قراءات في المعترك الراهن(10)
الجنة التي يدير مفاتيحها كتبة الشعارات
كنت لفترة طويلة من الزمن أحد الذين فتنوا بالشعارات ودفعوا الثمن الباهظ لقاء شغفهم الولوع بالمرددات الحزبية العصماء التي تبشر بجنة عرضها آلاف المجلدات الإيديولوجية لا يغوص في سعادتها ولا يرفل بمسراتها غير الفقراء الذين يمهدون بمعاولهم الشريفة طريق الخلاص من الكمبرادوار ويفترون ساحات الصراع الطبقي من أجل كل شيء أو على الأقل من أجل مساحة صغيرة في ساحب أبين أو الخوخة ينصبون عليها لحداً على باطن الأرض أو كوخاً صغيراً فوق التراب يتسع لأحلامهم المتواضعة بـ "يمن ديمقراطي موحد".
ولعلنا يوم الـ 22 من مايو 90م وصلنا إلى الحلم الأكبر بهذا اليمن ليس فقط وإنما اليمن الديمقراطي والمكتمل بالوحدة وقيام الجمهورية اليمنية.. وكان ذلك هو العزاء الجميل للقفزة التاريخية التي تأسوا المواجع وتضمد الجراح وتعوض عن خيبة الرجاء التي مني بها كل المفتونين بالشعارات أمثالي حين فتحوا أجفانهم فجأة.. وإذا الجنة الموعودة على ظهر الأرض يدير مفاتيحها الفوج المتقدم من كتبة الشعارات الذين غدوا يستندون على أرائك البرجوازية في أعلى مراتب التخمة ولقد أدرنا الوجوه صوب كل الأمكنة لنحفر قبراً أو نقيم كوخاً ولكن إلتفاتاتنا جاءت في الزمن الضائع ولم نجد في عرين الأسد بقايا عظام وإنما وجدناه فاغراً فكيه لافتراس من تبقى من الضحايا..
لكنها الوحدة..
لكنها الوحدة. تمسح المآقي من الأحداق وتثير كوامن الحلم بغد ننأى به عن مهاوي الشعارات ونصنع في كنفيه شعارنا الدافئ الجميل على أرض الواقع العملي الملموس..
ولذلك فإننا كلما أحسسنا بمخاطر من أي صنف أو لون أو ماركة تهدد الوحدة كلما أدركنا الروع ونال منا الفزع ليس لتلك الأسباب التي يتناوب الساسة على طرحها ولا تأثراً بالعبارات التقليدية التي ترد في خط الزعماء ولكن لأن الوحدة بالنسبة لضحايا الشعارات القديمة تعتبر الأمل الأخير والزهرة الوحيدة التي تغمس بها وهج الأماني ثم هي فوق هذا وذاك استشعارنا الدائم بوجود سبب يستحق الحياة.
لقد مثلت الوحدة لكل اليمنيين إحدى حقائق التاريخ والجغرافيا وإحدى المسلمات الحقيقية في تكوين الشعب اليمني الذي لم يرضخ للنظم الانفصالية في أشد المواقف وأقسى الظروف بل ظلم يقاوم في سبيل الوحدة ولم يفرط بأي من مقوماتها وبذل كل ما لديه لمقاومة الإيدلوجيا التي أرادت تجريده من عقيدته وقاوم اتجاهات التغريب التي همت بهدم شخصيته الوطنية وتهجينه القضاء على عاداته وتقاليده وإلغاء الألفة بين أفراد ولم يكبر الشعب شخصية الرئيس القائد الأمين العام الفريق علي عبد الله صلاح ونائبه الأستاذ علي سالم البيض عندما وقعا ............................................................. ..........................................................
نقطة ضعف فينا ومصدر قوة لها الأمر الذي جعلها لا تتورع عن ممارسة الابتزاز وفرض الشروط وتأزيم الأوضاع وتعطيل مؤسسات الدولة والتمترس خلف براميل كرش..
الابتزاز
ومن وجهة نظري فإني لا أرى وضوحاً أكثر مما اتسمت به توجهات المؤتمر الشعبي ومواقفه من الأزمة برمتها وموقفه حيال تداعياتها ثم موقفه إزاء وثيقة العهد والاتفاق التي تمخضت عن جهد كبير بذلته القوى الونية وفي مقدمتها المؤتمر الشعبي العام.
فعلى نطاق الأزمة فإنها استهدفت المؤتمر وقيادته الحكيمة بزعامة الأخ الفريق علي عبد الله صالح ومست بالضرر الفادح أهم وأقدس وأشرف المنجزات وفي طليعتها الوحدة اليمنية وأمن واستقرار الشعب بمثل ما استهدفت تقويض التجربة الديمقراطية وهز المؤسسات الدستورية وتعطيل أداء الأجهزة الحكومية وتجميد النشاط الاستثماري وضرب البنية الاقتصادية ونسف الخطط التنموية على مختلف الصعد..
ومن المعروف لدى اليمنيين وغيرهم من المراقبين السياسيين أن المؤتمر الشعبي فوجئ بالأزمة شأنه في ذلك شأن أي مواطن يمني شارك في انتصار 22 مايو 90م والـ 27 من إبريل 1993م وبفعل هذه المفاجأة اعتبرنا الأزمة –في بدايتها الأولى وتحديداً منذ عودة الأستاذ البيض من رحلة الاستجمام خارج الوطن- بأنها ليست أكثر من تباين في الرأي سببه توقيع قيادة الحزب الاشتراكي على وثيقة التعديلات الدستورية دون استئذان البيض وبسبب من ذلك التصور الذي اتسم بحسن النية اعتبرنا المشكلة منتهية بمجرد استعدادنا لإعادة النظر في تلك الوثيقة ومراعاة الوضع الداخلي للحزب والامتناع عن إحراجه بتنفيذ ما تم التوقيع عليه لكن تداعيات الأزمة أخذت تتصاعد الأمر الذي حدا بنا لاعتبار المشكلة منتهية بانتهاء مخاوف الاشتراكي من الديمقراطية وحرصه على البقاء في السلطة بشكل يفوق حجمه الطبيعي على الواقع وقدرنا أن بوسع التنازلات كبح جماح الأزمة المفتعلة ولهذا وافق المؤتمر على اقتراح الحزب المتعلق بانتخابات مجلس الرئاسة بنسبة 2+2+1 دون نائب لرئيس مجلس الرئاسة لاعتبارات دستورية ولوجود وهم عام بأن الحزب لا يمكن له أن يطالب أو يقبل بوظيفة غير منصوص عليها في الدستور ولو من قبيل التعاطي مع الصورة الذهنية لحماس الاشتراكي لصالح قضية الاستفتاء على الدستور لكن المسألة بدت على خلاف توقعاتنا ولم يكن ثمة حلول منظورة أمامنا لإنهاء الأزمة غير تقديم تنازل جديد باعتبار البيض نائبا للرئيس وإن على حاسب الدستور..
وهكذا استمر المؤتمر وشريكه الثالث "التجمع اليمني للإصلاح" في تقديم التنازلات سواء فيما يتعلق بتشكيل الحكومة الائتلافية أو بالتعديلات الدستورية أو بانتخابات مجلس الرئاسة أو بقبول نائب لرئيس مجلس الرئاسة وعلى النقيض من ذلك واصل الحزب سياسة تصعيد الأزمة حتى كاد يقودها نحو مواجهة عسكرية بدأها بطرح الفيدرالية وباشرها عبر إجراءات انفصالية تتعلق باختبار نمط آخر لحكم المحافظات الجنوبية والشرقية وإقصاء الموظفين الحكوميين من أبناء المحافظات الشمالية ولا يعلم إلا الله وحده إلى أين ينتهي المطاف بالحزب وسياسته.
لقد كان المؤتمر واضحاً عندما اختار طريق الحوار وتغليب القواسم المشتركة وتقديم التنازلات في سبيل الوحدة وعندما تم التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق بإجماع القوى السياسية.. بادر المؤتمر إلى إعلان تأييده المطلق لهذه الوثيقة وطالب بسرعة تنفيذها وحمل الحكومة مسئولية العمل على إنجاز كل بنود الاتفاقية وتغاضى عن كل شيء ووضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل اعتبار.
وكرأي شخصي فإني على يقين بأن كل ما توصلت إليه القوى السياسية في وثيقة العهد والاتفاق ليس هو المطلوب بالنسبة للاشتراكي..
المؤشرات تقول ذلك واستمرار اعتكاف النائب يؤكد هذه الحقيقة وانقطاع رئيس الحكومة ووزراء الحزب عن مواقع عملهم في العاصمة يثبت أن شيئاً أعد وأمراً بيت وقراراً ما اتخذه الحزب ولن يرجع عنه..
تنازلات المعارضة
وإذا كان ولا بد من القسطاس العادل عند التعرض للتنازلات التي قدمها المؤتمر الشعبي العام في سبيل الوحدة فإن ذلك غير ممكن دون الإشارة لتنازلات أخرى قدمها بعض "رفاقنا" من قيادات الأحزاب السياسية المعارضة.
ولست أستبعد مطلقاً أن تكون تنازلات أحزاب المعارضة المشاركة في حوار القوى السياسية هدفت لتغليب مصلحة الوطن على أهدافها الاستراتيجية والمبدئية.. ولكني إلى ذلك لا أنكر أن الحزب استطاع استدراج هذه الأحزاب والإيقاع بها بطريقة تخلو من أبسط مقومات العلاقة النزيهة التي كنا نظنها قائمة بين مختلف الأطراف السياسية ولو في حددها الدنيا..
وليكن معلوماً أن ما أقوله في هذا الجانب ليس اجتهاداً ذاتياً أو تخميناً عمدته الفراسة، ولكنه محصلة قرائتي للنزر القليل مما تضمنه الخطاب الإعلامي الخاص ببعض أقطاب المعارضة ممن اشتركوا في الحوار واستعذبوا الوعود وخرجوا ظهراً عن وثائق أحزابهم وقناعات قواعدهم ومواقف الرأي العام المتعاطفة معهم..
إننا نستطيع التماس أعذار كثيرة ومبررات متعددة لبعض السلبيات التي تكتسي بها مواقف وتصرفات أحزاب الائتلاف الحكومي والتي تخضع مواقفها وآرائها الحكومي والتي تخضع مواقفها وأرائها لجملة من الأسباب كالمصلحة وبهارج السلطة..
لكن من أين لنا بمسوغات عقلانية وجيهة تبرر قوبل أحزاب المعارضة بخيارات لا تنسجم وقناعاتها الوطنية المعلنة.
لقد ثبت أن الأطراف السياسية المعارضة التي جعلت من الدستور قضية حياة أو موت واعتبرت الشرعية الدستورية أساساً لبرامجها السياسية هذه الأطراف ثبت أنها على استعداد لفض الارتباط بأهدافها والوقوع العاطفي وتحت طائلة الاستدراج بحثاً عن دور باهت في الوقت الضائع..
سيقولون تعللاً بأنهم قدموا كل شيء من أجل الوحدة غير أني لا أعتقد بن حماية الوحدة مرتهن بسقوط القناعات المبدئية بل لا أعتقد مطلقاً بأن الذين قبلوا الحوار خارج المؤسسات الشرعية ووقعوا على بنود غير دستورية وخالفوا بذلك برامجهم وقناعاتهم لا أعتقد أنهم كسبوا الرهان أو عززوا مسيرة الوحدة ولكنهم وقعوا أسارى لتناقض مجحف..
ثم –من هذا السياسي العبقري اللامع الذي بوسعه الإفتاء بأن على المعارضة حين يتأزم الحكام أن تقوم بدور الوسيط الذي لا حول له ولا قوة..
لقد كان بوسع أحزاب المعارضة أن تلعب دوراً مهماً على رصيف الحوار ما دامت غير قادرة على طرح نفسها كبديل، لكنها قبلت لنفسها أن تغدوا ضحية على غرار ما عوملت به أثناء الانتخابات البرلمانية عندما ضحى بها الحزب ونسي مواقفها المؤيدة له في أهم المعتركات..
إن انتقادنا للمعارضة لا ينفي تقديرنا لكثير من مواقفها الحريصة على سلامة واستقرار الوطن..
ومهما يكن من أمر فقد انتظم الحوار بأحزاب الحكم والمعارضة ووقع الجميع على وثيقة العهد والاتفاق ولم يعد من الممكن أن تهفوا المسامع أو تطرب بسماع أصوات معارضة وهي تندب حظها وتبكي عثرتها وتذكر الناس –بعد فوات الأوان- بأن الأخ العزيز المهندس حيدر أبو بكر العطاس كان يملي على المتحاورين أراءه ويفرض قناعاته..
كما لا يحلوا لنا أيضاً أن نسمع اعتراضات المعارضة حول مكان وزمان التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق ولا إيحاءاتها بأن اشتراط الحزب أن يجري التوقيع على الوثيقة خارج الوطن أمر سيء السمعة وإيعازها بأن معنى ذلك أن الأزمة لن تنتهي إلا من حيث بدأت.
ومع أنه لم يعد سراً أن حوار القوى السياسية كان الأول من نوعه في التاريخ السياسي لأنه لم يكن حوار تبادل في الأخذ ولعطاء ولم يكن حوار تنوع في المشاريع ولآراء ولم يكن حواراً بين برامج مختلفة يؤخذ ببعضها ضمن تسويات سياسية ومعادلات توفيقية ولكنه كان حواراً أحادي الجانب بين طرفي يملي مطالبه ويع شروطه وبين أطراف أخرى قررت أن تكون حسنة الاستماع جاهزة للتسليم بكل المطالب لقاء الحفاظ على الوحدة.
وهكذا تحولت الوحدة اليمنية من عامل قوة لصالح الوحدويين إلى معقل للمساومات التي تحددها نزاعات الانفصال..
سياسة التعجيز
ومن عجب أن المؤتمر الشعبي العام كلما قدم تنازلات أو طالب بتنفيذ ما يتفق عليه كلما تهور الاشتراكي ودفع بالأمور باتجاه الأزمة.
ولقد بات أشبه بالمستحيل فك رموز الأزمات التي يديرها الحزب ولعل من أهم المفارقات أن يغدو المؤتمر مطالباً بتنفيذ وثيقة العهد والاتفاق فيما الحزب يتراجع..
المؤتمر يدعو لإنهاء الأزمة.. يطالب الحكومة الائتلافية بمباشرة مهامها وفقاً لوثيقة العهد.. والمؤتمر يعلن التزامه ببنودها والرئيس يؤكد استعداده للتوقيع عليها في أي مدينة يمنية بينما قيادات الحزب تصعد حملاتها الإعلامية والعسكرية وتمتنع عن العودة إلى عاصمة دولة الوحدة وتصدر التصريحات المتلاحقة بوجود أحداث عسكرية ومفاجآت غير سارة تهز ثقة الناس بما تم التوصل إليه ورئيس الوزراء يوزع الاتهامات ويقطع كل البوادر المنشودة لاستعادة الثقة..
فما الباقي..؟
ذلك هو السؤال الذي لا بد أن نبحث له عن إجابة صريحة في معزل عن اللجاج..؟
إن علينا الآن أن نبحث في المصداقية لدى كل الأطراف ولا بد أن الشعب اليمني يراقب الأمر بدقة ولا بد أنه يدرك جيداً أن تهرب أي طرف من مسئوليته حيال تنفيذ وثيقة العهد يعني بالتأكيد على مسئوليته عن أي انتكاسه يمنى بها وطننا.
ولا شك أن المناورات السياسية خارج نطاق الشرعية والتلكؤ في إنهاء الأزمة سيؤثر على مستقبل البلد ولكنه بالمثل سيكون وبالاً على الذين لا يلتزمون لإرادة الوطن ولا ينصاعون للشرعية.. والشعب حين يقول كلمته الأخيرة فإنه لا يدع مجالاً للرحمة..
وللحديث صلة..
الصحيفة: الميثاق
العدد: 581
التاريخ: 31/1/1994م
التعليقات (0)