قراءات في المعترك الراهن بين يدي صنعاء
يوم الثلاثاء الموافق 8 فبراير 94 أقيم في صنعاء مهرجان خطابي كبير حضره الرئيس علي عبد الله صالح والأستاذ عبد العزيز عبد الغني عضو مجلس الرئاسة والشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رئيس مجلس النواب وطائفة من كبار مسئولي الدولة وقادتها..
وكانت المناسبة مرور 26 عاماً لانتصار الشعب على فلول المرتزقة أعداء الحياة.. وإنقاذ العاصمة صنعاء من حصار متواصل وهجمات عسكرية متلاحقة على مدى سبعين يوماً كللت باندحار المرتزقة وانتصار إرادة الله على معاول الشيطان، وغلبة الحق على الباطل، وصمود المناضلين والشرفاء الذين هبوا من كل حدب وصوب للدفاع عن الثورة وتحرير اليمن من الأغلال وإنقاذ الشعب من القهر والجهل والإذلال.
ولأن الشيء يذكر فقد وجد الخطباء من تلكم المناسبة مجالاً للمقارنة بين حصار صنعاء الذي استمر من 28 نوفمبر 67 حتى 8 فبراير 1968م بهدف إسقاط النظام الجمهوري.. وبين الحصار السياسي والاقتصادي الذي مرت وتمر به العاصمة منذ 19 أغسطس 39 من العام الماضي.
ولم يجد هؤلاء الذين أعملوا جانب المقارنة بين الحصار القديم والجديد فرقاص يحول دون القناعة المطلقة بأن التشابه في كلتا المعركتين يصل حد التطابق وإقرارهم بأن هذه من تلك ولئن بدت المسافة الزمنية شاسعة "26 عاماً" إلا أنها لا تشكل مفارقة غريبة لاسيما حين يجري قياسها بمشاهد مؤلمة عاشته الشعوب عبر كل مراحل الارتداد التي حفل بها تاريخ البشرية في عصور مختلفة.
الأمر الذي جعل بعض الساسة والمؤرخين والكتاب يعتبرون هذه المسافة الزمنية قصيرة جداً، قياساً بالأهداف المرتبطة بها وفي صدارتها على سبيل المثال، الاعتقاد بإمكانية كسب المعركة التي خسرها أعداء الثورة إبان حصار السبعين وما تلاها من محاولات مستميته لإضعاف مسيرة الثورة وتأجيج الصراع بين أبناء الوطن الواحد، وغل إرادة التطور والنماء لدى الشعب وقياداته الوطنية بواسطة اختلاق العوائق الاقتصادية وإثارة النعرات واستنهاض الفساد وبعث أمراض الماضي وتوزع الأدوار على مختلف الجبهات لتمزيق سياج الوحدة الوطنية، وتبديد القدرات والمواهب الإبداعية، وإحكام السيطرة على كل منافذ الأمل بغية امتلاك ناصية التفوق الذي يتعذر الاقتراب منه غلا بمثل هذا التكتيك وعن طريق تمزيق الآخرين وتقاسم المهام عبر مجمل المواقع السياسية المحكومة باستراتيجية خبيئة توحد بين أقصى اليمين وأقصى اليسار ضمن شعارات مختلفة ومعتقدات متناقضة ومصالح متغايرة لكن هذا الاختلاف والتناقض و التنافر لا يخرج عن نطاق اللعبة في ظل القاسم المشترك الأعظم غير المعلن بين أطرافها ولا بأس مع ذلك أن يكون الثمن الذي تدفعه الجماهير باهضاً طالما انطلقت عليها اللعبة..
ولست لأجازف برأي دون استناد لدليل قوي وحجة واضحة.. فقد أثبتت أقرب المجازر الدموية وأكثرها التصاقاً بالذاكرة أن التصفيات الدموية لا تفرق بين قائد عسكري من الضالع كعلي عنتر ومفكر وقائد سياسي من الحجرية كعبد الفتاح إسماعيل وكاتب ومنظر أيديولوجي من عدن كباذيب ولكنها تختط طريقها بعناية فائقة لتشمل الجميع باستثناء الذين رسموا معالمها وفجروا ينابيعها فائقة لتشمل الجميع باستثناء الذين رسموا معالمها وفجروا ينابيعها وضربوا "الرعاع" ببعضهم حتى إذا ما استبانوا وقوع الفريسة عادوا إلى السلطة بسلام وفتحوا المجال من جديد لدفعة أخرى من الضحايا.
وليست الجماهير وحدها التي تدفع الثمن بل الأرض أيضاً.. ولولا ذلك ما غدت صنعاء موضع إدانة معلنة لا يتردد قادة الحزب الاشتراكي عن إثارتها كل ما أرادوا التعبير عن مواقفهم المعادية للوحدة واعتبار صنعاء بما تمثله من دلالات المدخل الأول لتمرير مواقفهم تلك.
ذلك أن الحزب وهو ينتقم من صنعاء ويذيع ثأره عليها فلكونها عاصمة دولة الوحدة ولأنها الجوهر الأصيل في تاريخ اليمن القديم والحديث والمعاصر ولأنها الساحة التي انطلقت منها شرارة الثورة ضد الاستعمار وتكونت منها إرادة الخلق والتغيير والمكان الذي انتصرت فيه جماهير الشعب عند قيام الثورة اليمنية وأثناء المواجهة الحاسمة في حصار السبعين ومنها أيضاً انطلق ركب الوحدة المبارك بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح الذي شكلت العاصمة التاريخية صنعاء قناعاته وكل الوطنيين بضرورة وضع حد لمهزلة التشطير والذهاب على عدن مصطحباً معه مشيئة الخير بحتمية تحقيق الوحدة..
ولست بالذي ينكر على الحزب الاشتراكي ذكائه المتقد حين اختار صنعاء ميداناً للمنازلة. ولا أعتقد أن ثمة مكان آخر أكثر ملاءمة لإسقاطات الحزب الاشتراكي من العاصمة صنعاء.
أما لماذا يكون الأمر على هذه الشاكلة فلأسباب وجيهة لا مراء فيها ومنها على سبيل الاستشهاد وليس الحصر:
1- أن الحزب يرى في صنعاء نفياً له إذ هي المدينة التي يفوح منها عبق التاريخ وشذى البطولات ولا موقع للاشتراكي في هذا التاريخ ولا مكان له من تلك البطولات والحزب يعلم عن يقين وتثبت أن علاقته بالاستعمار منذ أول يوم من أيام الجلاء لا يمكن لها أن تكون جزءاً من تاريخ أبيض في سجل المشير السلال واللقيا والعلفي والزبيري وجمال جميل.. والحزب يدرك أنه يستحيل عليه أن يرى في صنعاء وجهاً لعلاقة الارتهان والتغريب التي أمضاها مع الاتحاد السوفياتي.
وصنعاء لم تكن في يوم من الأيام تصفيات جماعية "بحسب الهوية" فهي لم تقتض من عبد الباري طاهر وعبد القدوس المضواحي والمئات ممن على غرارهم حين كانوا يوزعون المنشورات والأسلحة والدولارات إما لتغذية المد الإرهابي البلورتاري أو للقيام بمؤامرة ضد الشرعية..
وصنعاء لم تحول أحد النازحين من مقاصل الحزب إلى مخرب يزرع الألغام في لحج أو شبوة أو حضرموت أو عدن ولكنها تعاملت مع هؤلاء على كثرتهم بكرم ومثالية وترفع عن الصغائر بعكس حال المغرر بهم ممن أغوتهم شعارات الحزب وأزعجتهم بعض المظاهر السلبية فذهبوا إلى عدن وأوكلت إليهم هام الإرهاب وقتل الأبرياء ودفع بهم في 13 يناير لمشاركة رفاقهم من عناصر الحزب مسئوليات الحسم الدموي في شوارع عدن..
وإذا فما وجه الغرابة حيال النزعة العدائية التي يوجهها الحزب ضد صنعاء وهل بقي ثمة شك بجدارتها لا تكون على طرفي نقيض مع توجهات الاشتراكي الانفصالية ونزعته الإرهابية وملائمته للارتهان وتكوينه المغاير لمصالح الوطن والشعب.. وهل ثمة خلاف أو تناكر على تطابق نفس ظروف الحصار قبل 26 عاماً وبين الحصار الراهن.
وهل من فارق بين الملكي الذي حاصر صنعاء بالأمس والانفصالي الذي يحاصرها اليوم.
إننا لو أمعنا النظر وأطلنا الاستقراء ووضعنا الذي حدث في الماضي وما يحدث في الحاضر رهن مقارنة موضوعية دقيقة لعجزنا تماماً عن التميز بينهما ولقدنا القدر على معرفة أي الحصارين امتداد للآخر ولهذا فإنه يتعين علينا جميعاً عدم الفصل بين من حاربوا الثورة في مهدها ومن يحاربون الوحدة الآن بيد أن الاتفاق على المقدمات هو ذاته الاتفاق على النتائج ولن تكون صنعاء بالأمس وهي تدمر الحصار غير ذات العاصمة التاريخية المؤهلة لدحر الانفصاليين والانتصار لوحدة الوطن والشعب.. شأنها في ذلك شأن عدن والمهرة وشبوة وتعز والضالع وأبين وكل المدن اليمنية التي تهيئ نفسها للاضطلاع بدور وطني شريف دفاعاً عن الوحدة وحماية للسيادة وصوتاً لمستقبل الشعب وانتصاراً للحق ودراء للفتية وصداً لمجازر الحزب ومآسيه.
ما قبل التوقيع على الوثيقة
بعد فشل محاولات الحزب الاشتراكي لإعاقة لجنة الحوار التي ضمت كثيرين من المتعاطفين مع الحزب والمحسوبين عليه أو المشمولين بروابط أخرى تجمعهم بأبرز قياداته ولتمكن المؤتمر والإصلاح وبقية القوى السياسية من تفويت الفرصة أمام الجهود الكبيرة التي بذلها الحزب لتوسيع هوة الشقاق من خلال الاتهامات وتنشيط الحملات الإعلامية وخلق الذرائع وافتعال الإرباكات وتصعيد تحركاته العسكرية بعد ذلك كله أدرك الاشتراكي أنه على وشك أن يقع في الفخ الذي أراد نصبه للآخرين.
وكان واضحاً أن لجنة حوار القوى السياسية بتواصلها إلى الصيغة النهائية لوثيقة العهد والاتفاق قد وضعت الحزب من حيث لا تحتسب في زاوية ضيقة لا يستطيع الإفلات منها إذ سقطت كل مبرراته وارتفع القناع عن وجهه ولم يعد بمقدوره الاعتراف صراحة بأن نقاط البيض ليست الجهور وإنما هي "العرض" كما ورد في حديث للدكتور الحصيف عبد الكريم الإرياني.
ولذلك ضرب الاشتراكي رقماً قياساً في الديماغوجية والتناقض حتى اعتقدناه بلهواناً في سيرك فكاهي.. رفض التوقيع على الوثيقة في صنعاء لأنها مدينة رعب فبادره الرئيس بإبداء الاستعداد للتوقيع عليها في أي مدينة يمنية أخرى قال الحزب حتى هذا غير ممكن فذهب الإرياني إلى القول نحن على استعداد لتوقيع الاتفاقية على ظهر بارجة في البحر واتفق على عمان لكن الحزب رفع عقيرته للحديث عن الضمانات الدستورية وحين فوجئ بقبول الاتفاق على هذه الضمانات انتقل إلى الإجراءات البروتوكولية.
وافقناه على ذلك فلول في غنج وأثار قضية الضمانات الأمنية وحين جاء الرد بالإيجاب وشكلت لجنة برئاسة وزير الدفاع صرخ البيض في تهالك وحنان أنه يخاف على وزير الدفاع من صنعاء ويوم أعيد تشكيل اللجنة الأمنية أوعز الحزب لممثليه بعدم الحضور وعدم المشاركة ونظراً لإصرار الحزب على التشبث بالورقة الأمنية كوسيلة لإفشال لجنة الحوار جاء الرد من الأردن بأن تترك بعض القضايا الخلافية لحكمة الملك حسين وأخويه الرئيس علي عبد الله صالح وأمين عام الحزب الاشتراكي علي البيض.
ولم يجد الحزب وقتئذ بداً من التضحية بالطائرة "707" وتقديمها للشرعية لتكون بمثابة الطعم الذي يفجر الصراع من جديد ويحول دون توقيع الوثيقة..
الرئيس أدرك الأمر بحذق ومهارة وأصدر تعليماته إلى الأجهزة الأمنية بالإفراج عن الطائرة ووجه إلى الإعلام بعدم إثارة القضية والإقناع عن عرض الفيلم التلفزيوني المتضمن شرحاً تفصيلياً عن حمولة الطائرة وما تمثله الأجهزة العسكرية والتجسسية التي استوردها الحزب من خطر عل الوحدة ومن خوف على الديمقراطية والتعددية الحزبية..
وكاد الحزب يفقد ما تبقى له من وعي فذهب لفرض حصار مكثف على جنود الأمن المركزي بمحافظة عدن لكن قيادة المؤتمر قررت عدم الرد بالمثل واتخذت جملة من التدابير في اتجاه الضغط على الحزب للتعجيل في لقاء عمان للتوقيع على الوثيقة.
وبهذا التتالي من الحصار وتفويت الفرص وجد الحزب الاشتراكي نفسه يساق لنهاية غير مأسوف عليها لاسيما وأن الموعد أزف والقرار اتخذ والقضية خارج إرادة الحزب فذهب على عمان متأبطاً شراً وهو الأمر الذي جعل البيض يصل إلى الأردن بعد 24 ساعة من وصول الرئيس وقبل بضع ساعات من مراسيم التوقيع على الوثيقة وبعد أن زرع في قلب مطار عمان برج مراقبة من طراز حديث..
مقارنة واستقراء لكلمتي الرئيس والبيض
كانت الشمس على وشك الغروب والقاعة الملكية مكتضة بالقادة الملك حسين بن طلال الفريق علي عبد الله صالح الرئيس ياسر عرفات، د/ عصمت عبد المجيد الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد العزيز عبد الغني وسالم صالح محمد عضوا مجلس النواب، حيدر العطاس رئيس الوزراء، الأستاذ علي البيض الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، ولي عهد الأردن ورئيس وزرائها أعضاء لجنة حوار القوى السياسية مبعوث جلالة السلطان قابوس بن سعيد..
وكانت جماهير الشعب اليمني والأردني وأخوتنا في العالم العربي وأصدقاؤنا في العالم.. الجميع يتابع بلهف وقائع التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق من قبل أمناء عموم أحزاب الائتلاف الثلاثة ومن أحزاب المعارضة ولجنة الحوار.
ولأن أهمية التوقيع على هذه الوثيقة تكمن في الهدف الرئيسي منها والمجسد بحماية الوحدة وإنهاء الأزمة ولأن جلالة الملك الحسين يريد لجهوده الطيبة أن تسفر عن نتائج وحدوية مشرفة لذلك كان حرصه على تعميد ذلك الجهد بإعلان يمني رسمي يصدره زعماء الأطراف الأساسية من على منصة الاحتفال ببدء سفر جديد في مسيرة الوحدة وطي موسوعة الأزمة وفتح صفحة جديدة من الجهد المشترك والعمل الوطني المتكامل وبدافع من ذلك الحرص جاءت كلمة الرئيس والبيض تلبية لدعوة وجهها الملك حسين لقادة الائتلاف الحكومي صالح والبيض والشيخ الأحمر..
فما الذي أضافته كلمة هؤلاء على وعينا المأزوم وما الذي شكلته من بوادر انفراد أو إصرار على مواصلة الارتباط "الكاثولوكي، بالأزمات"؟
فالرئيس علي عبد الله صالح حمد الله على نجاح الجهود الوطنية الخيرة التي كانت وثيقة العهد ثمرة من ثمارها وتقدم بالشكر للأردن ملكاً وشعباً ولكل الأشقاء والأصدقاء الذين قال الرئيس عنهم أنهم "الذين كانت أيديهم على قلوبهم حريصين على الوحدة اليمنية" وكذلك كان تعبير البيض وعلى نفس السياق جاءت إضافة الشيخ الأحمر..
غير أن وتيرة الخطاب السياسي اختلفت في تفسير كل من هؤلاء الثلاثة لموقفه من الوثيقة على صعيد المستقبل العملي الملموس في حياة الشعب اليمني وفي كنف الوحدة اليمنية العظيمة..
يقول الرئيس بعبارات بسيطة واضحة قريبة إلى القلب والوجدان ما نصه "هانحن في الأردن الشقيق نوقع على وثيقة العهد والاتفاق التي أنجزتها قوى الحوار.. القوى السياسية للأحزاب الوطنية والشخصيات المستقلة والذي نأمل بهذا التوقيع أن ننتقل بالفعل قيادة وحكومة وشعباً وفي الطليعة أحزاب الائتلاف الثلاثة المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح وبقية القوى السياسية إلى واقع التنفيذ العملي حسب ما تضمنته وثيقة العهد والاتفاق".
أما البيض فقد راح يعد الندوب ويسترجع المواجع وينكئ الجراح ويبشر بالغد الذي رسم الحزب ملامحه يقول "الحمد لله تم التوقيع ورغم الجروح ولكن جرح الوطن أغلى وأكبر علينا ويهو كل شيء من أجل اليمن.. وصدقنا وصبرا.. وسيظهر الغد عندما نعود هناك..."!!
بيد أن الشيخ الأحمر لم يذهب بعيداً فيما انطوت عليه كلمته القصيرة من مصداقية ووضح إذ قال "هذا الاتفاق الذي –إن شاء الله- ينهي الخلاف وتنتهي الأزمة ويعود كل المسئولين إلى مواقع أعمالهم لنباشر العمل، وتنفيذ ما جاء في الوثيقة" ويضيف الأحمر تمنياته بأن تنتهي الأزمة بمجرد التوقيع على الوثيقة "وندخل في عهد جديد، عهد بناء وعهد عمل وعهد تعاون وعهد صدق ووفاء لوطننا العزيز"..
وأعود إلى الرئيس وهو يصدع برأي العب ويجسد هم الوطن ويقطع الشك باليقين.. ويعلن عن حقيقة موقفه وجوهر توجهه ويحسم الأمر بقوله "إننا سنكون عند حسن ظن الجميع وإننا سنطوي صفحات الماضي بكل أشكالها ومآسيها وما حصل لها من ملابسات وإشكاليات.. نعدكم وعد الرجال الأوفياء أننا سننتقل بهذه الوثيقة إلى مرحلة العمل والتوفيق والتطبيق إن شاء الله".
غير أن الأستاذ البيض لا يريد أن يربك مخطط الحزب بقول كلمات مجاملة ولو من قبيل التمويه حيث أعرب عن تحفظه قائلاً "رغم تحفظنا وإحساسنا فإن هناك صعوبات بالتنفيذ من خبرة الماضي"..
ولم يكتف الأستاذ البيض بهذا القدر من فضح النوايا السيئة التي يبيتها الحزب ضد الإجماع بل مضى في رهاناته وراح يستدعي أقربائه الذين ذهبوا ضحية مغامرات المراهقين من الشباب الذين يقدمون على حماقات في حق الآخرين يقول البيض "أمامي الآن صورة الشهيد ماجد والشهيد كامل والشهيد هاشم العطاس".. فما الذي دفع بالأستاذ البيض لتحويل الفرح إلى مأتم والاتفاق على ضغينة واللقاء إلى متراس لإلقاء الاتهامات والغمز في صدق الآخرين.
وإذا كان البيض حزيناً بالفعل لرحيل أحد أقربائه فلماذا لا يشاطر أبناء الشعب اليمني أحزانه الدفينة وهو يعلم أن ضحايا الحزب يتوزعون على كل مدينة وقرية بامتداد الوطني اليمن طولاً وعرضاً شمالاً وجنوباً رفاقاً كانواً أم رعايا أم مثقفين أم عسكريين أم علماء أم أبابنة..؟
ولم لا يوزع الأستاذ البيض عواطفه الجياشة النبيلة على هؤلاء الضحايا وفقاً لشعار المواطنة المتساوية التي ينادي بها الأستاذ العزيز وحزبه المناضل..
العودة إلى منابع الأزمة
وإذا كان لا بد من وضوح أكثر لتحديد موقف الاشتراكي المضاد للوحدة فما علينا غلا العودة لخطاب البيض الذي ألقاه يوم الخميس الماضي 3/3/1994م أمام قادة المليشيات الاشتراكية بعدن حيث اعتبر البيض من رفض الرئيس علي عبد الله صالح لمقترحه بتنفيذ وثيقة العهد على قاعدة الانفصال فالحزب ينفذ ما يخصه في "التركة" ويؤدي دوره كحاكم للمحافظات الجنوبية والرئيس ينفذ الاتفاقية في دولته داخل المحافظات الشمالية..
وبصرف النظر عن إدانة البيض لموقف الرئيس ورفضه لعقلية الانفصال فإني أسأل.. ما الذي يبقى من قضية الوحدة إذا تم الرضوخ لمقترح البيض و..؟
وهكذا أراد الحزب المضي قدماً في مخططه لنسف الوحدة فرفضت قيادته العودة إلى العاصمة ورفضت التئام الهيئات وعمدت الوثيقة بدم الأبرياء من محافظة أبين عندما نقضت العهد بعد أقل من 25 ساعة وحركت ألويتها العسكرية من مواقعها خلافاً لكل ما اتفق عليه..
ليس هذا فحسب بل إن قيادة الحزب اندفعت بتهور وجنون لتسجيل زيارات طارئة لدول شقيقة دون علم هيئات الدولة ومن غير تنسيق مسبق مع وزارة الخارجية اليمنية وذلك للاعتذار على توقيع الوثيقة وتقديم الحزب باسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وطلب العون لهذه الدولة الانفصالية التي لا وجود لها تماماً كالجمهورية العربية اليمنية إلا في أضابير المؤامرات وسفه الخيانات المكشوفة في حق الوطن والوحدة والديمقراطية وفي حق الشعب اليمني الأبي..
فما الذي غاب عن الشعب حتى نذكر به وما هي المواقف الغامضة في نهج الحزب حتى نتجشم عبئ توضيحها؟.
الحفل الكئيب
ألم تر كيف فعل ربك بالبيض أثناء التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق.. الجميع لاحظ مظاهر البؤس والهلع بادية على ملامح وجه البيض.. ولعلنا جميعاً أشفقنا على أمين عام الحزب وهو يبدو وكأنه في مأتم، وذلك بالتأكيد نفس الإحساس الذي أدرك الرجل وهو يقترب من حفل تشييع جثمان الأزمة!!
وفي تلك اللحظات التي بدت مختزلة لكئابة عميقة لدى الحزب أحس الجميع بما فيهم أشقاؤنا من أبناء الأردن الحبيب أن الأستاذ علي سالم البيض لا يمكنه التضحية بجهود ستة أشهر بذلها وجنوده الأوفياء في قيادة الحزب وقدم في سبيله الجهد والعرق وتوخيا منها إذكاء الفتنة وضرب الوحدة ولذلك فمن الصعب عليهما أن يسمحا بهزيمة منكرة يمنى بها الحزب بكل هذه البساطة.
وبينما كنا نسمع كلمة الحسين المدوية التي استحضرت جوامع التاريخ واستلت عظمة البطولات ورفعت بيادر الأمل خفاقة في سماء الله بينما الأمر على هذا النحو إذ البيض وكأنه قُدَ من صخرة وانشق عن جلمود متحجر أسود متشح بالفجيعة مكلل بالنكسة منهار القوى لا يروم التفاتاً لأخيه المجلل بالوقار الموشى بالفرح اليماني الأصيل الرئيس علي عبد الله صالح.
إن للحقد أشكالاً مختلفة وما نحن نجده يستجمع كل أشكاله وضروبه في ملامح الأستاذ المناضل علي سالم البيض فما حقيقة الأمر.
النقد الذاتي
وإذا كان من حقنا أن ننزع على الذاكرة لنستعرض جانباً من مواقف الحزب منذ قيام الوحدة في 22 مايو 90 ومواقفه المتنكرة لكل ما يجمع عليه الشعب فإننا سنضطر لإبداء استياء وتذمر حيال سياسة المؤتمر الشعبي والتجمع اليمني للإصلاح ولك القوى السياسية وتحمليها جزء هاماً من الانتكاسات المحيطة بالوحدة والديمقراطية وبحاضر الوطن ومستقبلة..
إن علينا أن لا نكتفي بإدانة الحزب وكشف جرائمه بينما نحيد عن مواجهة النفس ونميل للتراجع عن الاعتراف بأن أخطائنا وتقويم سياساتنا وإعادة النظر في كثير من التجاوزات التي ساعدت الحزب على ارتكاب جرائمه.. ولا شك أن السبيل الوحيد لمواجهة الانفصالية الاشتراكية لا يتحقق بواسطة بيانات الشجب والتنديد ولا بتعرية أعداء الوحدة لأننا في ذلك لن نقول عن الحز أكثر مما تقوله الوقائع والحقائق ولن نكون أكثر فصاحة في تصوير الحزب الاشتراكي مما تبدو عليه تصريحاته وخطب زعمائه.
ولو أنني وصمت الحزب الاشتراكي بـ (الخيانة العظمى) فما الجديد الذي قدمته للشعب وما هو الابتكار العبقري الذي جادت به فراستي.
وإذاً فنحن لا نقدم للرأي العام معلومة ذات قيمة يعتد بها ولكنا نسهم في تمييع رأي وقناعة الجماهير تجاه الحزب ومقارعة نهجه الانفصالي وارتهانه لأعداء الثورة.
وفي رأيي أننا في ما نتناوله من حقائق عن الاشتراكي إنما نفسد على أبناء الوطن وعيهم الحقيقي لمعنى تصرفات الحزب.
وأنا أخاف الانجرار العفو مع مخطط الحزب الهادف لتطبيع وعي المجتمع على الارتداد وتعويد الناس على تداول وتناول مفردات "الانفصال" "الخيانة" "التمرد" "الاقتتال" حتى تصبح تلك الكلمات شيئاً مألوفاً لا يثير نقمة الشعب ولا يحرك دور الجماهير على نطاق المواجهة الفعلية.
وأعتقد جازماً أننا لكثرة ما تحدثنا عن موقف الحزب المتنكر للشرعية المتمرد على البرلمان لم نخدم الشرعية وإنما استمرأنا الحديث عنهم إلى درجة دفعت الشعب لملل والسخرية و اعتبار الأمر وكأنه ذلك الواقع الذي لا نملك غير التسليم به..
ومع أن تعاملنا مع قضية كهذه دافعه السخط على الحزب إلا أن الأمر لا يلبث أن يتحول إلى تكرار غير ذي جدوى.
ومن هذا المنطلق ينتابني إحساس عميق بضرورة الانتقال إلى معركة الجهاد مع النفس ومواجهة الحقائق والتعرف على سلبياتنا وتصحيح مواقفنا والانطلاق إثر ذلك إلى موقع متقدم وإيجابي يخدم قضية الوحدة ويجعل مسئولية الدفاع عنها واجباً دينياً ووطنياً تتحمله الجماهير بصمودها الدائب وشجاعتها المعهودة وبحماسها وغيرتها على شرف الوطن وكرامة الشعب وحقه في صيانة المكاسب وحراسة المنجزات ومواجهة الأعداء.
إن من حق الرئيس الفريق علي عبد الله صالح أن يتمسك بخطة السياسي المطبوع على الحكمة والمداراة والعقل أن يواصل نهجه المتسم بالمرونة والصبر كما أن من حقه كرمز للسيادة الوطنية أن يمضي بدوره الذي عهد به في تلمس الأعذار لحماقات الحزب ومن حقه أيضاً الإبقاء على شعرة معاوية في توجيه وإدارة المعركة مع الانفصاليين.
بيد أنه من حق الرئيس أن يستثمر ثقة الشعب به لصالح المزيد من الإيغال في مهادنة القيادة الانفصالية في الحزب الاشتراكي على حساب الثوابت الوطنية.
ولا أعتقد أن دستور الجمهورية اليمنية يخول الرئيس علي بعد الله صالح أو رئيس مجلس النواب الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر أو أي أحد في السلطة حق الخروج عن الشرعية والاحتكام لسياسة الابتزاز التي دأب الحزب على ممارستها منذ قيام الوحدة عموماً ومنذ إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية أواخر العام الماضي على وجه أخص.
ولا حاجة بنا لتبرير الأخطاء التي وقع تحت طائلتها المؤتمر والإصلاح بل على العكس من ذلك تقتضي ظروف الوطن ومصالحه البدء في معالجة تلك الأخطاء حتى لا يكون التغاضي عنها مدخلاً واسعاً يفضي لاقتراف المزيد من السلبيات التي نجر إليها بذريعة العقل والصبر ومبررات الحرص ومسوغات الأخذ بالنصائح التي لم نجدها ولو لمرة واحدة تته صوب الحزب.
لقد آن لنا أن نعتذر لشعبنا لأننا منحنا الحزب أكبر من حجمه الذي حددته نتائج الانتخابات وقبلنا برأيه الأناني المتشدد بصدد تشكيل مجلس الرئاسة ولم نتوقف عند هذا القدر من التنازلات بل نحن قبلنا تسمية البيض نائباً للرئيس خلافاً للدستور واستباقاً لما يتوجب عليه القيام به من احترام البرلمان والإذعان لدعوته رئيس وأعضاء مجلس الرئاسة لأداء اليمين الدستورية ونحن الذين قبلنا بالاشتراكي طرفاً في الحكومة الائتلافية بينما كان علينا مساعدته على هضم الديمقراطية ومساعدته على تجاوز موروثه الديكتاتوري وإعادة تربيته وفقاً لمفاهيم الوحدة ولأسس التعامل الديمقراطي وقبول الأقلية بالانصياع للأغلبية.
ونحن الذين وضعوا الاشتراكي على رأس الحكومة الائتلافية ونحن الذين سمحنا له بالتنصل عن التعديلات الدستورية التي أقرتها قيادته.
ونحن الذين وضعناه على رأس وزارة الدفاع وأتحنا له فرصة كي يطيل من عمر التمزق الخطير داخل المؤسسة العسكرية.
ونحن الذين جعلناه يحتكر السلطة والنفوذ ويمارس اقمع في المحافظات الجنوبية ونحن الذين حما الاشتراكي من غضب الشعب وناره ونحن الذين قبلنا بنقاط الحزب وجعلناه يمرر خطته لإضعاف الشرعية الدستورية ونحن الذين تسترنا على جرائمه بعد الوحدة ومكناه من نهب الخزينة الأمة وفرض التقاسيم ونحن الذين ساعدنا الحزب على تحويل الوحدة اليمنية إلى مطيبة سهلة.
فلأي سبب ننزعج من الحزب اليوم وكيف ننتظر من الشعب أن يتحمل مسئوليته في الدفاع عن الوحدة وكيف لنا أن ندعو الجماهير لمواجهة الحزب وإسقاط رهاناته الانفصالية طالما ظلت مواقفنا نحن على هذا النحو من الهزل والتردد والضعف.
إننا فعلاً بحاجة لموقف جاد وأن ندفع الثمن لقاء تمسكنا بالوحدة خير ألف مرة من أن ندفع نفس الثمن الباهض لقاء تقاعسنا المفرط في السذاجة وحسن النية.
الموقف الجاد
إنني على ثقة مطلقة وإيمان عميق بأن الذي يحول دون قيام الحزب بتفجير الموقف على كل الاتجاهات ليس العقل ولا المنطق ولا الحرص على حياة الشعب ولكنه يعود لحالة الضعف التي تنتاب موقفه العسكري وإحساسه بخطر التمزق والاضطراب في كيانه التنظيمي.. ولول ذلك لرأينا الأستاذ علي سالم البيض يمتطي صهوة دبابة ويقتحم صنعاء ويصدر الفتوى الثورية بنهب المدن التي شيده الرجعيون وعملاء الإمبريالية وهو لا شك يعد العدة ويستكمل بناء قواته وينفق ملايين الدولارات التي تقاضاها مقابل قيامه بهدم المنجز الوحدوي في سبيل التزود بمعدات حربية متطورة تمكنه من تحقيق 1% من أسباب التفوق والغلبة..
ولو كانت قيادة اليمن الوحدوية تجهل مثل هذا الأمر لالتمسنا لها الأعذار ولكني على إدراك لحقيقة علمها بما يبيته الحزب وما يمارسه على المستوى العملي من تهيئة لتدمير الوطن..
البعبع المدان
وإذاً فإن من واجبنا اتخاذ خطوات عملية تجنب الوطن مأساة الصمت والتردد في مواجهة الانفصال قبل أن يستفحل خطره وتنتشر عدواه وقبل أن يملك القدرة على إكراهنا بقبول خيار التشطير..
وإزاء ذلك يتعين على المؤتمر الشعبي والتجمع اليمين للإصلاح أن يعيدا الأمور إلى نصابها ويمكنا الشرعية الدستورية من دورها الوطني في حماية الوحدة ومواجهة الانفصال.
إن هذا البعبع الكبير الذي يملي ويفرض ويتحدا ويهدد إنما يستمد قوته من تهاوننا حيال الشرعية التي لو احتكمنا لمؤسساتها لصار بوسع أي مواطن أن يطالب البرلمان بإحالة قيادة الحزب الاشتراكي إلى النائب العام ومنه إلى المحكمة العليا بتهمة الخروج عن الشرعية والتآمر على الوحدة والتحريض على العنف واللجوء للقوة والنكاية بالشعب والمس من السيادة الوطنية والتمرد على إرادة الجماهير اليمنية.
فهل نبدأ من حيث يجب.. أم نستمر إلى ملا طائل من الاستمرار ما تبقى لنا من قراءات لاسيما موقف الحزب من أزمة الخليج وعبارات "واصداماه" التي أطلقها سالم صالح.
الصحيفة: الميثاق
العدد: 586
التاريخ: 7/3/1994م
التعليقات (0)