إن المتابع لعلاقة جنوب السودان بشماله يجدها علاقة تضاد وتنافر كاملة الدسم يسودها التوتر الدائم والشحن السالب ، ففي العام 1955 م . وقبل الاستقلال وإنتقال السلطة إلى السودانيين ، وترتيب الاوضاع الداخلية ، ووضع القوانين والتشريعات التي تحدد شكل العلاقة بين الشمال والجنوب ، وقبل الجلوس حول مائدة تفاوض وتشاور لاختيار شكل الحكم الذي يناسب الاخوة في الجنوب ، إندلع التمرد الاول المعروف بتمرد حامية توريت ، والذي راح ضحيته العديد من أبناء الشمال من تجار ومعلمين وموظفين مدنيين وضباط شرطة يعيشون بالجنوب ، تم الهجوم عليهم بخطة منظمة ومرتبة ، أُعدت سلفاً للقضاء على المواطنين الآمنين - إلا من مكر الله سبحانه وتعالى - وتم اغتيال وإبادة أسر بأكملها غلية وغدراً في رابعة النهار لاذنب جنوه إلا لتواجدهم وقتها في فوهة بركان الكراهية السوداء والتعصب الاعمى .
أضحت توريت رمزاً للحركات المتمردة والعصيان على أي سلطة شمالية حاكمة أي كان توجهها ، ليس مهماً إن كانت سلطة ديمقراطية شرعية منتخبة ، أو نظاماً عسكرياً شمولياً ، لا يهمهم إن كانت يسارية الهوى ، أو يمنية التوجه ، إسلامية العقيدة أو علمانية الايديولوجيا ، المهم أنها في الضمير الجمعي للأخوة في الجنوب ونظرهم نظم حكم شمالية استعمارية مستبدة ، لا بد من التمرد والقضاء عليها .
إن مشاعر البغضاء والكراهية ، باتت جلية وواضحة بصورة لا تخطئها العين منذ ذلك الوقت ، وفشلت كافة المحاولات في اقناع الجنوبيين لإقامة أي شكل من اشكال الوحدة والتعايش ولو في حدوده الدنيا ، إن الضغن المبثوث في صدور قيادات حركات التمرد ليس موجهاً ضد التواجد الشمالي في الجنوب فحسب بل ضد أي علاقة قائمة بين الشمال والجنوب وتلك المستقبلية التي سيفضى إليها خروج المستمعر البريطاني من السودان.
إن تمرد توريت الاول وإن كان محصوراً في نطاق ضيق إلا أنه وضع منفيستو واجندة متقدمة لجميع للحركات التي خرجت من رحم توريت في أوقات لاحقة ، أن الهم الأول والشغل الشاغل للحركات المتمردة من لدن (أنانيا واحد) وحتى الجيش الشعبي هو المناداة بفصل جنوب السودان عن شماله والمطالبة بإلغاء أي وجود شمالي بالجنوب وذلك أضعف الايمان عندهم من اجل إيقاف المد الإسلامي وزحف الحضارة العربية ، ليبقى الجنوب حاجزاً وعائقاً في وجه أي توغل وتغلغل للحضارة والثقافة الاسلامية والعربية تجاه القارة الافريقية.
إن طبيعة الصراع الشمالي - الجنوبي هو في الاصل صراع حضاري ، وثقافي ، وديني ، وإثني، صراع قائم من أجل الوصول إلى تعريف ماهية هوية الانسان السوداني ، وليس كما يتوهم البعض من أنه صراع سياسي برز للوجود جراء الفشل الذي ادمنته النخب السياسية التي تعاقبت على حكم السودان والتي لم تفلح حسب قولهم في تشخيص الداء وطبيعة الصراع القائم ، وبالتالي عدم قدرتها على ايجاد العلاج والمخرج من هذه الازمة بإختيار نظام الحكم المناسب الذي يرضي الجنوبيين ، مع إيجاد معادلة عادلة لتقسيم الثروة والسلطة الامر الذي كان سيؤدي بالضرورة لإنهاء الصراع وايقاف الاقتتال منذ بداياته ، ولئن أخذ هذا الصراع البعد السياسي إلى جانبه في جميع مراحله ، إلا انه يجب أن لا يغيب عن وعينا أن الاصل في هذا الصراع هو العامل الحضاري والثقافي وليس السياسي الاقتصادي.
وإن كان هناك من يشك في هذا ، فلماذا إذاً لم تضع اتفاقيتي السلام المبرمتين مع الجنوب حداً فاصلاً لهذا النزاع ففي العام 1973 م توصلت السلطة المركزية الحاكمة في السودان لاتفاق سلام مع حركة التمرد المعروفة (بأنانيا) يرضي طموحاتهم ويلبي أشواقهم كما وضعت الاتفاقية حداً لحرب استمرت لاكثر من ربع قرن من الزمان ، كان المستفيد منها في المقام الاول الانسان الجنوبي لان مسرح العمليات كان يدور في اراضي الجنوب كما منحت الاتفاقية الاخوة الجنوبيين الحكم الذاتي للأقليم وإختيار نظام الحكم الذي يتناسب مع واعرافهم وتقاليدهم ومعتقداتهم ، كما تم تخصيص قدراً كبيراً من المناصب العليا للمشاركة في الحكم بالشمال ، وتم تخصيص ميزانيات ضخمة لتنمية وإعمار الجنوب ، حيث تم إنشاء العديد من مشاريع البنى التحتية وتنمية المجتمع ، لقد شهد الجنوب في تلك الفترة نمواً وتطوراًً غير مسبوقين . إذاً لماذا انهارت الاتفاقية ؟ ولماذا عادت الحرب بعد عشر سنوات فقط من توقيع الاتفاقية وهي بشهادة الجنوبيين المعتدلين والمنصفين والمراقبين للوضع في السودان تعد أنموذجأً لنزع فتيل النزاع والصراع القائم بين الشمال والجنوب .
إن تقسيم جنوب السودان إلى ثلاثة أقاليم بدلاً عن اقليم واحد ليس مبرراً لؤاد والغاء إتفاقية (أديس أبابا) بحجة أن نظام الحكم القائم في الشمال قد تنكر لها وغير وبدل. إن مبدأ تطوير نظام الحكم بالجنوب ، والأخذ بالنظام اللامركزي داخل حدود الاقليم الذي يمثل ثلث مساحة السودان وتوسيع قاعدة المشاركة ، وإعطاء كل ولاية جنوبية سلطات تنفيذية وتشريعية لاشراك أكبر قدر من الجنوبيين في حكم الجنوب تماشياً مع نصوص وروح الاتفاقية لايعد تنكراً للإتفاقية من قبل الشمال ولاتبديلاً في بنودها، بقدر ماهو تطوير لنظام الحكم بالجنوب من اجل توسيع قاعدة المشاركة في الحكم ومحاولة جادة لاعادة توزيع الثروة والسلطة .
وفي العام 2005 شهد العالم أجمعه توقيع اتفاق السلام (بنيفاشا) بين الحركة الشعبية ونظام الحكم الحالي فهل ضنَّ وبخل أهل الشمال في هذه الاتفاقية على الجنوب بشئ من اجل تحقيق الوحدة والاستقرار والعيش بسلام وايقاف زهق الارواح من الطرفين ، إن ما أُعطى للأخوة للجنوبيين من خلال هذه الاتفاقية يُعد كسباًً عظيماً للسودان عموماً والجنوب خاصة، ولو أن الحركة الشعبية أرادت تحقيق أحلام وطموحات أهل الجنوب في التنمية والامن والسلام والاستقرار لما وجدت أنسب من اتفاقية نيفاشا ، أن حق تقرير المصير الذي تضمنته الاتفاقية لايعني نفض الشماليين لايديهم عن إخوانهم الجنوبيين بقدر ما هو اجتهاد للوصول لوحدة اختيارية طوعية نابعة من إرادة أهل الجنوب. إن المراقب لأفعال وسلوكيات الحركة الشعبية وتعاطيها مع شريكها في الحكم منذ العام 2005 م. وحتى الآن ليصاب بالدهشة والحيرة والارتباك ، فهل كانت اتفاقية نيفاشا خطوة تكتيكية مرحلية أُتخذت من قبل الحركة الشعبية لتكون بمثابة (حصان طروادة) الذي قصد به اختراق النظام لاسقاطه من الداخل ، وإعادة هيكلة وبناء السودان وفقاً لنظم سياسية واجتماعية وثقافية تتفق مع اجندة الحركة الشعبية وبرنامجها الاستئصالي وبما يحقق مصالحها ومصالح من يقفون ورائها بعد أن فشلت من خلال العمل العسكري فآثرت المكر والمداهنة والخداع بتوقيع اتفاقية السلام.
لو أن صراع الحركة العنيف مع شريكها كان من أجل الحصول على مكتسبات سياسية وإقتصادية وتنموية أعلى من مما سمحت به الاتفاقية تحقيقاً لطموح أهل الجنوب وحقهم المشروع في الاستقرار والتنمية والمشاركة في الحكم لما أصبنا بالدهشة ، و لكان ذلك الصراع مبرراً لانه يظل صراعاً من أجل الحصول على النصيب الاكبر من الكعكة. غير أن الحركة لم تعني الوصول إلى السلام بعينه ولم تعمل يوماً من أجله ، بل كانت تهدف إلى كسب الوقت والتقاط أنفاسها اللاهثة بعد عجزها عن إحداث اختراق كبير بالشمال يحسب لها . لقد أرادت الحركة إيهام الرأي العام الداخلي وخداع الرأي العالمي المنادي بوضع حد لهذه الحرب التي راح ضحيتها اكثر من مليوني شخص وشردت أكثر من ثلاثة ملايين من أهل الجنوب وقضت على الاخضر واليابس واوصلت البلاد إلى فقر مدقع ووضع معيشي مزري ، لقد قصدت الحركة بقبولها لاتفاق السلام على إيهام ابناء الشمال بأن السلام يمثل لها خياراً استراتجياً ، بينما كان همها إنشاء قواعد واحلاف بالشمال من المتعاطفين معها والمناوئين لشريكها ومشروعه الحضاري، كما نجحت الحركة بتوقيعها على اتفاقية السلام باقناع الدول العربية والاسلامية وإيصال رسالة مفادها أن الحركة لا تعادي الوجود العربي الاسلامي بالسودان وأن الحرب ليست حرباً دينية كما في اذهان الكثيريين وإنما هي حرب من اجل انتزاع حقوق لا يعترف بها الطرف الآخر.
والأدهي من كل هذا هو تغيير الحركة الشعبية لاليات الصراع وأدواته المستخدمة ضد الشمال واعطاء الحرب شكلاً مموهاًعن طريق استخدام آليات وأدوات السلطة وتجييرها لصالح اجندتها ومشروعها الذي ما انفك يسعى حثيثاً لتدمير الهوية العربية الاسلامية وانتزاع السودان من جذوره الحضارية وإقامة دولة علمانية بديلاً عن المشروع الاسلامي باستخدام اجهزة الاعلام وأدوات الاتصال الجماهيري ، سواء المملوكة للدولة أو تلك التي قامت الحركة بإنشائها بعد اتفاقية السلام للتبشير باطروحاتها وبث برنامجها الاعلامي الذي يدعم وتوجه الحركة وخطها الايديولوجي ، وبث الدعاية المضادة واستغلال الحريات المتاحة لها في عقد مؤتمراتها وندواتها التي تعمل من خلالها على إحراج النظام والتحريض ضده . لقد سعت الحركة لانشاء مليشيات مسلحة تحت ستار تكوين حزب سياسي بالشمال تتبع لها فكرياً وعقائدياً لاستخدامها في إحداث الفوضى وزعزعة الامن والاستقرار ، ليس هذا فقط فقد قامت الحركة ومن خلال كوادرها التي تبؤأت مناصب عليا بالدولة باستغلال منابر المؤتمرات الاقليمية والدولية لاعادة بناء قدراتها السياسية والعسكرية وفتح مكاتب تمثيلية لها خصوصاً مع تلك الدول التي تعادي السودان وتسعى لطمس هويته الثقافية ناهيك عن شحنات الاسلحة التي كانت تصل إلى الجنوب تحت بصر وسمع أهل السودان . من كل هذا السرد يتضح أن السلام لم يكن الخيار الاصيل الذي قامت من اجله الحركة بالتوقيع على اتفاقية السلام . إن لم يكن هذا صحيحاً وهو محض افتراء وأوهام وخيالات صادرة من عقلية مريضة مصابة بالتعصب والشفونية فلماذا تحتضن الحركة الشعبية جميع الحركات الدرافورية المتمردة بالجنوب وتوفر لها كل سبل الدعم الامني والسياسي والاعلامي وتبذلمن اجلها كل انواع الدعم المادي والمعنوي .
أن إجراء الاستفتاء ليس غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة لتحديد حظوظ الوحدة والانفصال ، ولئن تنازلت الحركة الشعبية عن مشروعها وحلمها الذي قاتلت من اجله عشرين عاماً (السودان الجديد) واستعاضت عنه بإقامة دولتها في الجنوب فلابد من حل القضايا العالقة بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني قبل إجراء الاستفتاء وأن استدعى الامر تاجيل الاستفتاء إلى حين معالجة هذه القضايا ، ومن أهم هذه القضايا قضية ترسيم الحدود لمعرفة خارطة جنوب السودان وحدوده ، وترسيم حدود منطقة أبيي لمعرفة أين هي المنطقة التابعة للجنوب ، والديون الخارجية وتحديد حصة الجنوب من هذه الديون . وقضية المسلمين من ابناء الجنوب ، وتحديد حقوقهم والضمانات التي يجب أن تأخذ لهم ، فهل نتخلى عنهم ونتركهم للمصير المشئوم الذي ينتظرهم على يد الجيش الشعبي (لتقويض السودان).
أن أسوا السيناريوهات التي يمكن أن تقع جراء إجراء الاستفتاء والتي يجب عدم السماح بحدوثها ، هو إجراء الاستفتاء في ظل الظروف والمعطيات الحالية إن السماح بذلك يُعد ضرباً من التهور والجنون السياسي والمخاطرة بمستقبل ومصير السودان وامنه واستقراره ووحدة اراضية ومكتسبات شعبه التي تحققت بالعرق والدماء ، إن من اوجب الواجبات الآن تسوية الملفات العالقة قبل اجراء الاستفتاء وإلا فإننا كمن يمشي في حقل من الالغام والقنابل الموقوتة سيؤدي انفجارها إلى نتائج كارثية.
لوحات نضرة : أستعان الخلفاء العباسيين (بالبرامكة) لتنظيم ادارة الخلافة وترتيب الحكم فأظهر البرامكة ذكاءً وقدرة يحسدون عليهما ، وقدموا للإسلام والدولة العباسية خدمات
لا ينكرها أحد ، إلا أنهم تأمروا لقلب نظام الخلافة الاسلامي-عربي إلى اسلامي-فارسي تحت غطاء الدعوة لخلافة العلويين ، فاستأصل هارون الرشيد شأفتهم ومزقهم شر ممزق وصاروا أحاديثَ ، وأثراً بعد عين . فما هو مصير برامكة السودان الذين يتأمرون على الاسلام نفسه .
الخليفة (المعتصم بالله) وهو جالس على كرسي الخلافة وبين يديه وزراء الدولة وقادة الجند ترده الانباء بإغارة الروم على تخوم الدولة الاسلامية وأسر المسلمين ومن بين الأسرى امرأة هاشمية كانت تصرخ وامعتصماه ... وامعتصماه ، فيهب واقفاً ويقول : لبيك ... لبيك ، ثم يصرخ النفير .. النفير فيسير جيشاً قيل أنه من مأئة الف مجاهد لتأديب الروم وتم على يد هذا الجيش فتح عمورية . فقال الشاعر أبو تمام في ذلك ..
السيف أصدقُ أنباءً من الكتبِ ... في حده الحد بين الجد واللعب
قبيل عيد الاضحى المبارك تم تهجير قسري لمواطنين يعيشون فيما يعرف بخط التماس بين الشمال والجنوب من ديارهم على يد قوات الحركة الشعبية التحية لهؤلاء ولسان حالهم يقول :
عيدٌ بأي حال عُدت يا عيد ... بما مضى أم لامر فيك تجديد
أن أرض الجنوب وبإقرار قادتنا وأُمرائنا ستكون أول أراضي تابعة لدولة اسلامية يتم فقدانها بعد ضياع الاندلس ، أجيال المسلمين المتتابعة تلعن عقب كل صلاة من تسببوا بضياع الاندلس ، فماذا ستقول عنكم الاجيال القادمة .
أخيـــراً ...
تحية خاصة للرئيس اليمني على عبد الله صالح موحد اليمن السعيد وهو يقف شامخاً رغم كل المؤمرات والدسائس التي تحاك ضد وحدة اليمن . هل تذكرون كيف تم توحيد اليمن ؟؟.
التعليقات (0)