نماذج من قديم الكاريكاتير السودانس
حلقات رمضانية خاصة
حلقة (3)
كاريكاتير عز الدين
(1964 - 1969م)
- يا ولية خلي بالك من الأولاد ... أصلو الحكومة استضافتني سنة
بعد نجاح ثورة اكتوبر1964م تعاقدت القوى الوطنية والحزبية وتحت ضغط من نقابات العمال آنذاك على ضرورة تطبيق شعار (التطهير) الذي كان يرفعه المتظاهرون ويهنفون به خلال مسيراتهم الصاخبة تلك الأيام إلى أن سقط نظام حكم الفريق ابراهيم عبود العسكري الديكتاتوري ..... ويعنى بالتطهير هنا ضرورة إبعاد ثم تقديم كل من تورطوا في الفساد المالي والإداري وسرقة المال العام من كبار المسئولين والقيادات الوسطى في الخدمة المدنية على نحو خاص ....... وقد كان حي الامتداد (إمتداد الدرجة الأولى) أو مايطلق عليه حي العمارات الارستقراطي في الخرطوم آنذاك هو رمز هذا الفساد المشار إليه تماما كما كان (قصر فرساي) هو رمز الفساد المالي للطبقة الحاكمة و (سجن الباستيل) هو رمز الظلم خلال الثورة الفرنسية ...... جرى في البداية تقديم الكثيرين إلى المحاكم وحكم على البعض بمدد مختلفة .... ثم رويدا رويدا خفت حدة المطالب والضغوط الجماهيرية ونسي الناس كالعادة (في بلدان العالم الثالث) أمر هؤلاء الفاسدين وانشغلوا بحياتهم وكذلك انشغلت الأحزاب السياسية والنقابات العمالية بخلافاتها ومطامعها ومؤامراتها فأطلق سراح العديد ممن حكم عليهم بالسجن وتم إلغاء محاكمات الآخرين من باب (عفا الله عما سلف) ....... وهكذا بات لكل نظام سياسي في السودان لصوصه وفاسديه ومفسديه ورموزه البشرية والسكنية وحيث جاء بعد ذلك نظام مايو بقيادة جعفر نميري فجمع بين الديكتاتورية العسكرية والشمولية وكان الفساد خلاله على أشده وكان رمز ذلك الفساد هو حي الرياض الكائن جنوب الخرطوم . وقد أطلق عليها الشعب آنذاك ساخرا عبارة (السرقوا بانوا) .... أي أن الفاسدين الذين استغلوا مناصبهم وسرقوا المال العام أصبحوا معروفين من خلال هذه القصور والفلل التي شيدوها في هذا الحي الأرستقراطي بمقايسس العالم الثالث والعاصمة الخرطوم آنذاك.
أقول ليك أمشي اشتري لي ثوب تمشي ما تجي إلا بعد خمسة سنين
واضح ان هذا المسئول غير محظوظ لأنه مد يده وسرق (لإرضاء زوجته) من المال العام خلال فترة الديمقراطية الثانية (1964 - 1969م) بعد نجاح ثورة أكتوبر فكان أن تم القبض عليه وسجنه خمسة سنوات .... ويكاد يتفق معظم علماء الدين الإسلامي والاجتماع العلماني على أن الرجل وفي الأغلب الأعم لا يسرق من المال العام أو يختلس إلا لإرضاء زوجته وذلك من خلال التجربة وسجلات المحاكم .. ولأجل ذلك كان التوجيه النبوي الشريف عند قوله (فأظفر بذات الدين تربت يداك) .. والذي فهم من هذا التوجيه الكريم أن الزوجة الصالحة لا ترهق زوجها بما لايطيق من منصرفات ومشتروات ومطالب فلكية ومظاهر بذخية فارغة وبالتالي يكون عفيفا نظيف اليد فلا يمد يده للحرام بشتى انواعه لأن راتبه الشهري ودخله عموما يكفي أسرته في هذه الحالة ويبارك الله عز وجل في الحلال دائما.
- بـس شلت معاي الشغل البيت .... أصلي صــراف
هذا الرجل السجين يقول لزميله في السجن أنه أخذ أموال الحكومة التي كانت في عهدته (بوصفه صراف) .. أو بمعنى أوضح أنه اختلسها فتم القبض عليه وإيداعه السجن ...... يمثل هذا الكاريكاتير جزئية من الإطار العام الذي ساد بداية عهد الديمقراطية الثانية (1964 - 1969م) .... وهو يتسق مع الإشارة إلى جدية الدولة في محاربة الفساد ....
- التقى جيل البطولات بجيل التضحيات
الشرطة تلقي القبض منتصف الليل على لصوص متلبسين بالجرم المشهود .......
هذا الرسم من بنات عام 1965م على أقصى تقدير ... فعز الدين هنا يقتبس بيتا من قصيدة (أصبح الصبح) من كلمات الشاعر محمد الفبتوري التي غناها المطرب العنفوان (محمد وردي) وقد أفسح تاريخ ثورة اكتوبر الشعبية وبالتحديد ثورة 21 أكتوبر 1964م التي أزالت حكم العسكر الديكتاتوري وأعادت الديمقراطية إلى السلطة ... أفسح تاريخ ثورة أكتوبر لهذه القصيدة الباب الأوسع لأن تحتل مقام الصدارة من بين كافة القصائد الوطنية الأخرى التي جرى كتابتها لتمجيد تلك الثورة ..فقد كانت هذه القصيدة بمثابة البيان الشعبي الثوري الديمقراطي رقم (1) الذي أعلن نجاح ثورة أكتوبر وسقوط نظام الفريق إبراهيم عبود.
كيف .....؟
كانت المظاهرات والمسيرات تتواصل هادرة طوال اسبوع كامل في كافة مدن السودان بعد استشهاد الطالب أحمد القرشي برصاص العسكر أمام بوابة مدخل جامعة الخرطوم ..... ثم استشهاد أكثر من 13 آخرين من الطلاب وحدهم في العاصمة ومدن أخرى رئيسية.
حاول العسكر بكل ما أوتي من حديد ورصاص غاشم أن يطفي لهيب الغضب الشعبي الغامر وتفريق أمواجه الهادرة التي نزلت إلى الشارع في تحدي صارخ للبارود ورشاش الدبابات والعربات المصفحة .....
ثم بدأت مرحلة الإضراب الجزئي وتلتها بعد ذلك مرحلة عمت فيها الاضرابات كافة المرافق في الخدمة ..... وفي الأسبوع الثالث والأخير اجتمعت كافة القوى العاملة والسياسية وتوصلت إلى قرار بإعلان (العصيان المدني) فشلت حركة البلاد ومضى اليوم الأول ثم الثاني والإذاعة السودانية التي يسيطر عليها العسكر تبث برامجها العادية كأن شيئا لم يكن .....
وفي صبيحة اليوم الثالث من بداية تنفيذ العصيان المدني استيقظ الشعب باكرا على صوت المطرب محمد وردي وهو يشدو بكلمات هذه الأغنية الوطنية ليعلن بالفعل نجاح ثورة الشعب وتخرج الجماهير تملأ الشوارع والساحات في العاصمة وكل مدن السودان تهدر بالهتاف وتعانق بعضها احتفالا بالنصر المؤزر .......
وكان الكوبليه الأول من هذا النشيد الوطني يقول:
أصبح الصبح
ولا السجن ولا السجان باقي
واذا الفجر جناحان يرفان عليك
واذا الحزن الذي كحل هاتيك المآقي
والذي شد وثاقا لوثاق
والذي بعثرنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب يابلادي
ويحكي الشاعر محمد الفيتوري عن هذه القصيدة الوطنية فيقول:
- كان الفنان محمد وردي أشجعنا وكأنه قد تمرس على سجون وعسف العسكر ..... جاءني مساء إلى منزلي وأصر على أن يأخذ مني تكملة هذه القصيدة وذكر لي أنه قد فرغ من تلحين الكوبليه الأول فلم أعطه المتبقي من أبياتها إلا بعد أن أقسم لي أنه لن يشدو بها إلا بعد مغادرتي للسودان ...... كنا جميعا خائفون ونرتعش من بطش العسكر ونظامه البوليسي في زمان لم يكن يعمه سوى الظلام الدامس فلا وسائل اتصال أو انترنت وفضائيات وكاميرات محمولة تفضح الأنظمة الديكتاتورية وممارساتها في مواجهة شعبها الأعزل .....
يقول محمد الفيتوري ... وحين كنت في صالة المغادرة أستعد لركوب طائرة الخطوط الأثيوبية المتجهة للقاهرة إذا بصوت محمد وردي من خلال الراديو الخاص بمقهى الصالة يصدح بهذا النشيد الوطني ويهلل الجميع ويهتفون للسودان وانتصار الثورة ....
ويختم الشاعر العربي الكبير بقوله .. لا أدري كيف استطاع المطرب محمد وردي شق صفوف العسكر التي كانت في تلك الأيام تحاصر مبنى الإذاعة ولكن الذي يشهد له التاريخ أنني وحين كنت أعتلي سلم الطائرة كان وردي لا يزال يصدح ببزوغ فجر جديد على الأمة السودانية .
(بوشكين العرب) شاعر الزنوجة السوداني محمد الفيتوري
قصيدة أصبح الصبح
للشاعر: محمد الفيتوري
أصبح الصبح
ولا السجن ولا السجان باقي
واذا الفجر جناحان يرفان عليك
واذا الحزن الذي كحل هاتيك المآقي
والذي شد وثاقا لوثاق
والذي بعثرنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب يابلادي
//////////////////////////////////
أصبح الصبح
وها نحن مع النور التقينا
التقى جيل البطولات
بجيل التضحيات
التقى كل شهيد
قهر الظلم ومات
بشهيد لم يزل يبذر في الأرض
بذور الذكريات
أبدا ما هنت يا سوداننا يوما علينا
بالذي اصبح شمسا في يدينا
وغناءاً عاطراً تعدو به الريح
فتختال الهوينى
من كل قلب يا بلادي
فرحة نابعة من كل قلب يابلادي
تشييع جنازة الشهيد أحمد القرشي - الذي قتل برصاص العسكر في 21/10/1964 - وفي تحدي سافر خرجت كل فعاليات الشعب آنذاك لوداعه حتى ممرضات المستشفي الذي لفظ فيه انفاسه الأخيرة كن في مقدمة الصفوف وشقيقه الأصغر بالجلباب والعمامة يمين الصورة وسط زميلين من زملاء الشهيد في جامعة الخرطوم.
الرئيس الراحل الفريق إبراهيم عبود
المطرب محمد وردي في الوسط يغني وعمر البشير يردد معه ..... ولايعرف على وجه التحديد ماذا كان محمد وردي يغني في تلك اللحظات ؟ .. "عذبني .. وتفنن" .. أم "من طواقي الجبهة"؟؟
التعليقات (0)