قرأت لك
مختصر وتحليل وتعليق ونقد للكتاب
في سبيل موسوعة معرفية مختصرة
(5)
المقدمة:
التاريخ علم له قوانين واسس منطقية ولكن قلما يلتزم بها المؤرخ،قد يلتزم ببعض القوانين وطريقة البحث،ولكن من النادر الالتزام بالموضوعية المطلقة،وحتى لو كان محايدا فأن فلتات لسانه وقلمه تبرز للعيان وهو بالطبع انسان غير معصوم من الخطأ،لكن الخطأ الاكبر هو الالتزام والاعتقاد بصدق ما يقوله ويكتبه المؤرخون ولذلك وجب الحذر عند قراءة التاريخ،وبما اننا الان نحن نعيش في عصر ثورة التكنولوجيا والمعلومات والتي تجاوزت الحدود والافاق،فأن هذا لم يمنع الكذب والتزوير وتحريف الوقائع واحيانا بوقاحة لا مثيل لها ولاتقف بوجهها اي قوانين او التزام ادبي واخلاقي وديني فكيف كان الحال قبل مئات السنين عندما كانت وجهة النظر الرسمية للحكام هي السائدة والتي وصلت الينا دون ان يبقى من آراء المعارضين الا النزر اليسيروالتي احيانا تكون الحقيقة فيها،وهذا الكلام لا ينطبق على طبقة معينة بعينها بل ينطبق على الجميع سواء مؤرخين او سياسيين او صحفيين او غيرهم ما دام الجامع واحد وهو نشر التاريخ من وجهة النظر الشخصية او الالتزام بفكر او عقيدة معينة والتي قد تكون احيانا مخالفة للحقيقة المطلقة،والتاريخ هو العلم الاكثر تعرضا للتشويه بحكم كونه يمثل حياة الشعوب والامم في الماضي والحاضر وهو الضوء الذي ينير الدرب نحو مستقبل مشرق،وبالتالي فأن الجميع يحرص ان يكون حسب ما يتمناه او ما يمثل وجهة نظره دون اعطاء اهمية للحقيقة اذا كانت تتعارض مع الفكر او الرأي السائد،او الغاء التاريخ الذي يحتوي احداث ووقائع سوداء تبرز الوجه البشع لحياة افراد او ملل بأكملها،ولذلك يجب قراءة التاريخ من جميع مصادره حتى يمكن المقارنة وتسهل علينا بأستخدام الاسس المنطقية استخلاص الحقائق منه.
هناك الكثير من التجارب والعبر للمؤرخين خاصة الذين يمتلكون مقدرة عظيمة على ابراز تاريخ الانسانية بجميع جوانبه المشرقة والموحشة والتعليق والشرح اذا امكن بموضوعية،لذلك تبرز اهمية مؤلفات المؤرخين والباحثين التي تتحدث عن خلاصة تجاربهم الشخصية فهي تكون لنا مثل السراج المنير الذي يمنحنا القدرة على معرفة الحقيقة الكاملة المجردة من الاهواء،ولذلك تبرز لنا اهمية الكتاب التالي ومؤلفه.
الكتاب الخامس
عبر التاريخ
ول واريل ديورانت
الكتاب:عبر التاريخ،تأليف ول واريل ديورانت،والصادر من بيروت في طبعته الاولى عام 1993م والمكون من 155ص قطع صغير في طبعة انيقة.
المؤلفان: المؤرخ الامريكي الشهير ول ديورانت(1885-1981) وزوجته التي كانت ايضا مساعدته الاولى في تحرير مؤلفاته،اريل ديورانت(1898-1981).
في الكتاب لمحة مختصرة عن سيرتهما،اختصرهما لكم:ولد في بوسطن ودرس في عدة مدارس واديرة وجامعات ثم عمل استاذا في عدة مدارس وجامعات،تزوج عام1913م من تلميذته وهي من مواليد روسيا(ومذكور خطأ مطبعي ولادتها1889والصحيح هو1898).بعد نجاحه غير المنتظر في كتابه(قصة الفلسفة)المنشور في العام 1926 على التخلي عن التدريس في العام 1927م.
بعد ذلك كرس هو وزوجته تقريبا كل ساعات عملهما(من8-14 ساعة يوميا) لكتابة مجلدات موسوعتهما التاريخية الشهيرة(قصة الحضارة) وفي الترجمة للكتابين السابقين موجود كلمة تاريخ والاصح قصة.تجولا في مختلف انحاء العالم حرصا منهما على اعداد نفسيهما لاتقان عملهما هذا،طبع الجزء الاول عام1935 واخر مجلد كان 1975 والموسوعة تتكون من 11 مجلد ضخم او عشرات الاجزاء حسب الطبعة،والتي تجاوز عددها العشرات،ولهما العديد من المؤلفات الاخرى منها بعض الروايات. توفيت اريل بتاريخ 25101981م ولحق بها زوجها بعد ثلاثة عشر يوما فقط اي في 7111981 وكان اخر كتاب لهما نشر عام 1977 عنوانه(سيرة ذاتية مزدوجة).
وطبعا موجود في شبكة الانترنت معلومات تفصيلية عنهما،كما موجود موقع باسمه باللغة الانكليزية وتوجد معلومات ايضا باللغة العربية والموقع الخاص به هو: http://www.willdurant.com/home.html
كما توجد له ترجمة في موسوعة الويكيبيديا في: http://en.wikipedia.org/wiki/Will_Durant
كما توجد بعض كتبه في محرك البحث الشهير كوكل،ويمكن مراجعة ذلك.
يعتبر ويل ديورانت اشهر المؤرخين في امريكا،ومن اكثرهم حيادية ومنهجية في البحث كما تمتاز مؤلفاته بالتبسيط في العرض والتحليل لذلك كانت السبب في شهرتها وازدياد قيمتها العلمية.
كتاب(عبر التاريخ)هو في الحقيقة خلاصة ما توصلوا اليه من نتائج على موسوعتهم القيمة(قصة الحضارة) وهي ملاحظات ونتائج قيمة من مراجعتهم لتلك الموسوعة،وهو في غالبيته يتحدث عن علاقة التاريخ مع العلوم الاخرى والعبر الناتجة من تلك العلاقة،وقد تم اختصارها في 13 مبحث او حلقة مختصرة.
في الحلقة الاولى وتحت اسم ترددات:
يطرح المؤلف سلسة رائعة من التساؤلات الهامة والتي تواجهة المؤرخ عندما تصل الدراسات الى نهايتها،وهي في الحقيقة تحديات نفسية تواجهة الكثير من الباحثين في مختلف الميادين خاصة التي لا تعطي نتائج مادية ملموسة تعين صاحبها على مواجهة مشاكل الحياة وتعقيداتها المختلفة،فيكون اول تساؤل له:عن فائدة ما قام به من ابحاث؟وهل قصد اشباع ميل اثناء عمله في وصف ارتقاء الامم والافكار وسقوطها؟هل اطلع القارئ على طبيعة الانسان اكثر؟وهل حقق بتدوينه التاريخ اي تنوير عن الاحوال الحاضرة او توضيح في الاحكام والسياسات او اي تحذير من مفاجأت التغيير وعواقبه؟وهل اوجد توازنا بين احداث الماضي ومصير البشر والدول في المستقبل؟ويتسائل هل يعقل ان لا يكون للتاريخ اي معنى،او لايقدم لنا اي عبرة؟.هذه جملة من التساؤلات التي تعطي الشك للباحثين اثناء القيام بعملهم البحثي، وفي الحقيقة ان ول واريل ديورانت لم يجيبا بصورة تفصيلية عن تلك الاسئلة الهامة التي تم طرحها لكن هناك بعض الاجابات المختصرة في متن الكتاب عليها.وفي اعتراف هام من مؤرخ مشهور،يعترف بأن معرفة المؤرخين بأي امر سابق هي دائما غير كاملة وعلى الارجح غير دقيقة،يكتنفها تباين مختلف الروايات،وفي اعتراف اخر يعترف بعدم حيادية وموضوعية جميع المورخين،لان المؤرخ في رأيه يختصر دائما وسرعان مايميل الى فئة معينة من الاعمال،دون ان ننسى تأثير الانتماءات الوطنية والدينية.
في الحلقة الثانية:تحت اسم التاريخ والارض،يعرف تاريخ البشرية بأنه حقبة وجيزة على مدى الازمان،واول عبرة نستخلصها منه هي صغارة الانسان بالنسبة لعوامل الطبيعة والكون،وكثيرا ما يخضع التاريخ لتغيرات طبقات الارض،وكذلك تقلبات الطقس فهي في الغالب لا تتحكم بمصيرنا،بل تحد من تحركنا لان براعة الانسان كثيرا ما تغلبت على عناصر الطبيعة.وفي رأي المؤلفان ان الجغرافيا هي رحم التاريخ وأم الانسانية التي ربتها ونظمت حياة بنيها،فالانهار والبحيرات والواحات اجتذبت السكان الى شواطئها وضفافها،لان المياه حياة كل كائن حي وكل مدنية،ولو تطلعنا الى خارطة العالم لوجدنا الحضارات من اقصى الشرق الى اقصى الغرب تكونت في أنماط واماكن متشابهة جغرافيا.وفي الحلقة الثالثة: علم الاحياء والتاريخ،يذكر المؤلفان بأن التاريخ هو قسم من علم الاحياء،لان حياة الانسان رهينة تقلبات العناصر البرية والبحرية،وهكذا نجد ان هيمنة نواميس علم الاحياء هي من اهم العبر الاساسية التي يلقيها علينا التاريخ واننا عرضة لشتى التبدلات بصفتها من حتميات التطور،واننا اسرى نضالنا من اجل البقاء على قيد الحياة بأفضل حالة ووسيلة ممكنة.
وقد اقر المؤلفان بوجود عدة عبر للتاريخ من ناحية علم الاحياء،الاولى :هي ان الحياة منافسة وان المزاحمة ليست قوام التجارة وحدها،وانها سلمية في حالة وفرة الاغذية وعنيفة ضارية عندما تفتقر الافواه الى الطعام،فيحذو الناس حذو الحيوانات التي يفترس بعضها بعضا في تنازع البقاء بحكم ناموس الطبيعة،بينما التعاون المثمر يزيد المجتمع نموا وازدهارا. ثانيا: ضرورة وجود النخبة في الحياة،ففي التزاحم على الاغذية او الصداقة او النفوذ،يتوفق البعض،والبعض الاخر يخفق،لان في الناس من هم اوفر استعدادا واغزر مواهب من سواهم في نضالهم لاجل البقاء والنجاح. وما دامت طبيعة البشر ونعني هنا واقعهم الاليم وشتى اساليبهم الغريزية لم تستوعب اعلان حقوق الانسان،علينا ان ندرك اننا ولدنا جميعنا غير احرار وغير متساوين ،بل اسرى تراثنا البدني والنفسي،وعاداتنا وتقاليدنا ونظام بيئتنا.والاختلاف بيننا كامن في الصحة والقوة والمواهب والصفات والاخلاق.فالفروقات اذا طبيعية موروثة،وهي قابلة الازدياد كلما تفاقمت تعقيدات المدنية،والنمو الاقتصادي يضاعف رفعة الاختصاصيين ويعلي شأنهم بين الماهرين ويجعل الناس غير متعادلين في ميزان الكفاءات ضمن نطاق بيئتهم.
عدم المساواة والحرية خصمان لدودان دائمان،عندما ينتصر الواحد ينهزم الاخر،فلندع المتنافسين احرارا وبذلك تتضاعف الفروقات بينهم بأستمرار،ولا يرغب بالمساواة الا من تدنت مقدرته عن المعدل في المهارة الاقتصادية،وعلم الاحياء لا يقر بمثالية المساواة في المواهب،ولا يسوغ لاي فيلسوف ان يحلم بغير تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير فرص النجاح والثقافة للجميع.وتزداد المزاحمة قسوة كلما انصبت الجهود على ازالة الميزات والمسافات وهذا يقوي المجابهة كما يحصل ذلك بين الدول. ثالثا:هو وجوب استمرار الحياة بالتناسل،اذ ليس للطبيعة من حق في مساندة الاجهزة او الانواع او الفرقاء الذين لا يسعون الى تكاثر اعدادهم،ولا فرق للطبيعة بين التمدن والبربرية،ولا اهمية في نظرها لكثرة الولادات التي تنبثق عنها عادة جهالة هزيلة العلم،ولا لقلة الولادات التي تؤدي الى حضارة عالية الثقافة،ان ما ترمي اليه الطبيعة المقصود هنا هو التوالد والتزاحم وتوفير النخبة في تنازع البقاء،ولو فاق عدد مواليد البشر كمية المواد الغذائية لعالجت الطبيعة هذه المعضلة كي يستقيم الميزان بعوامل ثلاثة:المجاعات والاوبئة والحروب،ولقد شرح توماس مالتوس في كتابه المنشور عام 1798 ، قائلا:لولا التوازن بين عدد الولادات البشرية مرحليا وعدد الوفيات،لفاق تكاثر الافواه،كمية المنتوجات الغذائيةمهما كانت هذه وفيرة.ونصح بالتقليل من الانجاب بالامتناع عن الجماع المؤدي اليه. لكن تقدم الزراعة وتقنية منع الحمل خلال القرن التاسع عشر دحضا كلاهما اقوال مالتوس،وقد ازداد انتاج الغذاء في الدول المتقدمة وبذلك ابعد شبح المجاعة في العالم،ولكن لو تمكن مالتوس لاجاب طبعا بأن هذا الحل اجل الكارثة ولم يعالجها نهائيا،لان خصب الارض له حدود،والولادات سوف تتفوق على الوفيات،وحالت العناية الصحية دون ازدياد النخبة،اذ امنت سلامة غير الجديرين وصانت حياتهم،وتفنيد ذلك ان تقدم الصناعة وتنظيم المدن وتعليم الناشئة وتحديد النسل هو الرد الوافي على زعمه. ما من شك ان وسائل تحديد النسل افسدت الميزات الوراثية،اي انها حطت من المستوى الذهني في الامة التي لجأت اليها،لان هذه الوسائل استخدمتها على الارجح فئة الاذكياء اكثر من البسطاء،ربما كانت الحيوية الطبيعية من الوجهة البيولوجية عند الولادة لدى المخلوق العادي اوفر فعالية منها لدى المثقف الكريم الاصل،لذا اعتقد نيتشه ان افضل دم في المانيا يسري في عروق الفلاحين،وان الفلاسفة ما كانوا يوما انسب الناس لانجاب نسل متفوق.
ويؤدي تكاثر الولادات وقلتها لدى اخرين الى تفوق العنصر المتكاثر وسيطرته بالتدريج على شؤون السلطة،ويعرض المؤلفان مثالا على ازدياد نفوذ الكاثوليكية في امريكا،وكذلك في شعوب اخرى.
التعليقات (0)