الكويت..
وهو من موقع مشاركته الرئيسة التي تحتل المركز الأولى في إرادة شئون الدولة اليمنية بمؤسساتها المختلفة عمل بجلد وإخلاص وتفاني لكي يدفع بالقرار السياسي في الاتجاه الذي يضمن نسف الجسور وحين ألفح في مها هدف له بادر للترحيب بحصان طروادة وتقديم نفسه كأبشع ما تكون عليه الخيانات ولم يتورع عن عرض خدماته اللاوطنية مستغلاً حالة الاستياء التي خلفتها حرب الخليج.
ولشد ما كان عليه اندهاشي للمواقف التي اتخذتها قيادة الحزب للتعبير عن آمالها العريضة المعلقة بغزو الكويت والتي تنشد أن يكون ذلك نهاية لعصر القصور وديكتاتوريات الأسر المعيقة لتطور الإنسان المتحكمة بثروة الوطن المنسلخة عن قوميتها..
ولقد كان من الإدهاش المفزع أن يظهر الأستاذ جار الله عمر وهو أحد أبرز القيادات الاشتراكية في صورة من الحماس المتهور الذي يفوق حماس قيادة البعث العراقي.
ولكم أدركتني الحسرة يوم رأيته في ميدان السبعين وآبار النفط الكويتية في ذروة الاشتعال فيما المنظر الاشتراكي يمتطي سيارة مكشوفة شاءت سخرية الأقدار أن تحولها إلى منصة غاية في السخرية والازدراء وفي حضرة قواعد الحب ولفيف من السذج حشد الجار الله كل مفردات النضال والتحرر والعروبة والإسلام وكل ما في رأسه من أساطير خرافية وأحكام بدائية وأمثلة فكاهية واستشهادات شعرية ومصطلحات أيديولوجية جميعها للاستدلال على ختل الموقف الخليجي وفاحشة الارتهان لدول الغرب وفضيحة اللجوء للأجانب.
يومها لذت بالفرار إلى منزلي وإذا بإذاعات العالم تتحدث عن الموقف اليمين المتشدد لممثل اليمن في الأمم المتحدة والعضو القيادي في الحزب الاشتراكي الأستاذ عبد الله الأشطل.
ولا أنكر أن الأشطل جعلني أشك في عدالة موقفي إذ اضطلع بدور لم يرق لتمثيله ممثل العراق لدى الأمم المتحدة نفسها.
ولم أستيقض إلا على أصداء الكلمة التوجيهية التي ألقاها علي سالم البيض في الكوادر الوسطية لمنظمة الحزب بمحافظة صنعاء حيث دعاهم لشد الأحزمة والتوثب النضالي لدعم القضية المصيرية للأمة العربية في كفاحها ضد الأمراء والقصور.
ولا ريب أن الوفد البرلماني الكويتي الذي زار بلادنا إبان مرحلة الاحتلال يتذكر موقف عدو كالشيخ عبد الله بن حسين الأحمر وصديق كسالم صالح أو لعله يروي على آية طبيعة وجد معارضة كنت ضمنها وأي مثقف اشتراكي أسمع الوفد رأياً مماثلاً يعبر عن مجرد استياء خفي لدى أصدقاء الخليج في الوقت الضائع.
الحزب يصرخ واصداماه
في معادلة معقدة كحرب الخليج يصبح من المتعذر انتصار العقل لمجرد أنه الأدعى لمصلحة الشعوب ذلك أن التاريخ في سياقه العام لا يعطي مثالاً واحداً لغلبة الحق على الضلال وسيادة المنطق على خطل الرأي إلا بعد مخاض غير هين وبعد أن يكون الباطل قد استكمل صولته ووهت حجته ودحضت أسبابه وانثالت سحبه الكثيفة وغدا في وسع الناس رصد الحقائق وتمييز المواقف واستبانة الهدى من رواسب الزيغ ومفترياته..
ولو كان الله جعل الخير والعدل يتقدمان إرادة المجتمعات في حيواتها الدنيا إذاً لغدا الشر افتراضاً والباطل مجرد زعم لا وجود له إلا في أساطير وفي ثنايا الأحاجي المروية في قصص الخيال..
وهنا فإن قوة العقل والعدل إنما تكمن بقدرتهما على الحسم والرسوخ بينما الباطل كالزبد يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً..
ولئن كان الحزب الاشتراكي قد حقق بعض النجاحات في استدراج بعض دول الخليج وربما صادفت توجهاته الرامية لضرب الوحدة اليمنية حاجة في نفس هذه الجهة أو تلك إلا أن محاولته الهادفة لتحقيق ذات النتيجة في أوساط العشب اليمني ستبوء بالفشل الذريع لاسيما وأن ملف الحزب حيال حرب الخليج ومواقفه من القضايا العربية والإسلامية حافل بفضائح يندى لها جبين التأريخ.
ومن خلال المواقف الموثقة لقيادة الحزب يتضح بجلاء كامل أن الاشتراكي لعب دوراً لم تفطن لأدائه أشد الأجهزة الاستعمارية عداء للعروبة والإسلام..
في غضون تلك المرحلة العصيبة من تاريخ الأمة العربية كانت قيادة الحزب من العطاء إلى سالم صالح تتناوب على زيارة العراق وتحض القادة العراقيين على بسط نفوذهم في المحافظة الـ 19 "كاظمة" ليس لأن الحزب مع العراق أو لكونه أوثق علاقة بالرئيس صدام حسين ولكن لأن الحزب الاشتراكي يريد الإيقاع بدولة عربية قوية والزج بقيادتها وشعبها في أتون كارثة محققة.
ومن الفضائع الفاحشة أن تستعدي قيادة الحزب دول الخليج والسعودية ضد الرئيس علي عبد الله صلاح وتنسى هذه القيادة موقف الأخ سالم صالح محمد الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني عضو مجلس الرئاسة عندما أطلق صرخته الانتهازية "وآصداماه" على غرار ما فعلته المرأة المسلمة في عمورية يوم صفعها تاجر يهودي فهتفت بالمعتصم تستنجده لرد كرامة الإنسان في أشهر أحداث التاريخ المجيد.
وإذا كان من خطأ لقيادة اليمن الوحدوية حيال الشعب الكويتي فليس إلا لقبولها بابتعاث السيد سالم صالح إلى العراق وعلمها أن الرجل خان الأمانة وأساء نقل الموقف الرسمي وذهب في بداية حديثه مع الرئيس صدام إلى القول "المعنويات جيدة عندنا والحمد لله نريد أن نتزود منكم بمعنويات إضافية".
إن من حق الكويت أن تمتعض من القيادة السياسية في الجمهورية اليمنية، كما أن من واجبنا في اليمن أن نوضح لأشقائنا طبيعة الموقف ولكن ما نعتقده ظلماً بحق الجوار والأخوة وروابط العقيدة والتاريخ أن يتحول الاستياء من القيادة السياسية إلى موقف من الوحدة اليمنية.
صحيح أن مثل هذا الاستنتاج لا يستند لقرائن عملية ولكن تعامل بعض هذه الدول مع رموز الردة والانفصال في الحزب الاشتراكي اليمني ممن كانوا يعملون بوضوح ضد الكويت ويؤيدون احتلالها مثل هذا التعامل كفيل بإثارة لبس حقيقية بل ويدفع إلى الاعتقاد بأن دعم الحزب أو التعامل معه ليس انعكاساً للموقف الرسمي لبلادنا من حرب الخليج ولكنه يمثل موقفاً عدائياً لوحدة اليمن واستقراره.
ولئن حاول الحزب أن يعطي لتحركاته الأخيرة التي قام بها إثر لقاء عُمان مثل هذا الطابع، ولئن حاولت قيادة الاشتراكي أن تكرس في ذهنية عن تأييد بعض الدول الخليجية لمخططها الانفصالي إلا أننا نربأ بأشقائنا أن يكونوا كذلك لأنهم يدركون أهمية الوحدة في خضم التحديات العربية المصيرية ويدركون خطورة النزعات الاستعمارية المحيطة بنا وبهم ويدركون فوق ذلك أن الانفصال سوف يؤثر على استقرارهم بشكل أو بآخر وأن الكوارث التي مرت بنا حيناً وزاورتهم آونة ليست نابعة عن خيارات عربية محضة ولكنها نتاج مخطط أكبر من قدرتنا الراهنة على الاستيعاب أو المواجهة.
إن بوسع أشقائنا أن يعيدوا النظر في محضر اللقاء الرسمي بين الرئيس صدام حسين وسالم صالح محمد ظهر يوم الاثنين 29 محرم 1411هـ الموافق 20/8/1990م ولهم بعد ذلك أن يكونوا مع الوحدة ودعاتها أو العكس..
ومن المؤكد أن أشقائنا من قادة بعض الدول الخليجية أحوج ما يكونون لمعرفة دوافع الرفيق سالم صالح محمد أحد رموز الانفصال في الحزب الاشتراكي حينما قال للرئيس صدام (عندما كنا في مؤتمر القمة كنت أحكي لإخواني كيف كان الوفد العراقي يجلس هادئاً مبتسماً بصورة طبيعية بينما الآخرون في حالة من الخوف والهلع ونحن قلنا بالمقارنة أن الذين جاءت الطائرات لتضربهم يضحكون بينما الذين جاءت لهم ومن أجل حمايتهم هم الخائفون)..
ومضى سالم صالح في التحريض وانتحال صفة التمثيل للشعب وتنظيماته السياسية إذ يقول موجهاً حديثاً للرئيس صدام ما نصه (كلفنا أولاً بالاطمئنان.. وكما قلت في بداية حديثي أننا أولاً نريد أن نأخذ شحنات معنوية منكم، بعد عودتنا من القمة وجدنا معنويات عالية عند الوفد العراقي وعكسناها على عملنا وتنظيمنا).
ومن غير حرج أو إحساس بالمسئولية يبادر الزعيم الاشتراكي الفذ لطرح مخططات وسرد روايات بلسان الأشقاء في السعودية وعلى رأسهم الملك فهد بن عبد العزيز وبينما سالم صالح يغذي جانب الدسائس ويوحي للعراقيين بدور أخطر من احتلال الكويت كان الرئيس صدام نفسه الذي يدحض أفكار الزعيم الاشتراكي..
إن لأعف عن نقل تفاصيل هذا المحضر الذي أذاعته العراق منذ عام تقريباً ونشرته بعض الصحف العربية وسبب ذلك أنه ما من إنسان يحمل ذرة من الخجل واحترام الذات يسمح لنفسه بأن يتحول إلى تابع ذليل يستجدي من نظام آخر إصدار التعليمات لبلده كسالم صالح وهو يخاطب الرئيس صدام بالقول "ما الذي يجب أن نعمله نحن.. ماذا تريدون منا أن نفعله هل هناك توجيهات".
وما من عربي شريف يرى أمته على بوابة الدمار والتمزق فيشذ عن كل القيم الأخلاقية التي تدعو للنصح والموعظة لا المبادرة إلى تأجيج الصراع ونفخ مزامير الحرب كما فعل الأخ سالم صالح يوم خاطب الرئيس صدام حسين قائلاً "لقد كان الإنسان العربي يقول وامعتصماه وأصبح الآن يقول واصداماه".
لقد كفر الحزب ورب الكعبة كفر بالوحدة اليمنية والوحدة العربية وما موقفه التآمري في غضون حرب الخليج إلا نموذجاً حياً من تاريخه الدموي والخياني ضد شعبه وأمته.
في الحلقة القادمة نستكمل الحديث عن دور الحزب أثناء حرب الخليج وسياسته الخارجية فإلى الملتقى.
الصحيفة: الميثاق
العدد: 587
التاريخ: 12/3/1994م
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات